يتفق الكثير على مدخلية السياسة في عديد أمور الحياة، فهي تلقي بظلالها الى طريقة حياة الناس وطريقة تفكيرهم في كثير من الاحيان، ورغم انها علم كسائر العلوم الانسانية والطبيعية يدرسها الطلاب في الجامعات، بيد أن شدة تأثيرها وسرعة تقلباتها تجعل عملية فهمها ذات اهمية خاصة اكثر من علم الاقتصاد وعلم الاجتماع – مثلا- وايضاً علوم مثل الطب والهندسة والجيولوجيا، نظراً لابعادها الواسعة، فمن الممكن فهم الطب والهندسة والاقتصاد لوجود قواعد محددة ومعادلات ثابتة، فالطالب في كلية الطب يتخرج طبيباً، والمهندس يتخرج من كلية الهندسة، والمحامي يتخرج من كلية القانون وهكذا. فهل يتخرج السياسي من كلية القانون والعلوم السياسية؟!
في بلداننا، ومنذ عصر النهضة الثقافية والفكرية في منتصف القرن الماضي، جرت مساعي حثيثة لوضع حدود لفهم السياسة في قاعات الجامعات وفي الغرف المغلقة للاحزاب السياسية وفي ادمغة عدد من المنظرين السياسيين وجنرالات الحكم، وتبقى الشعوب الاسلامية مجرد مساقط لانعكاسات سياسية تأخذ اشكالاً منها؛ الانقلاب العسكري أو "الثورة" وحتى "الديمقراطية" حديثاً، ليكون من السهل على الحاكم او الاحزاب المتنفذة تمرير برامجهم ومشاريعهم بسهولة ودون نقاش، فنجد الجماهير – على الاغلب- تصطف لتحية القائد والرئيس، او تتدافع في تظاهرات موجهة من احزاب وتيارات سياسية لخدمة مصالح معينة بعيدة عن همومها الحقيقية وتطلعاتها.
ودائماً يرد السؤال عن سبب انقياد شريحة واسعة من الناس للساسة رغم فشلهم وعدم امتلاكهم رؤية محددة ومشروع متكامل، بينما نلاحظ اجتهاد الكثير من الناس في مسائل الطب والصحة، وايضاً في مجال القانون وحتى هندسة البناء وغيرها، والسبب؛ ربما يكون في صحة ما يذهب الناس اليه في الحالة الثانية، فالفهم الذي يتوصل اليه الناس لهذه العلوم ويدركون فوائدها واهميتها، إنما بفضل إعمال عقولهم قبل عواطفهم، الى درجة نجد فيها البعض من الناس يعد نفسه عن جدّ؛ طبيباً وحكيماً، وذاك يفهم في هندسة النباء افضل من المهندس وهكذا.
ولنأت الى السياسة كعلم وفن وممارسة؛ فاذا كان مستوى فهم الناس لها بهذا القدر العال، فهذا يعني أن لا نجد ضابطاً عسكرياً، مهما كان كبيراً، ولا حزباً سياسياً مهما نظّر وفكر، من أن يفكر بالاستيلاء على قمة السلطة بالسهولة التي شهدناها طيلة العقود الماضية.
كيف حصل ما حصل؟!
انه التسييس بالتعبئة العاطفية والضرب على أوتار حساسة في نفس الانسان، مثل الحرية والعمل والسكن والعيش الكريم، ثم إثارة المخاوف على هذه المكاسب وهمية من جهات خارجية وهمية هي الاخرى، بدعوى أنها تكيد الكيد ليبقى الانسان العراقي – مثلاً- عبداً ذليلاً "للاستعمار والامبريالية"، لذا فهو قلق طيلة حياته على حريته واستقلاله ولقمة عيشه وكرامته من جانب دول عظمى مثل بريطانيا او الولايات المتحدة، وليس من بعض الساسة الحاكمين الذين يحومون حوله كاللصوص المتربصين.
