حين يتوتر الإنسان، تفوته الكثير من القضايا المهمة، وعوضاً عن التركيز في نقطة محددة واضحة المعالم، يقوم التوتر بتشتيت الذكاء وتقويض التركيز وزيادة المراوغة، فتغدو مهمة رصد التحركات الفكرية المشبوهة شبه مستحيلة، فحريّ بذوي الشأن الشروع فيما يسمى بمكافحة التوترات الناتجة عن الاضطراب الفكري، وهو يحدث بصلابة في حالة تسود معها ضبابية الوقائع والتباس الحقائق، وهو أسلوب يطلق عليه أحينا بـظاهرة (خلط الأوراق الفكرية)، وذلك لمضاعفة وليس مكافحة التوتر الحاصل عن ضبابية الأفكار.
وفي رأي العلماء المختصين بالطب النفسي، بشأن الحالات الفردية لاضطراب الفكر أو اضطراب التفكير الشكلي(FTD) فإنها تحدث عندما يعاني شخص ما من مشاكل خطيرة في التفكير والمشاعر والسلوك، وقد تشتمل الأعراض على الاعتقاد الزائف عن النفس أو عن الآخرين وجنون العظمة وسماع ورؤية أشياء غير موجودة وقطع الحديث أو التفكير وإظهار مشاعر لا تتوافق مع الموقف.
هذه الحالات في اضطراب الفكر ليست هي المقصودة هنا، لأنها مصنفة ضمن الأمراض التي قد تحدث في أي مكان وفي أي مجتمع، أما الموضوع الذي نبحث فيه في كلمتنا هذه فهو يتعلق بالتوتر الفكري الذي ينتج عن الموجات الفكرية الجماعية القائمة على الارتجال، فالعراق أرضا وشعبا وعقائد وتاريخا من البلدان التي ستبقى مستهدفة بسبب ثرائه التاريخي والجغرافي والديني والطبيعي وسواه.
لذلك في ظرفنا الراهن ونعني العراق بشكل أخصّ، فإن التوتر الفكري يعد أحد أكثر الأنماط الفكرية شيوعا في الفضاء الثقافي والسياسي والمجتمعي على نحو العموم، وقد ساهمت وسائل التواصل الحديثة في مضاعفة التوتر وتحريك التفكك وزيادة الشحنات الاضطرابية بين المجموع، فما أن تُطلق فكرة ما في أحد المواقع، - لها حالة تماس فاعلة ومؤثرة في المحيط (يتم اختيارها بدراية وترصّد من جهات لا يمكن أن تظهر للعلن)- حتى تشتعل صفحات هذا الموقع بثورة عشوائية قائمة على التحريك العاطفي والتأثير اللحظوي.
فينشأ ما أسماه بعضهم بثقافة (ردة الفعل)، أو صحافة النمط الواحد، أو صوت القطيع، فالكل يتحرك فكريا في دهليز واحد لا يقبل التعدد، وكأن المسألة المثارة تستفز مشاعر وأفكار آنية ثائرة لا تقبل التأني أو الاختلاف، فتسود حالة من التوتر والاهتياج تتسرب في النسيج المجتمعي، فتصبح الأفكار نمطية تحتوي على وعاء عاطفي تجد فيه كل شيء إلا الفكر العقلاني أو الفكر الذي يتمخض عن الذكاء المحض، في هذه الحالة لا جدوى من حدوث التوترات الفكرية القائمة على ردة الفعل السريع، فهذا النوع من الأفكار في الأعم الأغلب غير مدروس ولا يقوم على قواعد علمية أصيلة.
حين تنشر قصة ما في تويتر مثلا أو موقف أو حكاية أو تصريح أو حادثة ما، لها مساس بواقعنا الديني أو السياسي أو الوطني أو العقائدي، فإن التصدي لها سوف يكون سريعا، بعضهم يرى أن هذا النوع من المكافحة الفكرية أجدى وأكثر نفعا وقدرة على صد المآرب المرسومة من الآخر، ولكن هناك مساوئ في الأغلب تكون غير منظورة أو كما يقال خفية، فالدوائر التي تتحرك في فضاء وسائل التواصل معدّة لهذه المهمة إعدادا علميا، من خلال المران والتدريب في الحواضن الفكرية والإعلامية المتخصصة لهذا النوع من الحروب الفكرية أو العقائدية.
وإذا أراد من يهمه الأمر معالجة حالات كهذه بدراية، فإن المكافحة الفكرية لا يجوز أن تعتمد التسارع القائم على ردة الفعل، نحن نحتاج الى الكفاح الفكري على الوافد والدخيل، الدخول في معارك ضد الأفكار والثقافات المتضخمة هدف لا يجوز إهماله، ولكن ثمة فارق بين أن تتصدى بعلمية ودراية وثبات وحسم مسبق للنتائج، وبين أن تثور في إطار فكري عشوائي شعبوي ينسف جميع النتائج الطيبة من الجذور، فهذا ليس هدفنا ولا يجب أن يكون، نحن بحاجة الى المكافحة الفكرية القادرة على امتصاص التوتر بذكاء وحكمة وعقليات محنكة.
في عالم اليوم تدور حروب فكرية، ينتج عنها مكاسب وأضرار، فمن يدير هذه الحروب ويتعامل معها بخبرة وتأن هو الذي يقطف في آخر المطاف الثمار الأهم والأجود، بالتأكيد أن المواجهات الفكرية غير المعدّة مسبقا تكون أقل قدرة من سواها على المواجهة، أما تلك المواجهات الانفعالية، فهي عاجزة أصلا عن تحقيق النتائج المريحة.
التركيز إذاً ينصبّ على التخطيط الفكري لخلق منهج للمكافحة الفكرية القادرة على تقليل التوترات بأنواعها لتطفئها من جهة، وتقف بقوة بوجه الأفكار الدخيلة المغرضة من جهة أخرى، بالطبع مثل هذه المواجهات لا يمكن تجنبها خصوصا بالنسبة للعراق المستهدَف، وكذلك لا يمكن مجاراتها أو التعاطي معها بأسلوب غض الطرف، فالمواجهة حاصلة أولا بأول، ولا يمكن تفاديها، فحري على من يهمه الأمر أن يعدّ للأمر ما يستدعي من الإعداد.
ما يحصل في العراق هجمات متعددة الأهداف والأساليب، وما علينا إلا أن نكافحها بأساليب أدق وأقوى وأكثر حكمة وذكاء، فبالإضافة الى أساليب الإضعاف والترهيب وفرض الوصاية وزعزعة الأمن وإشاعة الضعف في النسيج المجتمعي والرسمي، هنالك محاولات فكرية ثقافية محايثة لما يحدث على المستوى المادي، الهدف منها تقويض مشاعل التقدم والأمل المضاءة هنا وهناك، وما نلاحظه من مظاهر المكافحة الفكرية لا يرقى الى سطوة المواجهة الكبرى، فالقضية تحتاج الى وقفة جادة، ودراسات متفحصة، وتخطيط علمي لوضع ركائز وقواعد المواجهة الفكرية الثقافية وإطلاق مشروع التصدي الفكري القادر على مواجهة المآرب المغرضة.
اضف تعليق