هذا الخلق الرباني العظيم (العفو عن كثير) ينبغي أن نستحضره ونتمثله في حياتنا. فكما نطلب من الله أن يعفو عنا ويتجاوز عن خطايانا، فإن من المهم جدا أن نمارس العفو ونجعله من خصالنا، لأنه خلق كريم يقربنا من ساحة التقوى، تماما كما يفعل العدل..
ورد العفو (عَنْ كَثِيرٍ) في القرآن ثلاث مرات، منها قوله تعالى في سورة الشورى: (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) حيث يظهر منها أن هناك ارتباطا بين ما يصيب المجتمعات من مصائب تحُلّ بها وبين ما تكسبه من المعاصي والذنوب والآثام؛ مع أن الله تعالى بلطفه وكرمه يعفو عن كثير منها، أي يصرف النظر عنها، فلا يؤاخذهم بما كسبوا. كما قال تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) وقال: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ).
فما ينزل بالمجتمعات من فساد في حياتها هو نتيجة لآثار بعض وليس جميع ما ترتكبه من السيئات. يظهر ذلك من قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). يقول صاحب الميزان: "والمراد بالفساد الظاهر المصائبُ والبلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل وقطع الأمطار والسنين والأمراض السارية والحروب والغارات وارتفاع الأمن وبالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضي سواء كان مستندا إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه. فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر مخل بطيب العيش الإنساني". ويؤكده قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ).
إن هذا الخلق الرباني العظيم (العفو عن كثير) ينبغي أن نستحضره ونتمثله في حياتنا. فكما نطلب من الله أن يعفو عنا ويتجاوز عن خطايانا، فإن من المهم جدا أن نمارس العفو ونجعله من خصالنا، لأنه خلق كريم يقربنا من ساحة التقوى، تماما كما يفعل العدل: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى). والتقوى كما هو نص القرآن معيار الأكرمية عند الله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) وأساس قبول الأعمال: (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
وقد حثنا ربنا على تمثل خلقه الكريم إذ قال: (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً). وقال: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال جلّ شأنه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ). فالعفو هو ترك العقوبة، أما الصفح فهو ترك التثريب أي التوبيخ والتقريع، وأما المغفرة فهي ستر الذنب ومحوه.
وما أجمل أن نُذكّر هنا بدعاء الإمام زين العابدين (ع) الذي هو درس عملي عظيم في تطبيق العفو بأجلى صوره وأنقاها. يقول (ع): اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ، وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَزْتَ عَلَيْهِ، فَمَضَى بِظُلَامَتِي مَيِّتاً، أَوْ حَصَلَتْ لِي قِبَلَهُ حَيّاً فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي، وَلَا تَقِفْهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ، وَلَا تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِي، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِهِ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَتَبَرَّعْتُ بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَأَعْلَى صِلَاتِ الْمُتَقَرِّبِينَ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ، وَمِنْ دُعَائِي لَهُمْ رَحْمَتَكَ حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِفَضْلِكَ، وَيَنْجُوَ كُلٌّ مِنَّا بِمَنِّكَ.
facebook/Bader.AlShabib
اضف تعليق