سارت وبين خبايا القلب لوعة... فالأجساد خلفها والرؤوس امامها، واليتامى والارامل حولها تسير على أقتاب الجمال بغير وِطاء.. وهي ابنة من كان منزلتهُ من الرسول كمنزلة هارون من موسى، وامها سيدة النساء.
تسير جبل الصبر والبكاء والعويل يغزوا مسامعها من كل حدب وصوب، فيفترش الألم أضلعها، ليزيد قلبها الموجوع مرارة وحرقة، فقد غابت الاقمار وذبحت الشموس وسلبت اجساد الاطهار وسبيت الدرر والجواهر.
ففي يوم الحادي عشر من محرم، وبعد ان جمع عمر ابن سعد قتلاه صلى عليهم وامر بدفنهم وترك الحسين (ع) واصحابه بالعراء.. وبعد زوال الشمس امر بتسيير السبايا الى الكوفة، فقال نسوة: بالله عليكم إلا مررتم بنا على القتلى؟ فمروا بهم على الحسين (ع) واصحابه وهم صرعى، فودعوا الشهداء بين نادبة وباكية.. وهنا وقفت بطلة كربلاء على جسد اخيها المرمل بالدماء، ثم بسطت يديها تحت بدنه المقدس، ورفعته نحو السماء وقالت (الهي تقبل منا هذا القربان)، نعم انه القربان الذي قدمه اهل البيت (ع) فداء للدين الاسلامي.
ثم ندبت سكينة ابيها واعتنقت جسده الطاهر، وام كلثوم ابنة امير المؤمنين (ع) احتضنت اخاها باكية تشكوا حزنها الى رسول الله. واستمر السير الى ان وصلوا الى أطراف الكوفة في ليلة الثاني عشر من محرم الحرام، فأُنزلت السبايا والرؤوس وخيموا على خارج الكوفة.
وفي اليوم التالي أخذت السبايا الى داخل الكوفة، وعلي بن الحسين على بعير بلا غطاء ولا وطاء، وفخذاه ينضحان دما، وأم كلثوم تنادي: يا اهل الكوفة غضوا ابصاركم عنا، اما تستحون من الله ورسوله، ان تنظروا الى حرم رسول الله وهن حواسر؟! وبعد ذلك خطبت السيدة زينب (ع) في اهل الكوفة بعد ان اومأت الى الناس أن اسكتوا، فارتدت الانفاس وسكنت الاجراس.
ثم خطبت فاطمة الصغرى بنت الحسين (ع) حيث كانت تلوم اهل الكوفة وتوبخهم على قتل الحسين وتبين لهم منزلة اهل البيت عليهم السلام وتكريم الله لهم وتعدهم العذاب الاليم من الله سبحانه على ما فعلوه.
وبعدها خطبت فاطمة الصغرى بنت الحسين (ع)، ولما كان من خطبتها من تأثير وقوة وصلابة في طرح الموضوع، فجعلت اصوات الناس ترتفع بالبكاء والنحيب، وقالوا: حسبك يا ابنة الطيبين، فقد احرقت قلوبنا، وانضجت نحورنا، وأضرمت اجوافنا، فسكتت (ع).
وبعدها خطبت ام كلثوم بنت علي (ع) وفي خطبتها تلوم اهل الكوفة وتبين لهم منزلة الامام الحسين (ع) وفضله. ثم خطب زين العابدين (ع) ناصحا وموبخا. ثم امر ابن زياد بدخول السبايا الى مجلسه، فوقفت السيدة زينب في ذلك الجو تبين للناس نتائج اعمال هؤلاء وما هو مقصدهم ومبتغاهم، وكيف ان الحسين (ع) واصحابه كان هدفهم احياء الشريعة والدين على عكس هؤلاء الفاسقين.
وادخل عيال الحسين (ع) على ابن زياد، فدخلت زينب أخت الحسين متنكرة في جملتهم وعليها ارذل الثياب، فمضت حتى جلست ناحية من القصر، وحفت بها إماؤها، لكن جلالة النبوة وبهاء الإمامة المنسدل عليها، استلفت نظر ابن زياد، فقال من هذه التي انحازت فجلست ناحية ومعها نساؤها وهي متنكرة؟ فلم تجبه زينب (ع)، فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (ص).
فاقبل عليها ابن زياد شامتا فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم واكذب احدوثتكم. فقالت زينب: الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه محمد (ص) وطهرنا من الرجس تطهيرا انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا. (الارشاد) للشيخ المفيد.
نعم هكذا اجابت زينب (ع) ابن زياد وردته بكلمات تنم عن البلاغة والفهم والورع فهي ابنة سيد البلغاء. ولم يكف ابن زياد ذلك بل أخذ يسألها: كيف رأيت صنع الله بأخيك واهل بيتك؟. فقالت: ما رأيت إلا جميلا.
أما ما ذكر عن زين العابدين في ذلك الموقف حيث يذكر ان ابن زياد تعجب عندما علم انه لم يقتل مع الحسين واخوته.. حتى تجرأ على الامر بقطع عنقه، لولا السيدة زينب التي تعلقت به، ورفضت مفارقته، قائلة: فإن قتلته اقتلني معه.
وبعد ذلك حمل زين العابدين والسبايا الى السجن وضيق عليهم، فبقوا فيه الى يوم التاسع عشر من محرم وهم لا يعرفون ماذا سيحل بهم بعد ان بعث ابن زياد الى يزيد يسأله ماذا يفعل بهم. وجاء البريد وفي كتاب يزيد الامر بأن يسرحهم ابن زياد الى الشام، فلقد امر يزيد بحمل رأس الحسين ورؤوس من قتل معه، وحمل النساء والعيال الى الشام. واستدعي لذلك محفر بن ثعلبة العائذي.(السيد ابن طاووس).
بينما يقول الشيخ المفيد ان الرؤوس ارسلت مع زحر بن قيس وانفذ معه أبا بردة بن عوف الازدي وطارق بن ابي ظبيان في جماعة من اهل الكوفة، اما النساء والاطفال سرح بهم في إثر الرؤوس مع ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وضم إليهم الف فارس. وفي روايات اخرى الف وخمسمائة، او ألفي فارس او اكثر منهم خمسون كانوا مسؤولين عن الرأس الشريف.
واستمر السير.... لتبتعد السبايا عن سجن الكوفة، وظلم ابن زياد.. باتجاه دمشق حيث ينتظرهم الطاغية هناك.. لكن آل البيت (ع) يسيرون وكلهم صبر وايمان وتقوى فهم مدركون جيدا ان من يهبهم المصائب يعلم بأنهم كفؤا لحملها.
اضف تعليق