لابد لمن جعل الحرية الداخلية مرامه الاسمى ان يبدأ اولا بتقصي معتقلاتها وتفكيكها، فما من أمرئ يستطيع ادراك سجنه اذا كان يخلط بين نفسه وبين السجن، ذلك أن كثيرين قد جعلوا من انفسهم السجن والسجان في آن واحد.. بيير داكو/من السجون الى الحرية..
سؤال الحرية وماتعنيه، كثيرا ما يستوقفني ولا اجد اجابة شافية ووافيه عليه..
امارس فعل الحرية، او اظن اني كذلك، حين لاتقف الحواجز بيني وبين ما اريده..
اتذكر سنوات الطفولة، ومشاغباتها معتقدا (الان وفي اللحظة) انها نوع من الحرية..
واتذكر سنوات المراهقة وتمردها، واعتقد (اللحظة والان) انها نوع من الحرية..
وفي سنواتي هذه، الان وفي هذه اللحظة، اعتقد ان ما افعله من اشياء كثيرة هي الحرية.
اذا كانت مرحلة الطفولة والمراهقة، واضيف اليها مرحلة الشباب، حيث كان الفعل يغيّب السؤال، نتيجة لعدم الوعي بما يترتب على هذا الفعل والسلوك، فان في هذا العمر يقاطعني السؤال دوما وابدا، ولا اجد مفرا من البحث عن اجابة له، لكنه بحث يصطدم بالكثير من الجدران..
لعل اولها ما تربيت/تربينا عليه، في طفولتنا ومراهقتنا، وهو ما اوصلنا الى مانحن عليه الان وفي هذه اللحظة.
انه دور التنشئة، والذي يسميه بيير داكو في كتابه (من السجون الى الحرية) بالإبلاغ، اي نقل رسائل من اجل تنظيم الشخصية، وكل شيء يتعلق بـ(الفارق) بين وجدانية التنشئات ووجدانية المنشأ.. بيد ان هناك واقعا مفاده ان غالبية المربين (بالمعنى الواسع) يفككون ويحولون دون تشكل وجدان المنشأ وذكائه. وعلى هذا النحو يختل انتظام المرء ازاء ذاته وينغلق السجن..
كنا نحيا وننمو في سجون تفرضها علينا تنشئتنا الاسرية، نتيجة ما يفرضه عليها وعلينا المجتمع، من عادات وتقاليد، لا تجد لها اساسا في الدين الذي ولدت عليه..
وهو فرق لا تفهمه الا بعد سنوات طويلة حين يلح عليك السؤال، فالوجود الديني وهو هنا الاسلامي، خلاف الموجود، فالأول هو ما ينبغي، والثاني هو ما هو قائم ومتحقق على ارض الواقع، وهنا تكمن مشكلتنا في الاجابة عن سؤال الحرية..
اول وجود كان ينبغي ان نفهمه، هو كلمة (لا) التي ترد في الشهادة (اشهد ان لا اله الا الله) لكن الموجود في حياتنا هو اكثر من معبود يتخذ صفة الله، ونجعله يتقمص تلك الصفة ونظن اننا بذلك نحسن صنعا، كما روجت له تلك التنشئات، وتلك التربية..
او هو عالم الحاجات والاشخاص، كما في تحليل مالك بن نبي لمشكلات العالم الاسلامي، واللذان وجدنا انفسنا سجناءهما، دون ارادة للانتقال الى عالم الافكار، حيث الوعي الذي يتساءل ويبحث ويفكك، ليعيد تركيب الاجابة وترتيبها.
ربما يمكن تقريب الصورة لفهم اكبر اذا استعرنا مقطعا من مسرحية (الحسين ثائرا) لعبد الرحمن الشرقاوي من خلال حوار بين الحسين "عليه السلام"، وبين الوليد وابن الحكم، ونص الحوار هو:
الحسين: (هادئا ساخرا للوليد ومشيرا الى ابن الحكم):
قل لهذا ان مثلي قادر ان يمتنع.. قل لهذا ان مثلي عندما يأتي الى السلطان لا يأتي لخوف او طمع.. انما يأتي اذا استيقن من قدرته ان يمتنع..
الوليد: ان تكن اعطيت عقد البيعة الاولى باكراه فبايع من جديد.. انت مدعو الى البيعة بالحسنى، فبايع يزيد..
الحسين: فهذا مجلس تهديد لا يتحدث فيه العقل، لان الخوف سيشغلني بحراسة نفسي عن رأيي فيضيع بهذا ما ابغي، واخالف في قولي ربي..
ممن استيقن الحسين "عليه السلام" قدرته على الامتناع؟ من نفسه، ومما تربى عليه..
وهو ما يؤكد عليه بيير داكو في كتابه الذي ذكرنا، حين يطرح سؤال ما العمل؟ ويجيب عن ذلك بقوله: اذا كانت التربية في كافة اشكالها سلسلة لا تنتهي فما هو العمل؟
نقول مرة اخرى بان على المربي ان يكون في احسن حال، اي غير مضطرب بفعل (خشخشات) عصابية تشوه المعلومات التي ينقلها.
وللأسف فان الناس غالبا ما يضعون الابواب حيث لم تكن موجودة.. ويبنون سجونا حيث لم يكن يسود في البداية غير الحرية الداخلية وانفتاح العقل.. ذلك انه لا يمكن للفوضى ان تنقل سوى معلومات مشوهة ولا يمكن للتفكك الداخلي ان يبث سوى رسائل مفككة..
وهي نفس الرسائل التي بثتها تنشئة الوليد وابن الحكم، ومن كان ويكون على منوالهما في كل عصر ومكان.
هل لهذا ان قول كلمة (لا) في ازمان الاستبداد حيث يتفكك كل شيء تسنعها على شكل (لعم) حيث يشغل الخوف من الاصنام بحراسة النفس من التهلكة على يد الجلاد، وحيث يضيع الرأي بمخالفة الله؟
اؤمن بذلك ايماني القاطع بـ (لا) التي قالها الحسين "عليه السلام" ليزيد قبل اكثر من اربعة عشر قرنا.
اضف تعليق