واذا اردنا مصداقية للتسييس في عصرنا الراهن، فبالامكان ملاحظة التهويل الغريب لـ "الارهاب" بعد إعداده وصناعته ثم تعليبه غريباً منذ ثمانينات القرن الماضي، ليكون المحور الجديد الذي تدور حوله قضايا الشعوب بعد اضمحلال الديكتاتوريات وساسة الفشل والدمار في البلاد الاسلامية، فما يجب ان تكافحه الشعوب في قادم الايام هو "الارهاب" لانه "الخطر على الديمقراطية"، قبل ان تتحدث عن العلم والمعرفة والانتاج والتطوير والتنمية.
"لا تهجم عليه اللوابس"، ورد عن الامام الصادق، عليه السلام: "العارف بأمور زمانه لا تهجم عليه اللوابس"، في هذا الحديث الشريف دلالات عميقة وواضحة في آن، بأن الجهل والغفلة تعرض صاحبه لهجوم من نوع خاص لا يتوقعه، فهو ليس هجوماً بالسلاح او تهديداً بالفصل عن العمل والتجويع او التشريد وامثالها، إنما هجوماً لغمامة من الالتباسات الفكرية التي تسلب منه القدرة على الاختيار الصحيح وجعله منقاداً بمحض ارادته.
واذا عدنا الى مقدمة هذا الحديث البليغ نجد فيه المنظومة الكاملة للثقافة السياسية يضعها الامام الصادق، وهو المعروف بمؤسس أول جامعة اكاديمية في التاريخ الاسلامي بالمعنى الحديث، يقول الامام، عليه السلام: "لا يصلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجو من يفهم، ويظفر من يحلم، والعلم جُنّة، والصدق عزّ، والجهل ذُلّ، والفهم مجد، والجود نجاح، وحسن الخلق مجلبة للمودة...".
ان المفاهيم والقيم التي يبينها الامام الصادق، عليه السلام، تبني لنا القاعدة الثقافية المتينة والواسعة لتحقيق الفهم الكامل لما يجري من احداث ترتبط ارتباطاً مباشراً بالسياسة ومسائل الحكم، لان في مقابل الفهم واليقظة بمسائل السياسة العامة في البلاد، يكمن الجهل والغفلة التي تكون ايضاً بشكل عام تطبق على ثقافة الانسان الفرد والمجتمع، ولذا نجد أبرز دعاة التثقيف والتوعية السياسية؛ الامام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- يربط بين نجاح الفهم السياسي وبين "الجهاد الفكري والجهاد العلمي ضد الجهل وبكل الوسائل المتاحة المشروعة؛ بالقلم واللسان، وبمختلف الوسائل العصرية؛ لتصل تعاليم الإسلام وأهدافه الإنسانية إلى كل مكان فتبدأ الأمة بالنهضة من جديد بامتلاكها الحجة من جرّاء رشدها وفهمها السياسي".
من هنا يحكم علماؤنا –وفي طليعتهم الامام الشيرازي الراحل- الربط بين الاسلام وبين السياسة كعلم وفن وممارسة، فكما أن السياسة لها مدخلية في كثير من جوانب الحياة، فان الاسلام في احكامه ونظمه شاملٌ لمختلف جوانب الحياة ايضاً، بل واكثر من ذلك بكثير، وفي كتابه "الفهم السياسي" يؤكد سماحته ما ذهب اليه علماء دين كبار من أن "السياسة من واقع الاسلام، كونه الدين الذي يريد من الاحكام الشرعية والعبادات ان تظهر على مختلف جوانب حياة المسلم وأفعاله وأفكاره، وأنه دين للدنيا والآخرة...".
وإذن؛ اذا اردنا ان نفهم السياسة بشكل صحيح ومتكامل، علينا ان نفهم ونعي الدين بشكل كامل وصحيح ايضاً، لا كما ذهب البعض عندما وجهوا لفهم الدين من خلال السياسة، فخرجوا الى الناس بوجوه وشعارات ومفاهيم ذات طابع ديني متجاهلين او مغيبين – بالحقيقة- المحتوى والجوهر، ثم خاضوا السياسة ومارسوا تقلباتها دون الارتكاز الى الجذور والقواعد المتينة، والنتيجة؛ السقوط المريع لتلك الوجوه والاقنعة، وإلحاق التصدّع بالقيم والمفاهيم الاسلامية التي تم تسويقها لاغراض سياسية – آنية، كما فعل أسلافهم من الساسة الذين نزلوا الى الساحة بوجوه القومية والوطنية.
اضف تعليق