نقف قليلاً لاستنباط الدروس والعبر من هذه التجربة الإنسانية، خصوصاً بعد أن أثبتت نجاحها على كافة الأصعدة، وهي تجربة فريدة من نوعها، إذ لم تشهد أي تجربة في العالم، أن تحركت مثل هذه الجموع المليونية وبوقت محدد وقدمت لها مثل هذه الخدمات التطوعية وبهذا التنظيم والكفاءة، ومن قبل جهات معروفة بإمكانياتها المحدودة...

ثقافة العمل التوعي من الثقافات المجتمعية، التي تسعى إلى ترسيخ قيم العطاء والإيثار والتكافل الاجتماعي، وتنمية روح المبادرة بين أوساط المجتمع الواحد، وبما أننا نعيش هذه الأيام أجواء عاشوراء، بكل ما تعنيه من قيم روحية، وإنسانية، واجتماعية، الأمر الذي نتج عنه الكثير من المفاهيم والثقافات، التي أخذت تتجذر بين مختلف الأوساط الاجتماعية، وفي مقدمة تلك الثقافات برزت ثقافة العمل التطوعي في أبهى صورها من خلال المواكب الحسينية، حيث نرى هذه الجموع من الشباب، ومن مختلف الأعمار والأجناس تُقدم الخدمات وبرحابة صدر للزائرين القادمين من داخل البلاد وخارجها، وهي حالة غير مألوفة في جميع أنحاء العالم، إذا أخذنا بنظر الاعتبار، الأعداد المليونية من الزائرين، والفترة الزمنية المحددة لهذه الزيارة، وكذلك البقعة الجغرافية التي تتحرك بها جموع الزائرين. 

ومع أن ثقافة العمل التطوعي من الثقافات المستحدثة، التي يفتقر اليها مجتمعنا، مقارنةً مع المجتمعات الأخرى، إلا أن العمل التطوعي في المواكب الحسينية وما يُقدم من خدمات في تلك المواكب، قد فاق جميع الخدمات التي تُقدم في المناسبات الأخرى، حيث تتجلى قيم السخاء والإيثار والجود في أعلى درجاتها. ولهذا يمكن اعتبار المواكب الحسينية، بكل ما تمثله من أبعاد روحية واجتماعية وإنسانية أنموذجاً يُحتذى به في تكريس وإشاعة ثقافة العمل التطوعي.

وبعيداً عن الأجواء التراجيدية التي ترافق المواكب الحسينية عادةً، فإن أهم ما يميز تلك المواكب، هي ظاهرة العمل التطوعي الذي تبديه الناس على مختلف أعمارهم ومستوياتهم الثقافية، والاجتماعية، والطبقية، سواء كان ذلك على مستوى تقديم الخدمات أو ما يقدم من طعامٍ وشراب ومأوى للمشاركين بإحياء ذكرى عاشوراء وأربعينية الإمام الحسين عليه السلام، أو من خلال الألفة والانسجام التي تسود أجواء هذه المناسبة بين مختلف الجنسيات والأعراق. ويبدو أن التطوع والأعمال التطوعية ذات التوجه الروحي في نظر أصحابها من أجل وأعظم تلك الأعمال، ربما لارتباط هذا المفهوم بمنظومة القيم والمفاهيم الروحية والسلوكية في نفس الإنسان والأسرة والمجتمع. 

لكن الذي يمكن تشخيصه في هذا الشأن، هو أن العمل التطوعي هذا ينتهي بانتهاء هذه المراسم والشعائر، وهذا يعني أن ثقافة العمل التطوعي داخل أوساط المجتمع لم تأخذ الحيز الكافي لتبلورها، كمفاهيم اجتماعية يتعامل معها المجتمع كثقافة عامة وبأطر مستدامة، وهذا الأمر لا يعني تقاعس أو قصور في كينونة المجتمع، إنما مَرد ذلك يعود إلى تراكمات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، بفعل الأزمات، والمآسي، والحروب التي رافقت هذا المجتمع.

إن ما نود التأكيد عليه، هو تعميم تجربة العمل التطوعي في ذكرى إحياء هذه المناسبة والمناسبات المتعلقة بها، بل وجميع المناسبات الدينية والوطنية، التي تصاحبها مثل هذه المبادرات الإنسانية، وألا يقتصر الأمر على هذه المناسبة دون غيرها، فإن ظاهرة الأعمال الخيرية والعمل التطوعي تصب في المسار الصحيح، لتطوير وتنمية قيم التعاون بشتى أنواعه بين أفراد وشرائح المجتمع عموماً، وعلى الجهات المعنية استثمار هذه الظاهرة لنشر ثقافة العمل الطوعي بين الجميع، نظراً لأهمية هذا النوع من الخدمات في تطور المجتمعات في مختلف مجالات الحياة، على أن تتجذر هذه التجربة ثقافياً واجتماعياً وسلوكياً. 

وهنا نقف قليلاً لاستنباط الدروس والعبر من هذه التجربة الإنسانية، خصوصاً بعد أن أثبتت نجاحها على كافة الأصعدة، وهي تجربة فريدة من نوعها، إذ لم تشهد أي تجربة في العالم، أن تحركت مثل هذه الجموع المليونية وبوقت محدد وقدمت لها مثل هذه الخدمات التطوعية وبهذا التنظيم والكفاءة، ومن قبل جهات معروفة بإمكانياتها المحدودة. الأمر الآخر هي دعوة إلى المؤسسات والجهات الرسمية، وغير الرسمية والمراكز البحثية والإعلامية المتخصصة بدعم العمل التطوعي، ونشر هذه الثقافة بين الناس.

اضف تعليق