عانت الشعوب الاسلامية منذ مطلع القرن الماضي – وما تزال- حالة الاغتراب الثقافي بسبب تغرّب شريحة من المتعلمين؛ من علماء وأدباء يمموا وجوههم شطر البلاد الغربية التي وجدوا في نهضتها الثقافية وما انتجته من نهضة صناعية وتقدم في مجالات الحياة المختلفة بفضل نقل القدسية من الدين (المسيحي) المعطّل للعقل، الى العلم والرؤية المادية والتجارب الحسيّة، فظهرت العلمانية بثقة عالية وتحولت الى المنقذ من العصور المظلمة من تخلف وحرمان وسفك للدماء عاشتها اوربا طيلة قرون طويلة من الزمن.
أما في بلادنا فقد شهد الجميع حجم الفشل الكارثي المريع للانتقال من قدسية الدين (الاسلامي) الى قدسية العلم، لسبب بسيط ربما غاب عن أولئك الذين أطلق عليهم بـ "المثقفين" أنهم لم يفهموا الدين الاسلامي قبل ان يحسموا أمرهم بمسألة قدسيته، كما لم يفهموا ايضاً، العلم الذي يقدسونه، وما هي قواعده ومنشأه ومصاديقه، وكيف يكون الانسان عالماً حقيقياً، بل كيف يكون انساناً يستخدم عقله لانتاج علم يساعده على العيش بكرامة وأمان ويسهم في تقدم المجتمع.
بعد تلك التجربة المريرة التي نشهد ذيولها حتى اليوم، نلاحظ تكرار تجربة (تقليدية) مريرة من نوع آخر، فقد وصلت الديمقراطية الى العراق قادمة من الولايات المتحدة مروراً ببريطانيا والبلدان الاوربية، بعد قرون طويلة من منهج الحكم الفردي والعائلي والعسكري اختلط بشكل غريب بسلوك وعادات وأذواق العراقيين، لنتصور المفارقة؛ بين شعب يعيش الخوف طوال ساعات اليوم من مجرد طرقة باب البيت، ويخشى من شرطي المرور خشيته من ضابط المخابرات، ولا يعرف لحرية الرأي والتعبير أي معنى، بل حتى بلغت الحالة لأن لا يجد قيمة لنفسه وذاته أمام سياسات حزب البعث وشخص صدام، ثم خلال فترة وجيزة يجد نفسه مخولاً لأن ينتخب حكومته ويأتي بالوزراء والنواب والمسؤولين الى كراسي الحكم.
إن الاشخاص الذين قدموا من بريطانيا واميركا وكندا وسائر البلاد الغربية بعد أيام من سقوط الطاغية صدام، هم أشباه أولئك المصريين العراقيين والايرانيين الذين ذهبوا الى بلاد الغرب أوائل القرن الماضي، ثم عادوا حاملين أدوات صنع الانسان؛ فكراً وسلوكاً، مبشرين بأنماط العيش هناك وأنها النموذج الصحيح والطريق الاقصر للخلاص من التخلف والحرمان، وقد عمد بعض من يُطلق عليهم بـ "الساسة العراقيين" الى طمأنة الشعب العراقي على أنه قادر على تطبيق الديمقراطية والمشاركة في صنع القرار، بمجرد حضوره الحاشد في طوابير على صناديق الاقتراع وانتخاب المرشحين للمجالس المحلية ومجلس النواب، على أن تكون السلطة النافذة للمعايير الديمقراطية وليس للمعايير الدينية، بمعنى أن الحكم في العراق لا يتبنى النظام الاسلامي، ليكونوا أوفياء على النموذج الأصلي المصنوع غربياً.
ولأن الشعب العراقي يحمل جذوراً دينية في ثقافته، ويعد المرجعية الدينية الجهة الأكثر ثقة واطمئناناً يعتمد عليه في اختيار القرار الأفضل، قبل المرجعية السياسية، راح بعض الساسة يستفيدون من هذا القدر البسيط من الجذور الطرية لتعزيز شعاراتهم السياسية ثم لتكون جسراً موصلاً نحو قمة السلطة، ولكن؛ لم يكن بالامكان المضي اكثر من ذلك في ظل نظام سياسي مستورد ومعد له سلفاً من واشنطن ولندن، فكان لابد من العاقبة التي وصل اليها هذا البعض، عندما تخلّى عن شعار "الاسلامي" والتوجه نحو الخيار الوطني او المدني، او حتى العلماني وبصوت خافت.
