ملفات - عاشوراء

زيارة الأربعين والارتقاء ببناء النظام

زيارة الأربعين ونصرة الامام الحسين (ع) (5)

من خلال تقوى الله يستطيع الإنسان أن ينظم أمره، وعندما ينظم أمره سوف يصلح ذات بينه، ويكون متفقا ومتعاونا مع الآخرين، لذلك فإن تقوى الله تؤدي إلى إصلاح ذات البين، والنظام يؤدي إلى تقوى الله، فهذه الثلاثية مترابطة، ولابد من إيجاد الترابط بينها من خلال العمل بها...

(أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ)

ذكرنا سابقا بأن التعاون هو نصرة للإمام الحسين (عليه السلام)، والتطبيق العملي لمفهوم التعاون هو إقامة النظام، لأن إقامة النظام، يؤدي إلى إقامة الحق، وبالتالي فإن إحياء زيارة الأربعين، هو إحياء لنموذج عظيم يصبح قدوة في كل مكان وزمان.

وصية عظيمة لكل الأمة

وقد اوصى الإمام علي (عليه السلام) وصية عظيمة لكل الأمة، لتكون منهاجا لها حيث قال (عليه السلام) في وصيته للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه الله: (أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ)(1).

فجاء النظام في مقدمة الوصية في ذلك الحال الصعب الذي كان يعيشه الإمام (عليه السلام). وقد قدم هذه الوصية لولديه ولأهله ولولده ولكل من يبلغه هذا الكتاب، أي لكل الأمة، وحين يصل هذا الكتاب إلى كل شخص فواجب عليه أن يبلغ الآخرين به، لأن هذه الثلاثية (تقوى الله ونظم الأمر وصلاح ذات البين)، تعتمد عليها نهضة الأمة ومصيرها.

التقوى لإصلاح ذات البين

فمن خلال تقوى الله يستطيع الإنسان أن ينظم أمره، وعندما ينظم أمره سوف يصلح ذات بينه، ويكون متفقا ومتعاونا مع الآخرين، لذلك فإن تقوى الله تؤدي إلى إصلاح ذات البين، والنظام يؤدي إلى تقوى الله، فهذه الثلاثية مترابطة، ولابد من إيجاد الترابط بينها من خلال العمل بها.

فالزائر عندما يأتي اليوم إلى مدينة كربلاء، لابد أن يلاحظ هذه الثلاثية، تقوى الله، بأن يقي نفسه من الوقوع في الحرام والشبهات والأخطاء، ويقي أهله ومجتمعه وأمته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينشرها في كل الدوائر المتعددة في المجتمع، فهذه الثلاثية هي في الواقع تمثل مفاتيح الحياة والنهضة للأمة.

ويوصي الإمام بذلك، لأنه يعرف بأن أولئك الظَلَمة والطواغيت من بني أمية، وبني العباس، وما يلحقهم من حكومات مستبدة وظالمة، هدفهم تشتيت الأمة ونشر الفوضى من أجل السلطة والمتعة واللذة ونهب الأمة ونشر الفساد والانحراف، لذلك فإن هذه الثلاثية اساسية في عملية بناء تماسك الأمة، وبالنتيجة نجاح الأمة في أن تكون متقدمة، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...) آل عمران 110.

النظام يجمع الأمة في قناة واحدة

ولابد أن نطبق هذه الثلاثية في زيارة الأربعين، فالتقوى تؤدي الى النظام، والنظام يؤدي الى الصلاح ودرء الخلافات، وجمع الأمة في قناة واحدة يجعلها قوية ومنيعة. لذلك فإن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام) لأن العبادة لا تكفي، بل هي مكمّلة، أي هناك تكامل بين أمور متعددة، فلايفيد الإنسان اذا كان لديه عبادة وليس لديه تقوى، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة 21. والعبادة تكون مع النظام فلا عبادة مع الفوضى، كما ان العبادة تتحقق مع صلاح ذات البين فلا عبادة لمن هو مستغرق في الصراعات والنزاعات، فالقيم والسلوكيات أمور متكاملة مترابطة تؤدي إلى نتيجة واحدة.

وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (الورع نظام العبادة، فإذا انقطع ذهبت الديانة، كما إذا انقطع السلك أتبعه النظام). (2)

وعن الامام علي (عليه السلام): (أيسرّك أن تكون من حزب الله الغالبين؟ اتق الله سبحانه وأحسن في كل أمورك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)(3).

وعن الامام الصادق (عليه السلام): (اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع)، و(عليكم بالورع، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع)، و(لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه)(4).

لذلك فإن الإنسان الذي يعبد الله كثيرا، وليس لديه تقوى ولم ينظم أمره، ولم يصلح ذات البين، فإنه بالنتيجة يوجد هناك خلل في عبادته، لان هذه العبادة لاجدوى فيها وغير مؤثرة على الواقع الفردي والاجتماعي، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ، أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) التوبة107/109.

لذلك لابد من الاستفادة من النظام للارتقاء بهذه المناسبة العظيمة، بأن نأخذ العبر من الدروس دائما، فنحن في حاجة مستمرة للنظام بسبب الترابط الشديد بين الناس، حيث يكون للنظام قيمة حقيقية في هذا التجمع، فإذا أردنا أن نطبق النظام القائم على المبادئ، وعلى صلاح ذات البين وعلى التقوى وعلى الترابط الديني والإسلامي، لابد أن نراعي مجموعة نقاط وهي:

اولا: الوعي بأهمية النظام

لابد أن يكون هناك وعي بأهمية النظام في جعل زيارة الأربعين نموذجا راقيا، ومثالا حضاريا يُقتدى به في كل الأمم، فالمسلم المؤمن الحقيقي يجب أن يكون نموذجا ومثالا، فعن الامام الصادق (عليه السلام): (كونوا لنا دعاة صامتين.. فإذا رأى الناس ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فسارعوا إليه.)(5) أي بالتطبيق العملي.

فهذه دعوة لتطبيق النظام بصورة صحيحة وسليمة، وبناء نموذج يجسد مشروع أهل البيت (عليهم السلام)، ولذلك فإن هذه الزيارة بمثابة امتحان للمؤمنين في كيفية تشكيل وعي بأهمية النظام.

النظام هو القوة الناعمة

ويمكن الحكم على أي بلد في العالم من خلال النظام أو الفوضى الموجودة فيه، فيكون عندك انطباع في ذهنك عن أي بلد من خلال ما تراه، فإذا لاحظت وجود الفوضى فإنك سوف تقول عن هذا البلد بأنه فاشل، وإذا كان بلدا فيه نظام سوف تقول عنه بأنه ناجح، لذلك النظام هو القوة الناعمة والدعاية الكبيرة، والنموذج الذي يقتدي به الآخرون.

عندما يرى الآخرون الأمة في زيارة الأربعين في نظام تام ومثالي لهذا النموذج الرائع، فإن الآخرون يتبعون هذا الدين، وقد اتبع الناس رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسبب أخلاقه العظيمة، كذلك الناس عندما يرون أن هذه الأمة تتميز بأخلاق عظيمة ولها تطبيقات عملية جيدة في النظام، سوف يتبعون هذا المثال والنموذج. 

فالوعي بالنظام له أهمية في مجتمعات تعيش مشاكل وتعقيدات في حياتنا بسبب غياب الفهم بمعنى النظام، ولعله هناك من يسأل كيف أعرف ما هو النظام؟، وكيف يمكن أن اطبق أساسيات النظام؟، الحل أولا بالوعي والإدراك، فالإنسان لا يطبق بنجاح أي شيء لا يدركه ولا يفهمه.

حتى لو تكلمت كثيرا مع شخص ما، فإذا كان لا يمتلك الوعي فلا يستجيب، مثلا نتكلم عن النظافة في الإسلام، وهو ليس عنده وعي بأهمية النظافة فلا يتقبل ذلك، فلابد أن يكون عنده وعي أولا في ذهنه، فينتقل من هذه الفكرة ليدرك هذا المفهوم الجديد ويتعلم تطبيق السلوكيات المنبثقة منه. 

ثانيا: بناء التقوى طريقا لتأسيس النظام

كما ورد في وصية الإمام علي (عليه السلام) اعلاه، فالتقوى تقي الإنسان من العواقب السيئة وتحميه من الفوضى، فالإنسان قد يعيش الفوضى في حياته بسبب انه ليس لديه وعي أو ربما لم يتعلم هذا الامر، ولم يجربه سابقا، أو لم يتعلم الانضباط والالتزام بل يريد أن يسير على مزاجه وهواه وحسب ما ترغب به غرائزه، فهو لا يلتزم بالضوابط الاجتماعية ولا الدينية وله قانونه الخاص.

