اعادت الخطوة التي قام بها تنظيم "داعش" مؤخرا بهدم وتحطيم تماثيل اثرية يعود عمر بعضها الى الاف السنين (من بينها بوابة "نركال" التي تعود للفترة الاشورية، اضافة الى الهلنستية والأكادية وتماثيل للملك سنحاريب)، في الموصل، الى الذاكرة الدولية، ما قامت به حركة طالبان عام 2001، بعد ان سيطرت على افغانستان بالكامل، بتدمير تمثالان أثريان ضخمان منحوتان على منحدرات وادي باميان في منطقة "هزارستان" في وسط أفغانستان، رغم المناشدات الدولية الكبيرة التي حاولت التواصل مع جماعة طالبان لإيقاف تدمير ارث انساني كبير.
ومع ان داعش قد دمر ونهب عشرات المواقع الاثرية والدينية في سوريا والعراق، منذ عام 2013 وحتى اليوم، الا ان المجتمع الدولي تأثر كثيرا من تدمير اثار متحف الموصل، والطريقة التي تعامل بها عناصر التنظيم مع التماثيل والاثار، معتبرا ان نصرا كبيرا قد تحقق بهدم هذه الاثار، كما اعتبرها زعيم طالبان "الملا عمر" نصرا للمسلمين، كما نقلت صحيفة ذي تايمز عنه قوله "يجب أن يكون المسلمون فخورون بتحطيم الأصنام، ويجب حَمد الله أننا قد دمرناها لهم"، وفي كلا الحالتين كان التهديم جزءا من اقامة "الخلافة الاسلامية" المفترضة، وتطبيق حدود الشريعة الاسلامية، حسب تفسير هذه التنظيمات المتشددة.
دافع ديني ام مادي
توالت العديد من التقارير التي اعقبت عملية التدمير، والتي اشارت بمجملها ان تنظيم داعش قام بعملية الهدم كتغطية على عمليات بيع الاثار التي يقوم بها على نطاق واسع وبالتعاون مع مافيات عالمية لتهريب الاثار، وبحسب تصريحات وكيل وزارة السياحة العراقي "قيس حسين رشيد"، اكد فيها ان تنظيم داعش "يقوم بنهب محتوياتها من النفائس والموجودات الثمينة لغرض تهريبها إلى خارج البلد وجني أموال طائلة من بيعها وبالتالي ايجاد مصادر تمويل جديدة لتنفيذ عملياتهم الإجرامية وتوسيع نفوذهم"، فيما اشار النائب العراقي "هاشم الموسوي" الى ان "المنظمات الاجرامية باعت اثار الموصل الى دول معادية لشعب وحكومة العراق قبل تهديمها من اجل ان يكون لها مردود مالي بعد ان تم تضييق الخناق على مصادر تمويلها"، وقد رصدت العديد من الدول الغربية اثارا عراقية وسورية مسروقة من مواقع اثرية خاضعة لسيطرة داعش في العراق وسوريا، ويأتي هذا الامر في سياق تواتر الاخبار حول ضائقة مالية يمر بها التنظيم بعد أسبوعين من تبني مجلس الأمن قرارا هدفه تجفيف مصادر تمويل تنظيم الدولة الإسلامية، بما فيها تهريب القطع الأثرية، كما اشارت صحيفة "الفايننشال تايمز" في تقرير لها، بان التنظيم يعاني فعلا من ضائقة مالية بعد "تعرض تنظيم الدولة الاسلامية لخسائر مادية مما أدى إلى توقفه عن دفع رواتب بعض المقاتلين"، ما اجبره على "الحد من انفاقه على دعم الوقود والخبز، مع ابتزاز النقود من أهالي المناطق التي يسيطر عليها".
ومع ان تهديم الاثار، امر شرعي من وجهة نظر التنظيم، فان التعامل في بيع وشراء الاثار امر محرم ايضا من وجهة نظرهم الشرعية، لذا غالبا ما يلجأ التنظيم الى الابواب الخلفية لإدارة تجارته "غير الشرعية" والتي تدر عليه ارباحا سهلة وسريعة، لكن ومن اجل توفير الغطاء الشرعي والديني للتنظيم (الذي يستمد قوته وشرعيته منه)، لابد له من تهديم بعض "الاوثان" المخالفة لشريعة داعش، وبيع الاخر تحت عباءة التهريب والفوضى، وكما قال رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" في كلمة له خلال افتتاح المتحف العراقي ببغداد، ان "عصابات داعش الارهابية دمرت البعض وهربت البعض الاخر، وعملية التهريب قائمة على قدم وساق بمعاونة مؤسسات وجهات من الخائنين".
الاثار والاقليات
ثمة ربط غريب بين الاقليات والاثار في العراق، فداعش عندما توجه بآلته الحربية المدمرة نحو شمال العراق ركز جل همه على محاربة "الاقليات" و"الاثار" في تلك المناطق الغنية بالتنوع الاثني والديني والاثار الانسانية الموغلة في القدم، كما في الحديث الذي اثير عن التغييرات الديموغرافية واعادة ترسيم الحدود (سايكس بيكو جديد في الشرق الاوسط) وهدم التراث الديني والانساني، الذي قام بها تنظيم داعش، والمقصود من ورائها اهداف تتجاوز حدود الهجمة الارهابية او الدوافع التكفيرية.
ان هذا الحديث، لم يعد مجرد فرضيات لا تستند على ارض الواقع، ففي كل يوم يمر، تبرز على سطح الاحداث وقائع جديدة تشير الى عمل متقن يهدف الى افراغ العراق من مكوناته الاثنية وتراثه الديني والانساني، وهو واقع له مديات سياسية وجغرافية تتصل بدول الجوار مثلما تتصل بدول كبرى لها مصالح في اعادة ترسيم الحدود السكانية للعراق، ضمن مخطط يبدأ بتهديم الجذور التاريخية التي تنتمي اليها المجتمعات والاقليات التي استوطنت العراق منذ آلاف السنين، ومع ان منظمات دولية وخبراء وشخصيات وقادة بارزين قد حذروا من عمليات التهجير القسري والابادة الجماعية التي تجري ضد الاقليات الدينية والعرقية في العراق، اضافة الى التهديم والتدمير والنهب للأثار التاريخية في العراق، والتي تجري بوتيرة متسارعة ومتناسقة في العراق، الا ان الاستجابة لهذه التحذيرات جاءت بصورة ضعيفة للغاية ودون المستوى المطلوب من لدن المجتمع الدولي او من الحكومة العراقية.
اضف تعليق