قبل هذه المرحلة لم يكن الانتحار موجوداً بهذا الزخم بين العراقيين وخاصة الشباب منهم، أما اليوم فقد بات يتكرر بصورة شبه يومية إن لم يحدث أكثر من مرة باليوم في هذه المدينة أو تلك، ولعل انتشار حادثة انتحار الشاب العراقي التي حدثت مؤخرا وذلك بإطلاقه النار على رأسه، مع إصراره على توثيق هذه الحادثة بالصوت والصورة، تعد من الحالات النادرة في مجال قتل النفس، لهذا السبب فهي تثير العديد من التساؤلات عن أسباب إقدام هذا الشاب على قتل نفسه بمسدس مع تهيئة وتوجيه الكامرة مسبقا لكي تصوّر عملية الانتحار لتبقى شاهدا على ظاهرة تكررت في السنوات الأخيرة بصورة لافتة.
وقبل الخوض في فحوى الظاهرة والدوافع التي تحركها أو تضاعف منها، لنرَ ماذا يقول فيها المختصون، فإنهم يرون بأن الانتحار هو الفعل الذي يتضمن تسبب الشخص عمداً في موت نفسه، وتُرتكب جريمة الانتحار غالباً بسبب اليأس الذي كثيراً ما يُعزى إلى اضطراب نفسي مثل الاكتئاب أو الهوس الاكتئابي أو الفصام أو إدمان الكحول أو تعاطي المخدرات. وغالبًا ما تلعب عوامل الإجهاد مثل الصعوبات المالية أو المشكلات في العلاقات الشخصية دوراً في ذلك، وقد أوردت بيانات لمنظمة الصحة العالمية بأن 75% من حالات الانتحار تسجل ما بين متوسطي الدخل وسكان الدول الفقيرة، وتشمل الجهود المبذولة لمنع الانتحار تقييد الوصول إلى الأسلحة النارية، وعلاج الأمراض النفسية وإساءة استعمال المخدرات، فضلاً عن تحسين التنمية الاقتصادية.
وعن طريقة الانتحار الأكثر شيوعا من سواها، فتختلف طريقة الانتحار حسب البلد، كما ترتبط جزئيًا بمدى توافر وسائل قتل النفس، وتشمل الطرق الشائعة ومنها: الشنق والتسمم بواسطة المبيدات الحشرية والأسلحة النارية، وهناك ما بين 800.000 إلى مليون شخص تقريبًا يموتون كل عام عن طريق الانتحار، مما يجعله عاشر الأسباب الرئيسية للوفاة في العالم، علما أن معدلات الرجال المنتحرين أعلى من النساء، حيث أن الذكور أكثر عرضة لقتل أنفسهم من الإناث بمقدار 3- 4 مرات، وهناك ما يقدر بنحو من 10 إلى 20 مليون محاولة انتحار فاشلة كل عام وهذه المحاولات أكثر شيوعًا بين الشباب.
وبعد الانفتاح الإعلامي الإلكتروني غير المحدد، وإمكانية دمج الشعب العراقي بالعالم في قضية التواصل، صار الإطلاع على الثقافات الأخرى أمرا ميسورا، خصوصا أن الشباب العراقي كان متلفها لمعرفة ما يجري من حوله في العالم، فاندفع بلا تخطيط ولا حدود في شبكات التواصل واستخدم وسائل الاتصال والإعلام بارتجال ولهفة جعلت منه ينساق الى أخطاء فادحة في تقليد بعض الثقافات التي حملت مع بذور الإلحاد وزرعت اليأس في نفوس الشباب العراقي بعد الصدمات المتلاحقة التي ساقها الواقع المتردي للعراق وإهمال الشباب وضياع الأحلام التي بنوها وخططوا لها أدراج الرياح.
وقد تأثرت وتباينت وجهات النظر حول الانتحار بالموضوعات الوجودية العامة مثل الدين والشرف ومعنى الحياة، وتعتبر الأديان الإبراهيمية تقليديًا أن الانتحار معصية لله ويرجع ذلك إلى الإيمان بقدسية الحياة، ومع ذلك لم تقلل هذه التحديدات الشرعية والتوجيهات الدينية من هذه الظاهرة، ففي كل حين تنقل لنا وسائل الإعلام أو سائل التواصل حالة انتحار هنا وأخرى هناك، بعضها يبقى غامضا، وتتم تغطيته وإخفائه، وبعض الحالات الأخرى تخرج للملأ بأدق التفاصيل، أما الأسباب فإنه في الغالب نفسية، بسبب حالات اليأس التي تصيب الشباب العراقيين.