وهذا يعني أن هذا الإنسان لا يمتلك التقوى، فالتقوى تعني الوقاية من النتائج الوخيمة، ومن النتائج الخطرة، ودرء المخاطر والكوارث والمشكلات والتورع عن الوقوع بالذنوب والمعاصي، فيلجأ الإنسان للتقوى كي يقي نفسه من الوقوع في هذه المآزق، لذلك فالتقوى تجعل الإنسان يخاف الله تعالى، وحين يخاف الله تعالى فإنه سوف يخاف من الفوضى، ولا يمشي كما يريد مزاجه وهواه، وإنما يسير كما يوجهه دينه والأحكام الشرعية، واحترام الآخرين واحترام حقوقهم.

فالإنسان الذي يكون ذا تقوى، هو الإنسان الذي يلتزم بالأحكام الشرعية، وبالنتيجة سوف يؤدي هذا إلى النظام، وحتى لو كان الإنسان ملتزما بالنظام ولكن ليس عنده تقوى في مراحل معينة، فسوف يخترق النظام ويتمرد عليه. 

مثل الإنسان الذي لا يلتزم بالإشارة الحمراء أثناء عبوره، فيلاحظ عدم وجود شرطي المرور فيضرب الإشارة ولا يلتزم بها، أما لو كان الشرطي موجودا فلا يقوم بهذا العمل لأنه يخاف من هذا الشرطي أن يغرّمه مبلغا من المال، لماذا يفعل الإنسان هذا الشيء؟، لأنه ليس لديه إيمان بالقانون، بل هو يخاف من شرطي المرور، لكن التقوى تجعل الإنسان يمتلك الإيمان في عملية النظام، فالتقوى تحمي الإنسان من المخاطر وتخلصه من الأزمات.

ثالثا: بناء النظام عبر التنسيق

مثلا عندما نحضر أنا وأنت في هذا الستوديو ونقوم بتقديم هذا البرنامج، نعدّ له إعدادا جيدا لكي يكون برنامجا منتظما ومنسَّقا بشكل جيد، ومضمونه قوي، ونحرص على أن يكون برنامجا ناجحا، فأي برنامج ناجح لابد أن يقوم على التعاون والتنسيق المشترك، ولا يمكن للإنسان أن ينجح أو يستطيع النجاح لوحده، بل النجاح يعتمد على مجموعة متكاملة من الناس.

فإذا كان هناك نجاح وتنسيق في المشروع، فإنه سيكون مشروعا ناجحا، أما المشروع الذي ليس فيه تنسيق، فإنه يكون مشرعا فاشلا، أما التنسيق بين مختلف الأفراد والجهات يؤدي إلى نجاح المشروع، ومنع التضارب والتصادم فيما بين الآخرين، أي مختلف الأفراد والناس، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى بناء التكامل، وهذا هو معنى صلاح ذات البين، فصلاح ذات البين ليس مجرد أن نتصالح أنا وأنت فيما بيننا صلحا ظاهريا، ليس هذا معناه الحقيقي، بل المعنى الحقيقي لصلاح ذات البين هو التنسيق بيني وبينك، حتى يتحقق الهدف المطلوب.

إن التنسيق يبدأ بمراحل، خطوة خطوة، درجة درجة، وعندما أعي وأفهم لذة التنسيق ونجاحه، يبدأ التنسيق يتقدم ويتطور في الحياة، لذلك فإن التنسيق له دور أساسي في بناء النظام وصلاح ذات البين.

رابعا: التأكيد على التعلّم والتعليم

ويجب أن يتم ذلك كمنهج اساسي في الحياة في مختلف المؤسسات، الصغيرة، وهي الأسرة، وإلى المؤسسات الكبيرة، والقضية هنا تعتمد على طريقة ومنهج التربية والتعليم، فالنظام ليس تربية فقط، وإنما هو تعليم أيضا، أي تعلّم وتعليم، لابد أن نتعلم النظام، فليس المطلوب فقط تربية الفرد على الأخلاق الحسنة، بل يمكن القول نحتاج إلى مناهج للأخلاق العملية، فالتعاون هو الأخلاق النظرية، والنظام هو الأخلاق العملية.

