يعد التمثيل السينمائي والفن بشكل عام واحدا من اهم عناصر القوة الناعمة للدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ وذلك من خلال الصور التي يتم إرسالها إلى الرأي العام المحلي والدولي، بغض النظر عن طبيعة تلك الصور وغاياتها ومدى منفعتها، وقد تكون تلك الصور هي انعكاس لطبيعة تفكير الدولة أو النظام السياسي في البيئة الداخلية والإقليمية ‘‘على أقل تقدير‘‘ أو عادةٍ ما تفسر السلوك السياسي للنظام الحاكم وتحركاته المستقبلية على الساحتين الداخلية والخارجية.
كتلك التوجهات التي تعكسها الدراما التركية من خلال بعض منتجاتها مثل مسلسل "حريم السلطان"، أو ما تعكسه الدراما السورية من خلال مسلسل "باب الحارة" أو غيرها من المنتجات الفنية التي تظهر حالة التمدن والمدنية والتطور العمراني في بعض الدول العربية، كتلك البرامج التي تنتجها القنوات التلفزيونية الإمارتية وغيرها من دول الخليج أو الاعمال الفنية التي تساهم في تلميع صورة الدولة على الصعيد الخارجي كما هو الحال في إيران، إذ يشكل الفن الإيراني من خلال ما يسمى بالفن السابع في ايران احد مظاهر القوة الناعمة على الصعيديين الفني والثقافي مثل فلم "محمد رسول الله"، الذي انتجته السلطات الإيرانية بتكلفه 40 مليون دولار، في اضخم انتاج سينمائي إيراني أو مسلسل "يوسف الصديق"، وغيرها من المنتجات السينمائية الإيرانية التي حسنت صورة الدولة الإيرانية في المحيط الإقليمي والإسلامي، وتمثل هذه المنتجات الفنية انعكاسا لتطلعات الدولة الإيرانية المستقبلية، وهي بنفس الوقت مؤشرات تكاملية على قوة الدولة على جميع المستويات؛ لأن الدولة التي تنتج عمل سينمائي بتكلفة 40 مليون دولار، حتماً تبحث عن مستقبل سياسي وفني كبير على الصعيد الإقليمي والدولي.
فضلاً عن ذلك فإن حالة التطرف التي تشهدها المنطقة والأنظمة العربية لا بد أن يكون للفن والدراما العربية دوراً في مكافحتها؛ لأن الحكومات بمفردها لا تستطيع التعامل مع الإرهاب من الناحية الفكرية، بل لا بد من تدخل الفنانين والأدباء والمفكرين، وحلقة "داعش" التي عرضت في مسلسل "سيلفي" كانت من أهم الحلقات تأثيرا في المجتمع.
الفن بما يعكسه من صور وسيناريوهات له تأثير كبير في تهذيب حياة الفرد والمجتمع أكثر من أي شيءً آخر. فالكيانات السياسية التي بنيت بشكل رهيب داخلياً وخارجياً لم تركز فقط على بناء القوة الدفاعية لها والعدد الهائل للجيوش وعسكرة المجتمع والاقتصاد القوي، بل انها امتلكت إشعاعا ثقافيا رمزيا يحمل على الإعجاب والانبهار بنموذج وطني مجتمعي متميز. وأن الدبلوماسية الثقافية التي تعد واحدة من أبرز عناصر القوة الناعمة بما تعنيه من تبادل للأفكار والمعلومات والفنون وباقي مجالات الثقافة بين الدول، تمثل عملية تواصل ناجحة في العلاقات بين الدول وتنقل لشعوب أخرى عناصر فهم حياة وثقافة شعب معين، وهي مرتبطة بحلقة أكبر، يمكن أن نسميها بالمصلحة الوطنية للدولة.
"فالمبادلات الثقافية تنمو وتتطور خارج نطاق عمل الحكومات: السياحة، الأدب واللغات، الفنون، لكن هذه العناصر لا تكتسي صفة الدبلوماسية ولا تدخل في تشكيل القوة الناعمة إلا حينما تندمج في سياق برامج واستراتيجيات مفكر فيها بالنسبة لبلد معين يجعلها في خدمة مصالحه الوطنية.
وبهذا الصدد يقول الدبلوماسي البريطاني "أنتوني بارسونز" "إن استأنست بلغة أحد وأدبه، إن عرفت واحببت بلاده، ومدنها، وفنونها وشعبها، ستكون مستعدا بشكل لاشعوري لاقتناء ما تريده منه أكثر من مصدر لا تعرفه بدقة، ولدعمه حين تعتبر أنه على صواب، ولتجنب معاقبته بقسوة إن أخطأ".
ويمثل التسامح السياسي والديني والتطور العمراني والحضاري قوة ناعمة روحية لأي دولة، وهذه القوة لا يمكن نقلها إلى العالم الآخر بطريقة تلقائية، ان لم يكن هنالك ابداع فني وسينمائي وإعلام وطني مدعوم قادر على ايصال النشاطات الفنية بحرفيه عالية، والعكس صحيح، قد تساهم الاعمال الفنية والسينمائية في اسقاط هيبة الدولة داخلياً وخارجياً، واضعاف لقوتها الناعمة في العلاقات الثقافية والمجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعينة بهذا الشيء.
وبهذا الخصوص من الممكن أن نطرح بعض التساؤلات، وربما هذه التساؤلات تشغل بال الكثيرين من المختصين: ما الذي قامت به الحكومة العراقية بفروعها الثقافية وإعلامها وامكاناتها السياسية والفنية من أجل تطوير أهوار العراق، لاسيما بعد أن أدرجتها الأمم المتحدة على لائحة التراث العالمي؟ هل بادرت إلى تطوير تلك المنتجعات والمسطحات المائية؟ هل وضعت استراتيجية للنهوض بالواقع السياحي في تلك المسطحات؟ هل بادرت وزارة الثقافة العراقية إلى رعاية مشروع ثقافي أو عمل فني عراقي-عربي "مشترك" يساعدها في تسويق الطبيعة السياحية لتلك المناطق إلى العالم الآخر، إعلاميا "على اقل تقدير"؟.
لا تختلف منتجات الدراما العراقية ونشاطات وزارة الثقافة العراقية بعد العام 2003 عن الواقع البائس للعملية السياسية في العراق، فما زال الممثل العراقي في أغلب اعماله الفنية يعكس تلك الصورة البائسة للمجتمع العراقي، لاسيما في جنوب العراق (بلهجته وطبيعة لغته ومظهره الخارجي، فضلاً عن انحطاطه الثقافي والعلمي)، تعكس ثقافة ذلك الفرد الذي يهدف إلى رعاية اغنامه وابقاره والباحث عن الثأر العشائري وترسيخ دور العشيرة، متناسية الطبيعة المثقفة لتلك البيئة التي انجبت الكثير من المثقفين والفنانين والشعراء!، متناسية حضارة تلك المدن عبر التاريخ!.
فشبكة الإعلام العراقي متمثلة بقناة "العراقية" وهي -المعنية بذلك أكثر من غيرها- نرى بأن اعمالها الفنية لشهر رمضان الحالي كما في السابق مقتصرة على منتجاتها التمثيلية والمشاهد التصويرية التي تركز على ابن الجنوب بتقاليده القديمة من خلال مسلسل "السركال"، وبعض البرامج التي تعكس حالة التخلف الفكري والعنف المجتمعي والانحطاط الثقافي من خلال المشاهد التصويرية الأخرى مثل الكاميرا الخفية الذي يعرض ببرنامج على قناة العراقية تحت اسم "زوجوني".
فالفن والإعلام هما اللذان ينقلان المفاهيم الفنية للقوة الناعمة من الميدان النظري إلى الميدان العملي، من بطون الكتب إلى ساحات الفن عبر المشاهد التصويرية والأعمال الفنية، ولهذا فنحن بحاجة إلى:
1. قراءة عميقة لمجمل التاريخ العراقي وحضارته العريقة التي من الممكن أن تساهم بنهضة ثقافية على المستويين الداخلي والإقليمي.
2. الاهتمام بالأماكن السياحية العامة على كافة المستويات.
3. نبذ تلك المشاهد الفنية التي تركز على ابن الجنوب المتخلف، والاهتمام بالجوانب الأكثر تأثيراً من خلال مخاطبة العقل العراقي والعربي بشكل عام.
4. مواكبة حالة التطور الثقافي والانفتاح الفكري التي خلقتها سياسات العولمة، فالعالم تغير كثيراً بفعل ثورة الاتصالات والتفاعلات البشرية، وتراجعت الحدود وتغير كثير من المفاهيم القديمة، وهذا بالتأكيد له تأثير كبير في نقل القوة الثقافية للآخرين، فضلاً عن مساهمته في زيادة قوة الدولة الناعمة.
5. التخلص من الموروث التاريخي السلبي وتجلياته الحالية.
6. خلق أعمال فنية منافسة للدراما التركية والهندية المدبلجة، والتي بدأت تغزو مجتمعاتنا بشكل رهيب.
7. خلق إعلام وطني "هادف ومدعوم" قادر على المنافسة العربية والإقليمية، على غرار قنوات الجزيرة القطرية أو قنوات العربية التابعة للمملكة السعودية وغيرهما من الفضائيات البارزة في هذا المجال.
8. التأكيد على التسامح السياسي والديني، وخلق منظومة دينية معتدلة مساندة لرؤية الدولة الهادفة إلى رفاهية المجتمع وتطلعاته المستقبلية.
اضف تعليق