أصبح الحديث عن تجديد الفكر الديني متداولا بشكل كبير في مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم، وصار يستقطب الكثير من الاهتمام في الأوساط المثقفة، خصوصا تلك المهتمة بتطوير خطاب ديني مواكب للعصر ومتوائم معه كما يردد البعض.

لا أحد يجادل في أهمية هذا العنوان، أي تجديد الفكر الديني، إلا أن هناك العديد من الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها قبل الحديث في التجديد أو المطالبة به، ويمكن أن نطرح بعضها كالتالي:

أولا: ما المقصود بالتجديد الديني؟

غالبا ما يكون الحديث عن التجديد دون تحديد دقيق للمصطلح، مما يعني غياب الإطار المفهومي واختلاف التصورات والاستنتاجات تبعا لذلك. فمن السهولة أن ندعو للتجديد العائم الغائم فيستقطب خطابنا الكثير من المؤيدين الذين لكل واحد أو فئة منهم تصور خاص عن التجديد يختلف عما لدى الآخر، وربما يتعارض معه أشد التعارض. لذا فإنه يلزم من ناحية منهجية تحديد مرادنا من التجديد قبل الخوض فيه مطالبة أو تأييدا أو معارضة. فالأمر كما يقول ابن الرومي في جوابه لطلب غَرِيرٍ بحسن (وحيد) وصفها: "يَسهل القولُ إنها أجمل الأشياء طرا ويصعب التحديدُ".

البعض يعني بالتجديد استحداث أدوات جديدة لقراءة النص الديني، والاستفادة من النظريات الجديدة في حقل علم المعرفة، وهو ما قد يقود إلى نتاج جديد على صعيد الرؤى والفتيا. والبعض يعني به إحداث تغيير في الخطاب الديني ليكون أقرب إلى حاجات الناس وأفهامهم. بينما يرى بعض آخر أن التجديد هو تبديل بعض القوانين والأحكام الشرعية التي لا تتوافق من وجهة نظرهم مع العصر بأخرى أكثر ملاءمة؛ إما بحجة تعارضها مع بعض مقررات حقوق الإنسان ذات المرجعية الغربية، والمعترف بها عالميا، أو بحجة عدم صلاحيتها باعتبارها أحكاما تاريخية كانت تخاطب مجتمعا وحاجات مختلفة، كما يقولون. ويرى بعض رابع بأن التجديد مساوق لمخالفة السائد، فكل نتاج يتوفر على عنصر المخالفة يعتبر تجديدا بغض النظر عن مدى وجاهة المخالفة وعلميتها. وبعض خامس وسادس وهكذا....

من هنا فإن تحديد المصطلح مهم جدا، إذ بدونه سيكون الحديث أقرب إلى حوار الطرشان، ولن يمكن تحديد الممارس بحق للتجديد من غيره، فكل يدعي وصلا بليلى.

ثانيا: ما هي ضوابط التجديد وآلياته؟

من المسلم به في أي حقل من حقول العلم والمعرفة أنه لا يمكن أن يُنسَب منتج لذلك الحقل إلا إذا كان متماشيا مع المعايير والضوابط التي تحكم الإنتاج فيه. فمثلا قد يدعي أحد اكتشاف دواء جديد لمرض ما، ولكن ذلك لن يكون مقبولا في الوسط العلمي المختص بالدواء إلا إذا ثبت من خلال سلسلة طويلة من الإجراءات والضوابط والاختبارات الصارمة فعاليته وصلاحيته، وحُددت تركيبته بدقة والجرعات المناسبة وتأثيراته وما إلى ذلك.

وإذا كان هذا ضروريا لأي منتج، فإنه في الحقل الديني أكثر ضرورة وأهمية. فلا يمكن أن يكون إنتاج الفكر الديني دون ضوابط وآليات محددة تكشف عن قيمة الفكر المنتَج ومدى جِدّته وسلامة طريقة إنتاجه. إن تحديد تلك الضوابط والآليات يكون كما هو الأمر في أي مجال آخر للمختصين الذين يستطيعون التمييز بين التجديد الحقيقي وغيره. قد يقول البعض بأن هذا يمثل احتكارا لإنتاج المعرفة الدينية على فئة معينة، وهو قول يثير العجب في عصر التخصصات الدقيقة التي تعترف لكل صاحب اختصاص بمرجعيته وتحترم رأيه فيه. فهل إنتاج الفكر الديني استثناء؟!

يمكن بالطبع لغير المختص أن يساهم بدور فعال في التمهيد لإنتاج فكر ديني جديد من خلال إثارة الأسئلة والإشكالات وإبداء الرؤية الثقافية، أما نفس الإنتاج فيبقى متاحا لمن يمتلك أدواته.

ثالثا: ما هي دائرة التجديد؟

هل يطال التجديد كل القوانين والتشريعات المنظمة لحياة الإنسان ابتغاء مواكبة المستجدات والعصرنة، أم إن دائرته أضيق من ذلك؟

معلوم أن حاجات الإنسان منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير. والإسلام باعتباره الدين الخاتم قد وضع لكل حاجات ما يناسبها، فللثابت قوانين ثابتة، وللمتغير قوانين متغيرة. يقول المرجع المعاصر الشيخ السبحاني: إنّ هنا أحكاماً وخطوطاً عريضة تمثل القاعدة المركزية في التشريع الإسلامي وهي مصونة عن التحوّل والتبدّل، مهما اختلفت الأوضاع وتباينت الملابسات. وهناك أحكام متفرّعة على تلكم الخطوط، مستخرجة منها، بإمعان ودراية خاصة، يستنبطها الباحث الإسلامي باستفراغ وسعه على ضوء هذه الخطوط العريضة، بشرط أن لا يصادمها، وهذا القسم من الأحكام يتجدد بتجدد العهود وتباين الظروف وتعدّد الملابسات واختلاف الشرائط.