الحاجة للنظافة الاجتماعية

مثال من الواقع، فالإنسان حين يكون طفلا ولا يتعلّم من أهله قضية النظافة الفردية، أو النظافة الاجتماعية، فعندما ينمو ويكبر، فهو لا يعبأ بضوابط الشارع ويرمي الأوساخ أينما كان، ولكن إذا تعلم الطفل منذ نعومة أظفاره النظافة من عائلته ومدرسته ومنطقته، فإننا لا نجد هذه الظاهرة (رمي الأوساخ) المنتشرة للأسف في بعض المجتمعات.

هذا يعني أننا نحتاج إلى أن نجعل من زيارة الأربعين طريقا للتعلّم، أي تعلّم السلوكيات الجيدة التي تنسجم مع الزيارة، وتجسد أهداف هذه الزيارة المقدسة، فلابد أن تكون سلوكياتنا متناسبة مع هذه الزيارة، ولابد أن نتعلم هذه السلوكيات الحسنة، ونساهم في نجاح الزيارة لتكون في قمة العظمة، لذلك فإن التعلّم والتعليم تعد من النقاط المهمة التي لابد أن ننتبه إليها.

خامسا: الانتظام في النظام

ويتم ذلك من خلال جعل النظام سلوك دائمي في حياتنا، فالانتظام يعني أن يكون الإنسان دائما منتظما على النظام، فالنظام يتحقق بالانتظام، بأن يجبر نفسه على النظام إلى أن يصبح ذلك حالة ثابتة وراسخة في نفسه وشخصيته ويخاف من الفوضى ويرفضها.

هناك بعض الناس، أما يطبق النظام قليلا، أو يطبق الفوضى قليلا، يعني كما يشاء هو، وحسب مزاجه، وهذا ليس هو المطلوب، بل الانتظام في النظام، بحيث يكون النظام سلوكا دائميا في حياتنا، وهذه القضية طبعا تبدأ من أنفسنا اولا، فكل إنسان يبدأ بنفسه في عملية بناء النظام من خلال الانتظام فيه.

سادسا: تعلّم علم الإدارة والمهارات التطبيقية

لماذا علينا أن نتعلم الإدارة؟، الجواب لأن النظام هو فن الإدارة، فالنظام ليس مجرد أن يسير الإنسان في طريق خاص أو حسب أسلوب معين، أو خطوات خاصة، بل هو فن الإدارة، وأي موقف يحتاج إلى اتخاذ قرار وهيكلية وبرمجة ووضع أهداف واتخاذ أساليب، والتخطيط لاستراتيجيات، هذا كله يدخل ضمن عملية فن الإدارة.

هناك مهارات ذاتية عند الإنسان في حسن التواصل مع الآخرين، لكن ذلك لايكفي لتحقيق النجاح في تحقيق الأهداف، بل لابد من وجود مناهج تعليمية وبرامج تدريبية لتحويل المهارات الى حالة علمية، كذلك في تطبيق النظام الناجح لابد من علمية النظام، فالنظام علم وليس مجرد ثقافة او مهارة، فتعلم النظام يؤدي الى معرفة المدخلات التي تؤدي إلى حسن معيشة الناس، بما يؤدي الى أن تكون مخرجات النظام عالية جدا، وتكاليفها قليلة، بما يحقق حسن وجودة حياة الإنسان، فتكون حياة الإنسان مرفَّهة سليمة صحيحة مستقرة نفسيا واجتماعيا واقتصاديا.

الآية القرآنية تقود نحو هذا المطلب، حيث يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) الطلاق2/3. فالآيات الكريمة تتحدث عن الرزق والحياة، فيضع سبحانه في المقدمة (من يتق الله) وبعد ذلك يرزق ويتوكل وكلمة (قدرا)، وهذا يعني أن كل شيء له حساب وكتاب وطريقة ومنهج.