ولذا، فان نقطة الضغط والشدّ في الازمات المتفاقمة بالعراق تقع ليس على الساسة وأهل الحكم في بغداد، كما لا تقع دائماً على الشعب العراقي بكل شرائحه وطبقاته، رغم المعاناة والمحن على بعض شرائح المجتمع، إنما تقع كاملة على تلك الجذور الدينية الطرية لهذا الشعب، فهي التي اصابها الطعن والنكران بشكل مريع، حتى حدى بالبعض لأن يتصوروا أن هذه الجذور البريئة التي لا ترى النور اساساً، هي المسؤولة عن معاناة الناس من الانقطاع المستمر للكهرباء وشحة المياه وأزمة السكن وفرص العمل وسوء التعليم وغيرها!
بينما لو كان هؤلاء الساسة يقرأون التاريخ بصورة شفافة ويدرسونه بعمق، لكانوا اكتشفوا أنهم يجنون على انفسهم عندما يكررون تجربة التقليد الأعمى سياسياً بعد ان انزلق في هذه التجربة قبلهم "مثقفوا القرن العشرين" ثقافياً، فالشعوب كالسفينة في مجرى التاريخ، موجودة بذاتها، ربما تتغير ملامحها وتتطور اشكالها، يبقى على المثقفين ان يقرروا مصيرهم ما اذا كانوا من اللاحقين بها ويحجزون مقاعد دائمية الى جانب ابناء مجتمعهم، او ان يكونوا من المتخلفين الزاهقين ممن تطويهم أمواج البحر ثم النسيان.
ومن أهم وأبرز دروس التاريخ في أمر السياسة والحكم؛ المحاسبة أمام الجماهير.
نقرأ في التجربة السياسية للإمام علي، عليه السلام، انه يضع نصب عينيه دائماً، مصالح الآمة وهموم الناس، وهذا نهج البلاغة، يضجّ بالأنين على الجياع والفقراء وذوي الدخل المحدود، حتى انه يسمو على كنية "أمير المؤمنين" ويرجو أن لا يقنع بها، رغم أنه يؤكد لنا بانه "ينهدر منّي السيل ولا يرقى اليّ الطير"، بيد ان المهم لديه بأن "أشاركهم في مكاره الدهر، او اكون لهم أسوة في جشوبة العيش..."، في خطبته المدوية الى واليه على البصرة (ابن حنيف) لمجرد انه لبّى دعوة لأحد وجهاء البصرة وحضر على مائدة عامرة بألوان الطعام والشراب.
و رغم هذه الريادة الحضارية، نسمع من أحد رموز الاحزاب الاسلامية وهو يزايد على مفكري الغرب وصانعي الديمقراطية! ويبشر العراقيين بتطبيق الديمقراطية بأرقى اشكالها، ويقول: "في برلمانات العالم، يحاسب الوزير أمام نواب البرلمان، أما في العراق، يحاسب الوزير أمام قيادات حزبه قبل ان يصل الى البرلمان للاستجواب".
هذه الطريقة من التفكير هي التي جعلت هذا المتكلم اليوم في مهبّ الريح، و ايضاً أمثاله ممن تعكزوا على الجذور الدينية للشعب العراقي، ويتخلون عن مسمياتهم الاسلامية او يخففون من التزاماتهم الدينية علّهم يحظون بالمقبولية داخلياً وخارجياً، في حين انهم لم يكونوا يوماً مطالبين بالتخلّي عن متبنياتهم وعقائدهم او حتى التخفيف من التزاماتهم من أية جهة في الداخل او الخارج، ولهم في تجارب الماضين خير أسوة، مثل الجنرال ديغول الذي خاطب الاميركيين بعد انتصار الحلفاء على المانيا الهتلرية، بأنه "مستعد لإعداد قائمة بما أنفقتموه من أجلنا"، حرصاً منه للحفاظ على قيمه ومبادئه ومصالح شعبه.
اضف تعليق