مقتضيات النظام الفيدرالي وخصائصه المميزة تتطلب ضرورة وجود قضاء ذي طبيعة دستورية يقوم بأداء مهام خاصة به، من قبيل رقابة دستورية القوانين وتفسير الدستور والفصل في المنازعات التي تحدث بين مستويات الحكم المختلفة وغير ذلك من الاختصاصات الأخرى، ولعل اختصاص الفصل في المنازعات بين مستويات الحكم من أهم اختصاصات المحكمة العليا وهو مقرر في معظم الأنظمة الفيدرالية، ان لم نقل جمعيها، حيث تقوم هذه المحكمة بالنظر في تلك المنازعات وإصدار الأحكام فيها بموجب النصوص الدستورية والقانونية النافذة. ولعل المطالبات بالانفصال او تقرير المصير واحد من جملة المنازعات التي قد تحدث بين الحكومة الاتحادية وإحدى ولاياتها.
والسؤال المطروح هنا حول مواقف القضاء من طلبات الاستفتاء او تقرير المصير الذي تريد إجراؤه بعض الولايات أو الأقاليم بالإرادة المنفردة؟!
أن المحكمة العليا الأمريكية قد استندت في تقرير عدم مشروعية انفصال ولاية تكساس عن الاتحاد إلى انه يتنافى مع مبادئ وقواعد دستور الولايات المتحدة، وذكرت المحكمة بان هذا الاتحاد غير قابل للهدم.
اما المحكمة العليا في كندا فقد نظرت عام 1996في مشروعية إجراء إقليم كيبكا لاستفتاء من جانب واحد وقد ناقشت أربعة مبادئ في الدستور الكندي، وهذه المبادئ هي الفيدرالية، والديمقراطية، وحكم القانون، وحماية الأقليات.
ففي ما يتعلق بمبدأ الفيدرالية نجد ان المحكمة العليا الكندية وجدت أن النظام الفيدرالي هو من المبادئ التي يقوم عليها الدستور الكندي، وان هذا الاتحاد مكن شعوب الأقاليم من إقامة روابط متينة من خلال الاعتماد المتبادل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وإذا اتخذ سكان كيبك قراراً بالانفصال، فانه يسبب ضرراً بتلك العلاقات، مما يتطلب التفاوض مع المشاركين الآخرين في الاتحاد في إطار النظام الدستوري القائم، كما أجابت المحكمة على الحجج التي تشير إلى أن الحق بالانفصال، يعتمد، بالأساس، على مبادئ الديمقراطية، بالقول بأن الديمقراطية تعني أكثر من مجرد حكم الأغلبية البسيطة.
إذ إنها عملية متواصلة من النقاش تعكس الحق الدستوري لكل الأقاليم المكونة للاتحاد بالمشاركة في تعديل الدستور الاتحادي، ومن ثم لا يجوز أن ينفرد أحد الأقاليم بتقرير مصير. وأضافت المحكمة أيضا أن حماية حقوق الأقليات، يُعد أحد المبادئ الدستورية في كندا، ورأت المحكمة أن أية مفاوضات لتعديل الدستور الكندي يجب أن تراعى فيه على وجه الخصوص مصالح الأقليات، وفي هذا أشارت لحقوق الأقليات الأخرى الموجودة في كيبك؛ لأن انفصالها سيثير مشكلة حقوق الأقليات اللغوية والثقافية الموجودة في كيبك.
وأشارت المحكمة إلى أن القانون الدولي لا يمنح الأجزاء المكونة لدولة ذات سيادة حقا قانونيا للانفصال، أحادي الجانب، عن الدولة الام، وأن حق تقرير المصير الذي يقرها لقانون الدولي العامل أي نشئ سوى حق تقرير المصير الخارجي في حالات المستعمرات السابقة والاحتلال العسكري الأجنبي وأشارت المحكمة أيضا إلى إن الدولة التي تدير شؤونها حكومة لا تفرق بين فصائل شعبها المنتشرة على ترابها الوطني الواحد، ولا تقيم بينها تمييزا عنصريا، وتعامل شعبها بمبدأ المساواة، وتحترم مبدأ تقرير المصير في شؤونها الداخلية، ففي هذه الحالة لا يجوز لها، بمقتضى القانون الدولي، أن تقبل الانفصال أو تساعد عليه، وإنما يكون من واجبها هو الحفاظ على ترابها وسيادتها الوطنية. لذلك أصدرت المحكمة قرارها في 20 أب/أغسطس عام 1998، القاضي بأن أحكام القانون الدستوري الكندي، وكذلك القانون الدولي، لا تمنح كيبك الحق بالانفصال عن كندا بإرادتها المنفردة.
وفي ضوء ما تقدم هل تستطيع المحكمة الاتحادية العليا في العراق ان يكون لها القول الفصل في مشروعية الانفصال من عدمه؟!
نستطيع القول بانه يمكن للمحكمة الاتحادية العليا ان تنظر دعوى في مدى مشروعية طلب الاستفتاء الذي يروم الإقليم إجراؤه والآثار التي سوف تترتب عليه وذلك حسب الفقرة (اولا) من المادة (93) من الدستور التي تخول المحكمة الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة. وعليه يمكن للحكومة الاتحادية او أية جهة أخرى او حتى يمكن لأي مواطن إقامة دعوى لدى المحكمة الاتحادية العليا للنظر في دستورية إجراء إقليم كردستان الاستفتاء حول تقرير المصير.
ان نصوص الدستور العراقي النافذ لعام 2005 تؤكد على وحدة الدولة، ومنها المادة (1) من الدستور التي نصت صراحة على إن (جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة..... وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق). إن العبارة الأولى من هذه المادة تؤكد على وحدة الدولة الاتحادية، والتي تتنافى مع فكرة انفصال الوحدات المكونة لها، كما إن عجز المادة المذكورة يؤكد إن هذا الدستور يضمن وحدة الدولة، ولذلك نجد بأن مطالبة إقليم كردستان بالانفصال وتكوين دولة مستقلة يُعدُ حقاً غير مشروع بموجب الدستور.
ويمكن إيراد أهم الأسباب التي تجعل مطالبة الكورد غير مشروعة بالانفصال:-
1- إن الكورد قد مارسوا حقهم في تقرير المصير والمتمثل بالتصويت على الدستور العراقي، والذي أكد على تبني النظام الفيدرالي.
2- إن نص المادة الأولى من الدستور تشير بأن الدستور ضامن لوحدة العراق، بمعنى أن الدستور جاء مؤكدا على وحدة العراق، وعليه فإن المطالبة بالانفصال، يمثل خرقا للدستور، لكونه لم يتضمن نصا يبيح الانفصال، الأمر الذي يتطلب تعديل الدستور، وهذا يتطلب دخول الكورد في مفاوضات مع الحكومة المركزية والأطراف الأخرى الممثلة في البرلمان لتعديل الدستور، فلا يجوز للكورد إعلان الانفصال من طرف واحد، على النحو الذي أشارت إليه (م8) من مشروع دستور إقليم كردستان العراق التي تنص على انه ( لشعب كوردستان العراق الحق في تقرير مصيره بنفسه، وقد اختار بإرادته الحرة أن تكون كوردستان العراق إقليما اتحاديا ضمن العراق، طالما التزم بالنظام الاتحادي الديمقراطي البرلماني التعددي وحقوق الإنسان الفردية والجماعية، وفق ما نص عليه الدستور الاتحادي)، إذ يعد هذا النص مخالف لكل من نص المادة (1) والمادة (120) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي تنص على ( يقوم الإقليم بوضع دستور له، يحدد هيكل سلطات الأقاليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات، على ان لا يتعارض مع هذا الدستور)، فضلا عن ذلك فإن حالات الانفصال التي حدثت في الدول، لم تتم بصورة منفردة وإنما بالاتفاق بين الأطراف ذات العلاقة، كاتفاق الحكومة السودانية مع جنوب السودان على منح الأخير حق تقرير المصير بمفهوم الانفصال لجنوب السودان بموجب استفتاء يقام في الجنوب في شباط عام 2011، وترتب عليه تعديل الدستور للنص على هذا الحق في هو كذلك فان انفصال تيمور الشرقية قد تم بالاتفاق بينها وبين الحكومة الإندونيسية في 20 ايار عام 2002.
ونجد أن إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلق بالعلاقات الودية بين الدول رقم (2625)، والصادر عن منظمة الأمم المتحدة عام 1970، قد أصر على عدم شرعية الحركات الانفصالية التي تقوم بها الجماعات التي تعد جزءا من شعب دولة ما طيلة تاريخها الطويل.
وعليه يمكن للمحكمة الاتحادية العليا في العراق الاستفادة من السوابق الدولية في هذا المجال وتحليل نصوص الدستور النافذ للتوصل الى القرار الصائب وبعيدا عن ممارسة أي ضغوطات سياسية يمكن ان تتعرض لها.
.....................................
اضف تعليق