حتى الآن يبدو ان رد الحكومة في بغداد على اعلان الاستفتاء الذي تنوي اجراءه حكومة اقليم كردستان في المناطق التي تسيطر عليها (مناطق الاقليم+المناطق المتنازع عليها)، يبدو أنه في طور التبلور ولا تريد الحكومة أن تتخذ قراراً متعجلاً من شأنه إحداث بلبلة إعلامية تؤثر على الإعلام الوطني الذي تحظى به معارك التحرير ضد داعش وخاصة عمليات قادمون يانينوى، وحسناً تفعل الحكومة المركزية للأسباب التالية:
أولاً: إن ما يجري التسويق له من قبل السيد البارزاني ومن وافقه من قيادات حزب الاتحاد الوطني ما هو إلا طوق نجاة للسيد مسعود البارزاني الذي يعاني من مشاكل سياسية خانقة تتمثل في تعطيل البرلمان لعمله وانتهاء فترة رئاسته وتوقف صرف رواتب موظفيه، ولذا لجأ الى ما يثير به عواطف الشعب الكردي واحلامه الطوباوية ليعيد أمجاد العائلة ونضال والده وليكسب مزيداً من التأييد الشعبوي (بإطلاعهم على جزء من الحقيقة)، وإن أية ردود أفعال متشنجة من الحكومة ستوحد الأكراد خلفه ولا نستبعد أن يكون تأييد الاتحاد الوطني له ما هو إلا لقطع الطريق عليه في الحصول على ميزة المدافع عن الشعب الكردي وحامل لواء التحرر والاحلام الكردية.
ثانياً: إن ما يحصل عليه الإقليم وهو ضمن الوحدة العراقية أكثر بكثير مما سيحصل عليه في حال الإنفصال وهذا مثبت في الأرقام ويعرفه السيد مسعود وكل قادة الكرد ولذا فإن ردة الفعل الحكومية يجب أن تنطلق من ذلك، فالكرد هم من سيخسر نعمة الأمان الذي تحقق لهم وكم الأموال الهائلة التي يحصلون عليها من الخزينة العراقية وسيخسرون كل ما تم انجازه في السنوات السابقة (2003-وحتى اليوم) من بناء واعمار وذلك لخلافاتهم الداخلية التي ستنشأ نتيجة الانفصال وتدخل الدول الاقليمية بالداخل الكردي لأنها لا تريد دولة كردية ناجحة الى جوارها وحتى أولئك الذين يراهن عليهم الكرد من دول خارج الإقليم كفرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة فإنهم سيستعملون الكرد لاستنزاف العراق او تركيا او ايران ويُنعشون تجارة أسلحتهم، وسيكون الخاسر الأكبر هو الكرد أنفسهم الذين طالما تعرضوا لخيانة من يساندهم بعد ان يقدموا التضحيات الجسام.
ثالثاً: قد نفترض أن هناك من قادة الكرد من هو حسن النية في أن يسجل لشعبه في هذا التاريخ منجزاً في سجل نضال هذا الشعب من اجل تقرير المصير وبناء دولته المستقلة بهذه الخطوة أي أن يقال بعد عقد من الزمان أو أكثر أن الكرد أجروا استفتاءً في ايلول عام 2017 حول مبدأ الانفصال وكانت النتيجة كذا وكذا ليس أكثر من ذلك، فهذا البعض يدرك ان اقامة دولة كردية صعب مستصعب لا يناله الكرد حالياً وما خطوتهم هذه إلا خطوة في درب الألف ميل. لذا فإن ردة الفعل يجب أن تتوازى مع هذا المقدار وإن أي مبالغة فيها ستعضد من استثمار الدول التي لها أجندات بإغراق العراق في فوضى مستمرة فالحكمة تقتضي تهوين الأمر وليس تعظيمه والمبالغة في آثاره.
رابعاً: لنفرض جدلاً أن الكرد مصممون على الانفصال وان النظام السياسي الدولي ساعٍ باتجاه ذلك، وان ايران وتركيا ليس بمقدورها أن تغير شيئاً مما رسمته الدول العظمى، وان للسيد مسعود البارزاني أدواته في تحقيق الانفصال وأنه قد ثُنيت له الوسادة في حكم كردستان وإقامة دولته المستقلة، وإنهم أي الكرد مصممون على تجاوز الدستور العراقي الدائم في المادة (1) والمادة (109) وأن النزاع معهم أو الاعتراض عليه يعني المواجهة المسلحة، لنفترض كل هذا فماذا تقتضي الحكمة أن ندخل حرباً جديدة مع إقليم كردستان بعد ان انتهينا من حرب داعش أم نتحاور للوصول الى حل يرضي الطرفين؟
تجارب الدول والسياسة علمتنا أن الصراعات الأهلية تصل الى ذات النتائج بعد سنين من القتال والاهوال وأن منطق القوة قد ينجح ولكن لأجل وأن الأجيال اللاحقة ستتساءل عن جدوى خسارة آلاف الضحايا ومليارات الدولارات ثم العودة الى ماكان مطروحاً من بداية النزاع. وأقرب مثال لنا هو السودان أو يوغسلافيا.
خامساً: إن الوطنية الصادقة تقتضي النظر في عالم الممكنات والربح والخسارة حسب الممكن وإن أي سياسي ينساق وراء المشاعر والعواطف ليغامر بأرواح ابناء وطنه دون حساب وتقييم لا يسمى وطنياً وأن دولاً تملك أسلحةً نووية لم تجازف بالحروب الأهلية فسمحت بإجراء استفتاء لاحد أقاليمها بالانفصال، في حين أنها تحركت ألاف الكيلومترات لاسترجاع جزر عائدة لها أو انها محل نزاع بعد أن تيقنت ان النصر حليفها فهي تستخدم قوة المنطق لا منطق القوة كما يقال تلك هي بريطانيا في قضية استقلال اسكتلندا (عام 2015) إذ أجازت الاستفتاء ولكنها في قضية جزر الفوكلاند (عام 1982م) استعادتها بالقوة من الارجنتين. يكفينا مزايدات وطنية لا تمت الى الوطن بصلة. فلدى الحكومة ما يكفي من الأدوات والوسائل لإدارة هذا الملف وبالطريقة التي تضمن أحسن النتائج.
اضف تعليق