تدور العلاقات الروسية الامريكية في مساحة واسعة من التوتر، وحلقة صغيرة من التعاون الذي يرافقه شك في النوايا بين الطرفين.. يعيش الجانب الروسي مرحلة استعادة الامجاد الامبراطورية القيصرية باحلام بوتينية تحديثية، يقابلها رغبة امريكية في وضع العراقيل امام مساعي القوى الصاعدة لتحطيم نظام القطب الواحد.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقع الثلاثاء 1آب، قانون فرض العقوبات الجديدة ضد روسيا، الذي أقره مجلس الشيوخ يوم الخميس 27 تموز، بأغلبية ساحقة والذي يوسع بموجبه العقوبات ضد روسيا وإيران وكوريا الشمالية، بعد أن تبناه مجلس النواب في وقت سابق.
العقوبات الامريكية الجديدة رافقتها موجة من التصريحات المتبادلة بين الروس ونظرائهم الامريكان، كلها تدور في سياق الاتهام والاتهام المتبادل حول اسبقية (الاعتداء)، واحقية الرد، فالولايات المتحدة الامريكية تنظر لروسيا باعتبارها تدخلت بشؤنها الداخلية في الانتخابات الاخيرة، واسهمت في صعود دونالد ترامب الذي يتودد للرئيس فلادمير بوتين، وفي الجانب الاخر ينفي الروس ما يقولون ان امريكا عجزت عن اثباته (التدخل في الانتخابات)، ويتهمون الاخيرة بمحاولة فرض هيمنتها على العالم عن طريق هذه الاجراءات "التعسفية".
وبعيدا عن سطحية التصريحات التي لا تتعدى الاستهلاك الاعلامي؛ فالعقوبات الامريكية لها اسبابها الحقيقية والتي تاتي في سياق التغيرات التي طرأت على الوضع السياسي الداخلي الامريكي وتبعاته على العلاقات الدولية لاصدقاء واشنطن وحلفائها على حد سواء ويمكن حصر اسباب العقوبات الاخيرة في الاتي:
اولا: صراع السلطات داخل الولايات المتحدة، فمنذ صعود دونالد ترامب الى منصب الرئاسة تولد قرارته مشكلات وردود افعال متبايبة حول الدور المستقبلي للولايات المتحدة في العالم، فقد اخل بالعلاقات الودية مع الحلفاء في الناتو وازعج الاتحاد الاوربي، واهانهم بدعواته لهم بدفع الاموال مقابل الحماية، فيما ابتز اليابان وكوريا الجنوبية في اكثر من مناسبة، هذا فضلا عن اجراءاته ضد المسلمين بمراسيم الهجرة الثلاثة. كل هذه اسباب حملت السلطات التشريعية الامريكية لتدارك الامر وتقليص سلطات الرئيس وربما محاولة "تاديبه" كونه خرج عن السلوك السياسي التقليدي.
ادارة ترامب تلاحقها المشكلات بشكل يومي والتخبط يكاد هو الوصف مناسب لها فبعد عشرة أيام فقط من تعيينه، أقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الاثنين الماضي مسؤول التواصل في البيت الأبيض، أنطوني سكاراموتشي، ليكون الرجل التاسع من رجال ترامب الذي تتم إقالته في حوالي ستة أشهر فقط من تولِّي ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيا: احتواء الدور الروسي وضمان عدم تجاوزه الخطوط الحمراء باستغلاله تودد ترامب للرئيس بوتين، ففي الوقت الذي تحاول امريكا محاصرة الروس في عقر دارهم تجدهم يتحكمون في اهم مناطق الصراع واكثرها تعقيدا، انها منطقة الشرق الاوسط وتحديدا في سوريا، حيث ينظر لها كمفتاح لتحقيق طموحات الدول الكبرى، واستفاد الروس من توتر العلاقات داخل دول الناتو فحولوا بوصلة الاتراك (اكبر قوة عسكرية في الناتو بعد الولايات المتحدة) الى جانبهم على الاقل في المرحلة الراهنة، ووصل التعاون بينهم الى حد عقد صفقات الاسلحة واخرها منظومة الدفاع الجوي المتطورة "اس ٤٠٠".
ثالثا: اسباب اقتصادية من اجل احتواء الاقتصادات الاوربية التي تزاحم الاقتصاد الامريكي بشكل جدي، وتحديدا ضد الاقتصاد الالماني من اجل تحويل سوق الخام من روسيا باتجاه امريكا، والاعتراض الالماني كان واضحا على لسان وزير الخارجية زيغار غابرييل الذي ابدى تحفظه على العقوبات المشددة، التي أقرها الكونغرس الأمريكي ضد روسيا، ووصفها بأنها "مخالفة للقانون"، واتهم الولايات المتحدة بأنها تخلط بين المصالح السياسية والاقتصادية، محذرا من أن هذه العقوبات من شأنها أن "تطرد الغاز الروسي من السوق الأوروبية ليفسح المكان للغاز الأمريكي، وهذا تعامل غير مناسب مطلقا".
وزيرة الاقتصاد الألمانية بريغيته تسيبريس توافق وزير خارجية بلادها بان العقوبات الأمريكية الجديدة ضد روسيا، تضر بشركات أوروبية، وتتعارض مع القانون الدولي، داعية إلى تقديم إجراءات جوابية أوروبية. وقالت تسيبريس في تصريحات صحفية نشرت الاثنين: "إنه أمر مفهوم وبسيط - نعتبر تلك العقوبات منافية للقانون الدولي"، وتابعت قائلة: "طبعا، لا نريد حربا تجارية، لكنه من المهم أن تدرس المفوضية الأوروبية اتخاذ إجراءات للرد".
السلطات التشريعية الامريكية رغم تخوفها من السلوك السياسي لدونالد ترامب الا انها تريد تحقيق مكاسب جديدة على حساب الدول الاخرى سواء ضد اعداءها التقليديين او حتى مضايقة اهم حلفاءها مثل المانيا والاتحاد الاوربي عموما، فترامب يحقق للامريكيين فرصة تبرئهم من قراراته التي يدعون انها لا تمثلهم، وفي المقابل يقومون بالتضييق على الدول الاخرى بحجة مواجهة الدور التخريبي لهذا الرئيس عديم الخبرة.
روسيا المتضرر الاول من هذه الاستراتيجية الملتوية لا يمكن ان تقف مكتوفة الايدي اما محاولات تحجيم دورها العالمي الصاعد، ويمكنها الرد في اكثر من طريقة واكثر من مكان بعد توسع جغرافية نفوذها اوربيا وشرق اوسطيا، فالخيارات المتاحة امامها الان هي زيادة الدعم للانفصاليين في اوكرانيا، او توسيع نطاق العمليات في سوريا واطلاق يد ايران وحزب الله قرب القواعد الامريكية في سوريا، لكن التكلفة العسكرية والسياسية لهذين الخيارين قد تكون باهضة جدا وغير محتملة، وهو ما يعني استبعاد هذين الخيارين.
اما الخيار الثالث فهو استمرار العلاقة مع دونالد ترامب تحديدا بما يمثله هذا التصرف من اهانة لمنظومة الحكم الامريكية واظهارها بدور المنقسم على نفسه، وبالفعل فان استمرار مغازلة الرئيس ترامب من قبل الروس يكفي لازعاج نظرائهم الامريكيين ووضعهم في موقف الضعف، لهذا اختارت موسكو الرد الاقل حدة وطلبت من واشنطن تقليص عدد الدبلوماسيين الأمريكيين على الأراضي الروسية إلى 455 شخصا، بحيث يصبح مماثلا لعدد الدبلوماسيين الروس العاملين على الأراضي الأمريكية.
الروس ادركوا الان صعوبة الغاء العقوبات الامريكية من قبل الرئيس ترامب بعدما انفلتت الامور لصالح السلطات التشريعية الاكثر تشددا ضد موسكو، لكنهم في المقابل لا يملكون الكثير من الخيارات في ظل رغبتهم الجامحة بانهاء الحرب في سوريا باقرب وقت، ما يعني ضرورة عدم ازعاج الولايات المتحدة الامريكية في هذه الفترة لحاجتهم الماسة لها في العملية التفاوضية، كما ان الاقتصاد الروسي لا يتحمل الكثير من العقوبات في حال اتخاذ مواقف متشددة، كما ان الروس يعتقدون بان الرفض الاوربي للعقوبات الجديدة يكفيهم مؤونة الرد، وفي ظل هذه الاوضاع يبدو ان العلاقات بين البلدين قد تزداد توترا لكن يبقى الروس اكثر رغبة في ابقاء قنوات الاتصال وتهدئة الوضع بين الجانبين.
اضف تعليق