الإدارة الناجحة في التقوى

وهذا لا يعني أنك تنتظر يأتيك الرزق بلا مقابل، حتى لو قرأت الأدعية أو أقمت الصلوات، بل هناك حركة وعلم في قضية الإدارة، حيث تبدأ الإدارة الناجحة من التقوى، لأن الإدارة الفاشلة هي التي لا يوجد فيها تقوى، فنلاحظ أن المدير الذي ليس عنده تقوى يكون متلاعبا بالمصالح بحسب مزاجه وشهواته وتبعيته للغرائز، فيكون مستبدا، عنيفا، أنانيا ويفضل مصالحه الشخصية. 

أما حين يتقي الله، فإن هذه النتيجة تؤدي إلى الرزق من خلال التوكل على الله سبحانه وتعالى، واحتساب الأشياء، أي يحتسب الإنسان لكل شيء، أي أنه يجعل له برنامج، كما قال الله تعالى (قد جعل الله لكل شيء قدرا)، يعني هناك حساب وكتاب في عالم الأسباب والمسببات. من الأسباب التي تؤدي إلى تحقيق المسببات الجيدة هو علم الإدارة، وأن الإدارة هي أيضا طريق للنظام الناجح.

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: (الكمال كل الكمال في ثلاثة: التفقّه في الدين، الصبر على النائبة، وتقدير المعيشة)(6)، الكمال فيه مراتب، فكلما تستمر في طريق الكمال وتنتظم (الانتظام كما ذكرنا) في عملية البناء يتصاعد عندك الكمال، ويتم ذلك اولا بالعلم.

(الصبر على النائبة)، لأنه الحياة فيها مصائب، وفيها مصاعب، فيجب أن لا يتوقع الإنسان أن تتحقق الأشياء بسرعة، بل عليه بالصبر، لأن الصبر يؤدي إلى الظفر، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) الانشراح 5/6. فالصبر هو طريق للنجاح.

 (وتقدير المعيشة) يعني حسن الإدارة، من القدر كما قرأنا في الآية القرآنية، أن نقدر الأمور، فيقدّر الإنسان المعيشة بطريقتها العلمية والصحيحة، وبمنهج الأسباب والمسببات، حتى يستطيع أن ينجح في عملية الوصول إلى الكمال. 

فهذا هو المطلوب منّا في زيارة الأربعين، فنحن نريد أن نرفع من مستوى زيارة الأربعين وأن تكون في كمال الكمال في كل عام، ولكن يحتاج ذلك إلى العملية الثلاثية (التفقّه في الدين)، و(الصبر على النائبة)، الصبر على التحديات والمصاعب، كما صبر شيعة العراق ضد النظام السابق وقمعه وإرهابه الذي لم يستطع إيقاف شعائر الإمام الحسين (عليه السلام)، فبالصبر وصلوا إلى هذه النتيجة، ولكن يحتاج الأمر أيضا، إلى النظام والإدارة بـ(حسن تقدير المعيشة)، لأنه لا يكفي أن يكون عند الإنسان صبر فحسب، بل لابد أن يكون عنده علم الإدارة.

وقد نقل إن أحد المراجع الكبار وهو (المجدد محمد حسن الشيرازي) رحمة الله عليه صاحب ثورة التنباك، قوله: (إن المرجعية 99% منها إدارة، و1% علم وفقه)، لأن الفقه والجهاد والعمل كل هذه الأمور تنجح بحسن الإدارة.

في بعض الأحيان نلاحظ أن الناس الذين لديهم إمكانات وموارد، وعلم وثقافة، لكن ليس لديهم إدارة ناجحة، فيضيع كل شيء عندهم بسبب عدم امتلاكهم الإدارة الجيدة، فالإدارة هي المكملة لعملية بناء النظام الناجح والوصول الى الحياة الجيدة والناجحة. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران 200.

* حوارات بثت على قناة المرجعية في مناسبة زيارة الأربعين 1445

........................

(1) نهج البلاغة – رسائل الإمام علي (ع)، رقم: 47.

(2) الورع نظام العبادة، فإذا انقطع ذهبت الديانة.

(3) غـُرَرُ الحِكَم ودُرَرُ الكَلم، للآمُديّ، الحديث رقم: 5845.

(4) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٧ - الصفحة ٢٩٧.

(5) شرح الأخبار - القاضي النعمان المغربي - ج ٣ - الصفحة ٥٠٦.

(6) الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ٣٢.

اضف تعليق