ها هو ذا وجهه.. يشي بكل ما لا يستطيع نسيانه!!
خيّل إليه انه يراه.. ولم يكن يرى بالواقع سوى عطبه الدائم، أمعن النظر في المرآة.. هالات سوداء تحيط بعينين أضناهما الحزن ورماد الشيب نُثر على شعره.. كأنه شاخ وهو لم يناهز الثلاثين بعد!...
بقلب واجف ويدين مرتعشتين حمل شفرة الحلاقة ليحلق لحيته الكثّة التي أهملها كما أهمل كل حياته!! أيقظت المرآة جرحه العميق وأشعلت فتيلة الماضي الأليم لتضرم حرائق في بقايا روحه.. سرح بخياله بعيدا وأخطأت يده طريقها، فإذا به يرى الدم في وجهه فداهمته صورة ذلك الوجه المدمّى الذي يحمل نفس ملامحه حقيقة لا مجازا!!.
تتسارع أنفاسه وتنتابه نوبة غضب فيحطّم آخر مرآة متبقية وقد نفذت قبلا من يديه المجنونتين التي كسرت كل المرايا في المنزل مع هستيريا اجتاحته بعد موجة حنين!! وها هو ذا يهوي على الأرض كورقة سنديان يابسة..
***
سنتان انصرمت على ذلك الانفجار الارهابي الذي أودى بحياة شقيقه التوأم وانقلبت حياته بعدها رأسا على عقب.. وبقي على حزن يومه الاول..
في عامين.. كبر عشرة أعوام وقد بلغ منه اليأس مبلغه، فعافت نفسه الحياة وأضرب عن العمل وألف الوحدة وتشرنق داخلها وأسرف في الحداد وبدأ إيمانه يتزلزل في قلبه بعد أفكار سوداوية تأتيه من حين الى آخر، يهمس بها شيطانه الذي وجد في ظرفه وفراغه فرصة سانحة لتحطيمه وزرع داء الشك في نفسه، وذهبت محاولات عائلته وأصدقائه لإخراجه من حالته المأساوية ادراج الرياح فاستحال ربيع شبابه الى خريف كئيب يأذن بالرحيل.
***
أسدل عينيه بعد يوم حافل بالآلام واستسلم الى النوم (ولعل لقاء في المنام يكون) لكنه رزح تحت كابوس لا يفتأ يزوره كل حين.
يرى نفسه يتخبّط بين متاهات المرايا.. حيثما اتجه يرى صورته على المرآة ليصطدم بها ويتلوى وجعا وهكذا يمنة ويسرة أينما يمضي يواجه انعكاس شكله وهو لا يبرح من هذه الدوامة المقيتة حيث المرايا في كل مكان ودهاليز لا مخرج لها.
وهكذا شكلت المرآة لديه عقدة نفسية في الواقع وفي الحلم، فهو يتحاشى النظر اليها بل يخاف منها بتعبير أدق فالنظر إليها يعيد للذاكرة صورة أخيه الذي تقاسم معه المشيمة نفسها، فهو لم يكن مجرد أخ بل كان كل منهما صورة ومرآة للآخر شكلا ومضمونا، كانا يبكيان معا ويشعران بالجوع والنعاس والفرح والألم وحتى المرض معا وارتديا الملابس المتشابهة حتى عمر متقدم وهذا الشبه الكبير وضعهم في مواقف طريفة وغريبة باتت حكايات يتداولها الكبير والصغير.
إلا الموت أبى ان يشاطرهم مصيرا مشتركا فسقى أحدهما من كأسه وحلّقت روحه الى السماء.. وترك الآخر تحت براثن الأسى (وأكثر الأحياء أولى بالرثاء).
***
طرقات قوية على الباب أيقظته وأخرجته من دهاليز المرايا.. قام من سريره مثقل الخطى وقد لاحظ الضماد على يديه وأحسّ بعدة اشرطة طبية على ذقنه.. علت سحابة الهم وجهه وهو يحدق الى والدته التي راحت تعذله بعينيها.. قبعت في احدى زوايا المنزل وطأطأت رأسها وشرعت تبكي شوقا.. حزنا.. عتبا.. وخوفا!!
فراق ابنها قد أدمى قلبها وعزلة الآخر وتغيّره تزيد جراحاتها.. كم تعذبت هذه الأم حتى رزقت بولدين أضاءا بيتا لم يرَ الاطفال لأكثر من عشر سنوات وهي لم تيأس حتى قرّت عينها بقدوم توأم جميل الى حياتها وذلك بعد سنين من العلاج.. لا أصعب على الأم من ان تفقد فلذة كبدها.. لكنها اجتازت هذا الامتحان بقوة ايمانها ولم ينجح بعد ابنها في هذا الاختبار الصعب.. صفع وجهه بابتسامة وهو يحدق اليها ومضى خارجا لا يلوي على شيء..
***
المدينة تتشح بالسواد.. فهي في حداد لم يلحظه لأنه لم يبرح محارّه منذ شهرين.. وأعلمته الرايات السوداء المرفرفة على سطوح المنازل بأنه في شهر محرم الذي كاد ان ينتهي.. تأمل معالم المدينة ومطحنة الذكريات تسحقه عند كل مكان تواجد فيه اخيه في الايام الغابرة.. كل شيء في المنطقة كان لهما يدا في تأسيسه أو تحسينه من المدرسة الى المستوصف الى شتلات زرعوها في جانب الطرق..
وقف مشدوها امام المسجد وقد كان له مع اخيه دورا كبيرا في توسعته واعادة ترميمه بعد ان هدّته السنون.. وقد أنشئا حلقات حفظ القرآن وتفسيره في باحة المسجد.. وشعر بالخجل من جفائه وهجره للصلاة والقرآن وهو الذي لم يكن يترك مع أخيه فرضا واحدا.. قابله احد المارة وألقى عليه التحية.. أشاح بوجهه.. (سلام على كل من مرّ على جرحي ولم يلقِ التحية) تناهى الى سمعه صوت الناعي من الحسينية في آخر الشارع..
توارى خيال أخيه الذي لم يفوّت معه مجلسا للعزاء..
حنين متأجج لأيام كانا يشاركان معا في التشابيه والمسرحيات.. في الصغر أخذا دور أولاد مسلم اللذان يقتلان معا.. وعندما شبّا كان لهما شرف دور الامام الحسين وأخيه العباس الذي ذبح قبل أخيه بسويعات..
جلس عند عتبة الحسينية التي لم يطأها منذ سنتين وأعار سمعه للقارئ..
***
ها هو يخلع حزنه ليرتدي حزنا آخر.. أعظم وأكبر وأوجع!! منذ زمن وأحاسيسه متبلدّة والدموع لا ترى سبيلها الى عينيه.. ولأول مرة يبكي كطفل صغير وينتحب لمصائب لم يرَ عشر معشار منها.. أصابته هزّة من رأسه الى أخمص قدميه وخارت قواه..
مع ومضة نور أقرب الى الحلم رأى نفسه بين صحراء قافلة وواحة خضراء جميلة وبينهما طريق واقفة فيه امرأة جليلة تتقدم نحوه وتشير له بالمسير.. لم يقوَ على الوقوف!!
واذا بطفلة صغيرة تتراءى من خلف المرأة تنحني اليه وتساعده على النهوض.. لاحظ على يديها الصغيرتين جراحات وندوب..
ما إن وقف على قدميه حتى عاد الى مكانه السابق!! هبّ مذعورا وهو يرتعد والعرق يسحّ من كل جسده أجال ببصره ولم يرَ أحدا.. عاد أدراجه الى المنزل وقد أحس بشيء ما في داخله قد تغيّر.. كزلزال هزّ كل وجوده.. ما ان تعدى عتبة الباب حتى رأى أمّه وقد استوقفته وطلبت محادثته، لم يعرها قبلا إلا اذنا صمّاء وهي تغدق عليه بالنصائح.. أما اليوم ففي جعبتها شيء آخر..
قالت وأمل يشع في عينيها:
- عندي لك بطاقة دعوة
-؟؟
- رحلة الى الشام!!
كانت لخالك كما تعرف لكنه آثر أن يعطيك مكانه لسبب لم يفصح عنه.. ستنطلق الحملة بعد أيام الى السيدة زينب أولا ثم السيدة رقية وإقامة مجلس العزاء عند ضريحها في ذكرى استشهادها..
انتفض من مكانه.. تلك المرأة والطفلة!! انبسطت أسارير الأم وهي تشعر ان هذه الزيارة ستغير مجرى حياته وستدبّ الحياة فيه وسينهض من جديد بل أقوى من قبل وسيعيد جمع أحلام أخيه التي تبعثرت بغيابه.. وضّب حقائب السفر ولملم شتات نفسه ويممّ وجهه شطر تلك البلاد التي يقطنها جبل من الصبر إسمه زينب!!
أسقته جرعة من صبرها.. الصبر هو ذلك الطريق الذي يفصل بين كل ما هو موجع وبين كل ما هو جميل..
***
حدّق طويلا الى المرآة التي علّقها بنفسه.. ولم يرَ وجه وحدته البائسة ولا صورة أخيه المؤلمة.. بل تطلع الى مرآة أنقى وأصفى.. رأى انعكاس امرأة رأت ما رأت في عصر عاشوراء وتمتمت برضا:
ما رأيت الا جميلا!!
اضف تعليق