ويقول المختصون أن هناك عددا من الحالات النفسية التي تؤدي إلى زيادة احتمال الانتحار، ومنها اليأس، وفقدان المتعة في الحياة، والاكتئاب والقلق، كما أن القدرة المحدودة على حل المشاكل، وفقدان القدرات التي اعتادها الشخص، وضعف السيطرة على الانفعالات تلعب دورًا في الإقدام على الانتحار، أما اليأس فهو يتأتى من عدم توافر فرص العمل للشباب، فمعظم الخريجين يقبلون على الجامعات بشيء من الأمل لكنهم بعد رحلة المشوار الطويل المتعب تنتهي آمالهم وأحلامهم وما خططوا له الى الفراغ والبطالة والتسكع في الشوارع والمقاهي لقتل الزمن الفائض، ومن ثم انتشار حالات الانتحار بسبب مقارنة الشاب بين ما يعيشه من واقع بائس في بلده، وبين ما يراه من حياة مرفهة سعيدة ممتلئة لشباب العالم.
إن المقارنة بين حياة الشباب في العراق والإطلاع على حياة الشباب في أمريكا والغرب على وجه العموم، يشكل بذرة التفكير بالانتحار للشاب العراقي، يدعم ذلك إهمال حكومي أهلي وحتى عائلي للشاب، لدرجة يشعر معها بعدم الاهتمام والعزلة ومن ثم سيطرة حالة اليأس عليه، وتلعب وسائل الإعلام، التي تشمل الإنترنت، دورًا مهمًا في هذا الحقل المعقد، فالجدير بالذكر أن الطريقة التي تستخدمها في تصوير الانتحار قد يكون لها أثرا سلبيا مع التغطية على نطاق كبير وبارز ومتكرر، وعلى نحو يُمجد أو يضفي جوًا عاطفيًا على حالة الانتحار، فيكون لها بالتالي أكبر الأثر على الناس، كذلك عندما يتم تصوير وصفًا مفصلاً لكيفية الانتحار عن طريق وسيلة معينة، فإن طريقة الانتحار هذه قد تزيد بين الناس عامة، وقد حدث هذا بالضبط مع حالة الانتحار التي وثقها شاب عراقي بالتصوير وقام الإعلام والإنترنيت بنشرها.
بالطبع ليس هنالك إمكانية لمنع الشباب من التواصل مع العالم، ولا يصح حرمانهم من هذه الوسائل كما في العهد الدكتاتوري البائد، ولكن لابد أن ترافق ذلك حملات توعية متواصلة تحث الشباب على الإقبال على الحياة والتفاعل معها بصبر، كذلك تتحمل الحكومة مسؤوليتها الكاملة عن كل حالة انتحار تحدث لهذا السبب أو ذاك، في حين ينبغي أن توضع الحلول الفورية لمعالجة المشاكل المادية والنفسية التي يواجهها الشباب العراقيون، ويمكن أن يتحقق ذلك بالدراسة والتخطيط، وتنظيم القدرات المتوافرة للدولة.
أما مواجهة الثقافات الوافدة، فهذا الجانب لا يمكن مواجهته بالمنع او الردع او عزل الشباب عن العالم، فزمن المنع والعزل ولّى الى الأبد، والمطلوب اليوم ترجيح العقل والفكر والذكاء على سواه من الأساليب المتخلفة، فالعقل والحكمة تقول علينا أن نعلّم الشباب وندربهم بكيفية مواجهة الثقافات الوافدة عبر الإنترنت وشبكات التواصل الجديدة، كذلك بالتزامن مع حملات الوعي يجب أن تبدأ حملات جدية تضع حلولا فعلية للنواقص التي يعاني منها الشباب كالبطالة وقلة الرفاهية وندرة مشاريع العمل وما شابه وهذه مسؤولية الحكومة والدوائر المعنية، ومسؤولية القطاع الخاص الذي ينبغي أن ينهض بالأعباء الاقتصادية الى جانب القطاع العام.
اضف تعليق