الدكتاتورية من أفشل أنظمة الحكم ليس لأن الدكتاتور شخص فاشل فهو بالتأكيد ليس كذلك؛ فقد استطاع النجاح بالوصول إلى سدة حكم مطلق وحافظ عليه بقوة بوليسية ومليشيات مسلحة ومرتزقة تنفذ سياسته وتقمع معارضيه بقوة؛ لكن الفشل الذي نتحدث عنه هو فشل النظام وليس الفرد، لأن الحكم الاستبدادي هو راعي لمصلحة خاصة هي مصلحة الطبقة الحاكمة سواءً كانت تلك الطبقة حزبية أو إثنية أو طائفية وقومية أو اجتماعية أو حتى خليط من كل أولئك.

وتبقى تلك الطبقة شريحة الأقلية أمام طبقات المجتمع العريضة التي هي حتماً بلا راعي أمين لمصالحها في ظل النظام الدكتاتوري البوليسي الذي يتحول مع الوقت لنظام خاص لطبقته دون باقي الشعب، وليس بمقدور نظام كهذا التخطيط إلا لمصلحة تلك الطبقة وبقائها في الحكم ومع مزيد من الوقت يتصلب التفكير الاستراتيجي لذلك النظام فلا يملك إلا أن يعيد نفسه ويكرر نفس تجاربه حتى لو كانت فاشلة في خضم تلك المنظومة ومع ترسخها في الحكم.

ومع مرور الوقت يفقد النظام الدكتاتوري شيء فشيئا الشعور بباقي طبقات الشعب من غير طبقته الحاكمة، ويتصرف على أساس أن تلك الأغلبية الصامتة هي فعلياً أغلبية ميتة على الأقل في التأثير السياسي عليه وهذه المرحلة عادة تكون الشيخوخة وهي آخر سنوات في عمره لأنه وببساطة إنكار الموجود لا ينفي وجوده بقدر ما يستفزه لفرض وجوده وبقدر الانكار يكون الفرض؛ وهذا الفرض قد يأخذ أشكالاً عدة ولكنه في المحصلة يعرف في علم السياسة بالثورة الشعبية وهي عملياً ردة فعل إنسانية طبيعية ومنطقية لما يتعرض إليه الشعب من ظلم واضطهاد من دكتاتوريه حكامه.

إن إصلاح الأنظمة الدكتاتورية لا يأتي من داخلها قط لأن أي محاولة إصلاح حقيقية تعني إنهيار المنظومة الدكتاتورية والدولة معاً بأسرع مما هو متوقع؛ وأمامنا في التاريخ الحديث تجربة البروستريكا السوفيتية والتي ما أن بدأت حتى انهارت المنظومة السوفيتية والدولة كذلك في سنوات معدودة لأن الاصلاح كان من داخل المنظومة فقط فلم يشرك الحزب الشيوعي السوفيتي أي أطراف من خارجه في صياغة البروستريكا ربما لانعدام وجود تلك الأطراف بشكل حقيقي في حينه.

ولكنه في المقابل هناك تجربة بولندا في حينه وتجربة جنوب أفريقيا لاحقاً أديتا إلى انهيار النظام الشيوعي البولندي وانهيار نظام الأبرتهايد، لكن لم تنهار الدولة البولندية وكذلك لم تنهار جنوب أفريقيا على العكس لأن الاصلاح شارك فيه الآخر والذي تمثل في نقابة التضامن بزعامة( ليخ فاولسا) في بولندا؛ والمؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا وبغض النظر عن قدر الحكمة والفكر الاستراتيجي والوطنية لكلا من فاولسا ومانديلا في قدرتهم وبراجماتيتهم في العبور ببلادهما من المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية والاستقرار؛ إلا أن بيت القصيد يكمن في كلا الحالتين البولندية وجنوب أفريقيا في أن الاصلاح لم يدره الحزب الشيوعي البولندي بزعامة(فويتشخ ياروزلسكي) ولا نظام الأبرتهايد بزعامة (فردريك ويليم دي كلرك) بمفردهما بل أشركا المعارضة لهما في عملية الاصلاح، وذلك ربما لحكمة الرجلين أو لحكمة إلاهية منعت أن يؤل مصير بولندا وجنوب أفريقيا لمصير الاتحاد السوفيتي.

إن أي دكتاتورية تدعي أن بمقدورها الاصلاح والتقدم هي في الحقيقة لا تخدع شعبها بقدر ما تخدع نفسها فهي تسير بعكس اتجاه الزمن لأنها ببساطة تدور في نفس فلكها الذي لا مكان فيه للآخر وستكرر نفسها لأنها لن ترى في فلكها غير نفسها بتلك النرجسية الساذجة؛ وحري بتلك الدكتاتوريات خاصة تلك التي تمر بأزمات سياسية واقتصادية أن تدرك أن المشكلة الحقيقية هي وجودها، وأن نتيجة وهدف أي اصلاح دون إشراك كافة القوى الأخرى في إدارتها للحكم ومؤسساتها المختلفة هو نفس نتيجة وهدف الثورة وهو ببساطة نهايتها.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
Political2009@outlook.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق