ان تملك قناة فضائية دولية فهذا يعني السيطرة على احد اكبر مصادر التحكم بالناس، سواء كانوا اصدقاء او اعداء، تستطيع تبرير سياساتك وخطواتك التي قمت بها، او اجراءاتك المستقبلية، ولان الحرب هي اللغة الاكثر مفهومية في عصرنا الراهن فانها تحتاج الى عملية تهيئة نفسية لقبول السلوكيات العسكرية البشعة، وصناعة ميادين جديدة خارج الاطار التقليدي من اجل تشييد صرح التاييد المزيف في اشد حالات الرفض الشعبي ضرواة، انه سحر الاعلام مصنع البضاعة الفكرية المعلبة باغلفة قيل انها شفافة بما يكفي لرؤية الطرف الاخر من خلالها.
من يريد الحصول على الحقيقة من وسائل الاعلام (غربية كانت او شرقية)، هو كمن ينقب عن ذهب في جوف الارض من على طائرة تحلق فوق السماء، تسارع المسير كما هي الاحداث نراها في عصرنا الراهن، متقلبة ومتنقلة بين شرق وغرب، ديانات وطوائف، جماعات مسلحة ودول، يمين ويسار… الخ. وعلى هذه الارضية المتصدعة بفعل تفجر التناقضات ينتج ما يسمى الواقع.
وسائل الاعلام هي الرابط بين كل التناقضات، هي تنمو في جوف المياه الاسنة، مثلما تقوم بتعكير المياه الصالحة للعيش البشري، صنع الازمات وظيفتها، يقابلها اطفاء النيران كوظيفة حقيقة، الامر واقع وليس احجية قديمة، يتوقف على الموقف من الاحداث فان كانت في صالح مالك المؤسسة استخدمت كل الوسائل من اجل اظهار الوجه الحسن لها، وان تصارع الحدث مع سياستها التحريرية قد يسقط هذا الحدث تحت اقدام التلاعب اللغوي والانتقاء الوقح.
اذا ذكرت الحيادية والنزاهة والموضوعية؛ فان قناة (بي بي سي) البريطانية هي المرادف لهذه المصطلحات، استطاعت تكوين صورة ايجابية عنها باعتبارها الممثل الشرعي للاعلام الحر، (وهي كذلك بالفعل اذا ما قورنت بغيرها من وسائل الاعلام) وهذا ما يدفع الكثير من الباحثين لمحاكمة هذه التجربة الاعلامية بما الزمت نفسها به، لكن شاشتها كنز من الخطاب المؤدلج، في زمن تصارع الحقيقه فيه لحضات احتضارها الاخيرة.
الانتقاء اللغوي والمصدري
بي بي سي كشفت لاول مرة في التاسع عشر من شهر تموز ٢٠١٧ عن رواتب موظفيها الكبار ومقدمي البرامج، كتطبيق لمستوى الشفافية المطبق في هيئات الخدمة المدنية بحسب ما تقول وزيرة الثقافة البريطانية، كارين برادلي. لكن الفروقات الواضحة بين رواتب الرجال والنساء اثار الجدل حول التمييز الحاصل في القناة ما ادى ردود فعل تدين في اغلبها هذا السلوك من قبل القناة البريطانية.
تغطية القناة لتبعات اعلان الرواتب تضمنت الكثير الادلجة، وقد يعترض بعضهم على هذا الكلام في نقد تجربة بي بي سي الرائدة، لكن ما تقوم به لا يزيد عن اسلوب مبهر في التلاعب بالكلمات وترتيب الاحداث، وعلى مستوى حجم تغطية المقالات التي كتبت والتقارير الصحفية التي تناولت الموضوع، فالمساحة التي اعطيت للحدث كانت هامشية جدا، واعتمدت على انتقائية شديدة.
على ما يبدو فان كل كلمة في اخبار القناة البريطانية الاولى يتم انتقائها بما يضمن توجيه مسار الاحداث وحرف مسار الحقيقة بطريقة خلاقة، التلاعب وجدناه دائما يتم في الخلفيات التي تدعم الاخبار، فالانتقاء يتم في هذه المساحة، والتي تسمى المعلومات السياقية او معلومات التدعيم، عن طريق تقديم الادلة المنتقات بدقة من اجل ادانة الحدث اذا تعارض مع سياستها العامة، تقديم الخبر الجارح لسمعتها مجردا خاليا من السياق.
كان هنالك فارق شاسع بين نجوم البي بي سي من الرجال والنساء، وهو تمييز نال حظه من الشجب والاستنكار من داخل القناة وخارجها، ونتيجة لكشف الرواتب قدمت مذيعات القناة رسالة اعتراض، وقد صاغ موقع بي بي سي هذه الرسالة بالعنوان الاتي: "رسالة من نجمات بي بي سي تدعو الى مساوات الرجال والنساء في الرواتب".