ولعل من أهم الأسئلة التي ينبغي أن تطرح في هذا الموضوع هو سؤال: لماذا تجديد الفكر الديني؟

ويمكننا أن نرصد في هذا الصدد لدى الداعين إلى التجديد إجابات متعددة ومتنوعة ينطلق كل منها من داعٍ مختلف:

الحاجة الملحة للإجابة على الأسئلة المستجدة الناشئة عن تطور العصر والتي لم تكن في الماضي. فما دامت الحياة في تطور دائم وتغير مستمر، فإن موضوعات جديدة تُستحدث أو يطرأ على أخرى قديمة بعض التغيير في أحوالها وظروفها، مما يستدعي تقديم إجابات جديدة لها، بعد التسليم بشمولية الدين لكافة مناحي الحياة الإنسانية واستيعاب تشريعاته لها. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا كمسائل بيع الأعضاء وبيع الدم، والاستنساخ، والصلاة في الجو أو في الكواكب الأخرى، ومسائل حقوق التأليف والاختراع والنشر، ومسائل الإعلام والإنترنت وحرية التعبير، ومسائل التجارة الإلكترونية وغيرها.

مواجهة التحدي الحضاري المتمثل في منظومة الحضارة الغربية الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأسسها الفلسفية. فهذه الحضارة التي نتفاعل مع منتجاتها طوعا أو كرها تتدخل في تفاصيل حياتنا، وتعيد صياغة عقولنا وترتيب أولوياتنا، وتُطعمنا الكثير من المفاهيم، وتسقينا ما تشاء من القيم. وحتى نحد من الاستلاب الحضاري أو نمنعه ينبغي القيام بعملية تجديد في الفكر الديني في مختلف الحقول وإنتاج نظريات مستنبطة من الأدلة الدينية تقدم البديل الموازي، سواء في حقل الفكر أو التربية أو الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد أو غيرها.

الحاجة إلى إبداع نموذج حضاري منافس في الساحة الدولية، يتمتع بالإغراء والجاذبية للمسلمين وغير المسلمين. والفرق بين هذا والذي قبله أن الثاني يتأسس على رد الفعل، بينما يتأسس هذا على الفعل والمبادرة. كما إنه قد يكون أكثر قدرة على قراءة نتاج الآخر بإنصاف وموضوعية. وهذا ما كانت تطمح لتحقيقه الحركات الإسلامية بشكل عام، وإن لم تنجح في فعله على أرض الواقع، ولكن أدبياتها تبشر بمثل ذلك دائما، وتحاول رسم بعض ملامحه ومعالمه.

الحاجة إلى إنجاح مشاريع الحوار والتقريب مع الآخر الديني أو المذهبي. ففي رأي من يطرحون هذا الداعي أو بعضهم على الأقل أن نجاح تلك المشاريع يتطلب تجديدا في فقه العلاقات البينية، وربما كما يرى البعض غربلة التراث وتنقيحه من كل ما قد يتسبب في تعكير أجواء الحوار وإفشال التقريب.

الاستجابة لمتطلبات ضرورة الواقع، كما حدث مع التجربة الإيرانية بعد سقوط نظام الشاه. فقد واجهت تلك التجربة منذ انتصار الثورة عام 1979 حاجة ملحة لإنتاج قوانين جديدة في فقه الدولة لسد الاحتياجات الواسعة التي لم تكن محل ابتلاء في الماضي، مما جعلها خارج متن المدونة الفقهية قبل ذلك.

الاستفادة من النظريات الحديثة في حقل المعرفة والألسنيات وقراءة النصوص للوصول إلى فهم جديد للدين يتناسب وعصرنا الراهن. فهذه النظريات يمكنها بحسب الداعين لها تطوير أصول فهم النص الديني، مما سينتج عنه معرفة دينية جديدة. نحن لا نجادل في ضرورة الاستفادة من تلك النظريات في الجملة، ولكن البعض كالدكتور سروش ذهب في هذا الاتجاه بعيدا جدا حين رأى أن كل المعارف الإنسانية مترابطة، وبالتالي فإن أي تغيير يطرأ على زاوية من زواياها سوف يلقي بظله على سائر فروع هذه المعرفة، ومنها المعرفة الدينية بالطبع.

الحاجة لتجديد الخطاب الديني ليكون أقرب إلى أفهام الناس وواقعهم من ناحية، وليكون أقرب إلى لغة العصر من ناحية أخرى. فالرسائل العملية مثلا التي هي فتاوى المراجع والمفروض أن يرجع لها عامة الناس ليأخذوا منها أحكامهم الفقهية ينبغي من وجهة نظر الداعين لهذا تبسيطها وتخليتها من التعقيد اللفظي والمعنوي ومن المصطلحات العلمية البحتة، كي تحقق أهدافها بسهولة. وقد شهدنا مؤخرا بعض التجارب في هذا المجال، كما شهدنا طرح عناوين جديدة مستقلة كفقه الطب والمرور والأسرة والبيئة وغيرها.

الحاجة إلى إنتاج جديد يُبرز النزعة الإنسانية في الدين، ويدافع عن اهتمامه بحقوق الإنسان، ويبين موقفه من الحرية والديمقراطية والمساواة والمواطنة وغيرها من مسائل العصر الكبرى.

هذه بعض الأهداف التي يذكرها دعاة التجديد لتبرير دعواتهم. وهي أهداف مختلفة لا تتفق بلا شك في درجة أهميتها وإلحاحها، لذا فإن التعرف عليها مهم جدا.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق