تتعدد شخصيات البشر بحسب ما يمتلكونه من مواهب وإمكانيات، منهم ما هو ضعيف منعزل لا تأثير له في مجريات الحياة، ومنهم من تؤثر كلمته وفكره وسلوكه، لدرجة يمكن معها أن يغيّر أمة ويبني دولة كبرى، ولسنا هنا في سياق الحديث عن الشخصيات التاريخية التي أنقذت أممها من الضعف والتشرذم والانحدار، ومن الجدير بالذكر أن تاريخنا نفسه كمسلمين وعرب، يضم في حناياه أسماء عملاقة لا تمحى من الذاكرة، لشخصيات حفرت بصمتها في الوجدان الجمعي، حتى صُيَّرت كرموز يُشار لها بالفخر والعرفان.
كيف إذاً نمت وتشكلت هذه الشخصيات، هل وجدت نفسها بغتة حيال المسؤوليات الكبرى، أم أنها تدرجت في الدراسة والفهم واكتساب الخبرات، لتستقر في آخر السِفر الطويل على سدّة المنصب والإدارة والتنظيم، بلى إنها شخصيات قيادية مؤهَلة لهذا الفعل، ما خلا البعض الذي يرمي بنفسه في قلب المعمعة، ظنا منه أن عمليات الإصلاح وإدارة الدولة أمر هيّن، كلا فالبناء أصعب من الهدم، ولا يمكن لمن لا يحمل عقلا استراتيجيا وصبرا وحنكة وإرادة وإخلاصا وبصيرة نافذة، أن يفعل ما فعله كبار الشخصيات التاريخية.
بعض المسؤولين ممن ساقتهم الأقدار نحو المناصب الحساسة، أو ساقت تلك المناصب جزافا نحوهم، تسببوا في ضعضعة أمم بحالها، وأسهموا في تدمير دول وأحالوها الى ركام من العبث والتخلف والاعتباطية المدمِّرة، والأمثلة تتجسد في بعض القيادات والأنظمة لبعض الدول الإسلامية ومعظم الدول العربية، وما يقف وراء هذا الانحطاط، هو سبب أساس مرئي وملموس، توصيفه سهل على المراقب المتمرن، إنها خطيئة انشغال المسؤول بالتوافه، وفقدانه للبوصلة التي توجّه مساره باتجاه الإصلاح الأعمق والأكبر والأهم.
في كلمة قيمة للمفكر الإسلامي القدير سماحة الإمام الشيرازي، يحتك بلا مهادنة بهذا الخلل المهلك، ويشير سماحته الى الانشغال الشائن بالإصلاح السطحي على حساب الإصلاح العميق، فما يراه في هذا المسعى لا يحتاج الى تفسير، إنه أكثر وضوحا من أية أبجديات، أو أولويات، فيرى سماحة الإمام أنه: (على ممارسي التغيير أن لا ينشغلوا بالأمور الجانبية التافهة، والإصلاحات السطحية البسيطة، فإن الانشغال بالتوافه يمنعهم عن الوصول إلى أهدافهم/ المصدر كتاب ممارسة التغيير/ الإمام الشيرازي).
في البلدان الإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص، لم نرَ وجودا للمسؤول الإستراتيجي، ويُقصَد به حامل العقل الجامع، والرؤية الأعمق والأدق، والإرادة المنظّمة، وقبل هذا وذاك، في واقع الحال لم نعثر على شخصية مسؤول قادرة على الزج بالتأثير الحيوي بين الأوساط الجماهيرية، لينتهي الأمر الى لمّ الشمل وتوحيد القوى، ورصف الإرادات ولصقها الى جانب بعضها، فمجموع إرادة الأمة تكون من صنع المسؤول، ولكن أي نوع من المسؤولين هو؟، إنه ذلك الذي يحيلنا الى الرموز التاريخية العملاقة في مسيرتنا عبر القرون، أولئك بنوا لنا تاريخا وأمة ودولة، عندما كان الإصلاح الكبير هدفا لهم لا يحيدون عنه قيد أنملة، إنهم أهملوا النوع الجانبي أو الترقيعي من الإصلاح، وانشغلوا بعمق وصدق وتخطيط وإخلاص بنوع أهم وأكبر من الإصلاح، ذلك ما يُنعَت بالكبير الإستراتيجي بعيد المدى.
لأنه يوجد (للإنسان قدرتان - مهما كان ذلك الإنسان عظيماً- هما قدرة الإصلاح الجانبي، وقدرة الإصلاح الكبير/ المصدر السابق نفسه/ الإمام الشيرازي).
هل يمكن أن يكون سبب الخراب الذي حلّ بالمسلمين أمةً ودولاً، يعود الى غياب المسؤولين القياديين العاملين بالإصلاح الأهم والأكبر؟، أترى أن الأجيال المعايشة اليوم للتخلف، هي ضحية القادة المنشغلين بالتوافه؟، لو أننا اقتحمنا بطون التاريخ، ونبشنا ذلك الكم الهائل من الأخطاء المتراكمة، أترى أننا سوف نعثر على ضالتنا؟، في أي حقبة قيادية نغوص، هل نتصفح ونمحّص الحكم الأموي، أم العباسي، أم العثماني، أم الملكي، أم الجمهوري وعهد الانقلابات العسكرية المخزية؟، من أي خراب سياسي نبدأ النبش كي نطّلع على أسباب مأساتنا الحاصلة الآن، والتي يريد التاريخ نفسه أن يتنصل منها بأيدي المأجورين، مثلما يسعى المسؤولون الى تسويفها وتغطيتها بغربال يعجز عن حجب الأدلة، للتغطية على عجزهم.
لو قيّض لنا الحصول على قادة أتقنوا التعامل مع الإصلاح الكبير، لاختلفت أوضاعنا، ولتغير مآلنا، لدرجة يمكن الجزم معها، بأن الجانب الأكبر من أسباب ما يحصل للأمة، هو انشغال قادتنا ومسؤولينا بالتوافه، والصغائر، والإصلاح السطحي، ولأننا لم نحظَ بقادة من طراز قادتنا الأوائل، أولئك الذين بنوا من اللاشيء أمة ودولة كبرى وفكر عظيم بلغ آخر أطراف الأرض، والنموذج هنا محمد بن عبد الله (ص)، الذي صنع من التعصب فكر نيّر، ومن التوحّش والتطرف قاعدة إنسانية غزا بقيمها العالم.
فيما قادتنا المعاصرون مشغولون بما لذ وطاب من الصغائر، فضاعت جهود الأولين، واندرس ذلك الجهد الفكري العملي الأعظم، تحت أقدام الخطيئة التي أنشأها وأدامها قادة لا يعرفون من فن القيادة سوى الامتيازات والاستحواذ والأنانية والسحت، والطامة الكبرى، أن الناس على دين ملوكهم، يفعلون ما يفعل القادة، ويتشبهون بهم تفكيرا وأفعالا، فانشغلت الناس بالصغائر أيضا تمثّلا بالقادة، فضاعت الرؤية السليمة وتخلف الجميع عن الركب.
وهكذا فـ (إن الانشغال بالتوافه يعد من سمات المجتمع الجاهل المتخلف مما يسبب اشتغال الناس بالتوافه المخجلة أحياناً بدل الاشتغال بعظائم الأمور/ المصدر نفسه/ الإمام الشيرازي). الإنقاذ ليس مستحيلا، انه يكمن في فهم معطيات الحاضر، ودراسة الماضي بدقة، واستنباط سبل الإصلاح، على أن يكون إصلاحا عميقا كبيرا، لا يدنو منه الرديء المنافي للنهج السليم.
اضف تعليق