ولتحليل نص هذا العنوان وما جاء في متن التقرير نجد الكثر من لغة تبسيط الحدث واعتباره امرا هامشيا فكلمة (تدعو الى المساوات) كانت تضليلية ومختلفة عن نص الرسالة، وردود الافعال من قبل الموقعات عليها، حيث غردت المقدمة جين غارفي التي نظمت حملة التوقيع قائلة ان "نجمات بي بي سي بدأن التمرد"، فالتمرد ليس "الدعوى" كما نشرت القناة في موقعها، وبهذا التبسيط ينقل المحرر الرسالة من فعل الشجب والاستنكار الى فعل الطلب والترجي. والامر الاخر ان الرسالة نقلت من دون سياق، ولا خلفيات، فلا يوجد ذكر لحملة الاعتراضات في بريطانيا والصحف العالمية، حيث تم تقديم الرسالة مجردة وافرغت من محتواها التاثيري والتوجيهي، وهنا يؤخد على القناة تقطيع الحقيقة اذا ما تم مقارنة ذلك بمواد اعلامية اخرى تاخذ مجراها السياقي وردود الافعال ازائها بما تعود المشاهد ملاحظته في اسلوب عمل هيئة الاذاعة البريطانية.
رد الفعل يصبح فعلا
الوجه الاخر يكشف ضعف القناة وعدم قدرتها في الالتزام بحياديتها، في تقرير تناول اقالة صحيفة صاندي تاميز البريطانية للكاتب كيفن مايرز لنشره مقالا حول مسالة الرواتب ونشر في موقعها تحت عنوان: "اقالة كاتب مقال في صندي تايمز بسبب مقال معاد للسامية" والمعادات هنا جاءت بسبب اتهامه ادارة القناة بالتحييز لليهوديات من نجومها، وقال الكاتب ان المقدمتان وينكلمان وفيلتز هم الاعلى اجرا، بسبب ديانتهما اليهودية، وفي هذا التقرير حضر السياق بقوة فقد استدعت القناة الاعمال السابقة للكاتب تتهمه بكتابة مقال عام ٢٠٠٩ في صحيفة اندبندنت نفى فيه وقوع الهولوكوست، واضافت للتقرير مطالبات قراء الصحيفة باقالة كاتب المقال، على عكس التقرير السابق الذي تناول مطالبات مذيعات القناة بالمساوات، كما اغفل التقرير اصلا الاشارة الى تلك الرسالة في اطار توضيح تطورات الحدث (كما هو معمول به في القناة)، هذا فضلا عن عدم اعتراضها على قرار الصحيفة اقالة الكاتب باعتباره انتهاكا لحرية التعبير.
اللغة الاعلامية تعد حاملا للافكار وموجها خفيا، فالانتقاء لا يقتصر على استبعاد الحدث برمته بل يشمل انتقاء كلمات التاييد او الرفض لما يعرض من مواد اعلامية، وفي مقال الكاتب في صحيفة صندي تايمز تم تحويل الحدث من رد الفعل ورفعه الى مستوى الفعل (المشين)، وقد حملت القناة فعل الادانة للكاتب في عنوان الخبر بكلمة "معادات السامية"، بالاضافة الى ابراز تعليقات القراء باعتبارها دليلا على وجود اجماع لادانة الكاتب، لكنها اغفلت تعليقات مشاهديها على قضية عدم المساوات حول الرواتب في الخبر الاول.
قد تكون هذه الامثلة قاصرة عن توضيح الاساليب العميقة لساسية البي بي سي التحريرية، لكن يمكن القول انها تمثل ظاهرة عامة لها، فهي تتبع طريقتين في تناول الاحداث، الاولى باستبعاد تناول الحدث كليا واقصاء تردداته من على شاشتها او موقعها الالكتروني واذا ما اضطرت الى نقله فانها تنقله مجردا خاليا من السياق، والطريقة الثانية تقوم بنفخ بعض الاحداث بسياقات الماضي واستدعاء كل ما يؤدي الى تحقيق عملية التضخيم وتوسيع مساحة الادانة والاستنكار.
وهذا ما يراه هربرت شيللر في كتابه المتلاعبون بالعقول باعتباره تقنية لتشكيل الوعي عن طريق تجزئة الحدث في اجهزة الاعلام بيحث يظل الافراد غير واعين بانهم قد تعرضوا للتضليل، ويرى ان شكل الاعلام في النحو الذي تطور به في اقتصاد السوق بالغرب هو تجسيد فعلي للتحكم بالوعي. فيما يعلق الدكتور علي ناصر كنانة على اليات التحكم في الوعي عن طريق وسائل الاعلام ويركز على دور اللغة قائلا: "ان الاعلام الية ثقافية حديثة لتسويق الافكار، وهو لا يكتفي بجعل اللغة وسيطا متفاعلا حاملا للافكار وانما يعمل على جعلها هي بنفسها وفي توحد مع الفكر محمولا فكريا للتاثير في المتلقي".
اذن فالتضليل الاعلامي لا يقتصر على استبعاد عرض الاحداث المعارضة لسياسة المؤسسة الاعلامية بشكل مطلق فحسب، بل يتعداه الى مخاطبة الوعي الباطني للمتلقي عن طريق تحشيد الهوامش ورفعها الى مستوى النص اذا ما اريد لحدث ان يرتقي سلم الاولويات لدى الجمهور، او طمس الحدث بما يكفي لسحبه الى مستوى الهامش في احيان اخرى، ويبقى التضليل الاقوى تاثيرا هو الذي يستطيع توظيف الاليات اللغوية والانتقائية المناسبة من اجل اضفاء شفافية على العرض الاعلامي تجعل الجمهور يشعر (متوهما) برؤية الوجه الاخر للحقيقة.
اضف تعليق