في الطريق الى الكوفة... وفيما القافلة الكبيرة تحثّ الخطى وسط الصحراء القاحلة والشمس الساطعة وقت الظهيرة تسكب أشعتها على القافلة، فتظهر أحوال أهلها، وفي المقدمة؛ الامام الحسين، عليه السلام، وأهل بيته، مع جمع من اصحابه، وقد أرهقهم الطريق، فكان من الطبيعي أن يغفو الإمام، عليه السلام، فوق قربوس فرسه، لحظات، بيد أنه انتبه فزعاً، وهو يردد: "إنا لله و إنا اليه راجعون"!.
كان بالقرب منه، ولده علي الأكبر، وسمع المقالة الفجائية من والده، فسأله عن سبب استرجاعه؟ ولم يكن الإمام ليخفي على ابنه العزيز على قلبه، هول ما اطلع عليه في المنام، لمعرفته بعمق إيمانه وشدة عزيمته، فقال، عليه السلام:
"رأيت كأن هاتفاً يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير وراءهم" .
لمجرد أن استمع الأكبر، ما قاله الإمام، بادره بالسؤال فوراً:
أبتاه...! أ و لسنا على حق؟
قال: نعم.
قال : بلى يا بُني.
فقال الأكبر: إذاً؛ لا نبالي بالموت، أ وقعنا على الموت أو وقع الموت علينا.
تنمية الوعي
لو تفحصنا الظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأ وترعرع فيها سيدنا علي الأكبر، عليه السلام، لوجدناهما الأشد حساسية في تاريخ أهل البيت، عليهم السلام، علماً أن التاريخ الذي طالما بخس حق هذه الصفوة من الخلق، وقدوة البشرية جمعاء، في ضبط أحوالهم وتفاصيل حياتهم، بيد إن الفترة التي يتأرجح فيها المؤرخين في تاريخ ولادة الأكبر، عليه السلام، بين؛ (33) للهجرة، و(42) للهجرة، تبين أن فترة حكم عثمان، وايضاً فترة تولّي أمير المؤمنين، عليه السلام، شؤون الامة، كانت تمثل ذروة الصراع بين الحق والباطل، في ظل فتن سوداء ألمّت بالأمة، مما خلق أجواءً فكرية شديدة الضبابية، وحصل هذا بفعل عمليات التضليل والتحريف والتشويه التي تسبب بها الأمويون طيلة السنوات التي سبقت تولّي أمير المؤمنين، عليه السلام، أمر الأمة، لذا كان الوصول الى نور الحق والحقيقة، والتمسك بحبل أهل البيت، عليهم السلام، يُعد مهمة شاقّة وصعبة، لا يؤديها إلا ذو حظ عظيم و وعي عميق وإيمان راسخ لا تزعزعه الدراهم ولا الاحاديث المختلقة، ولا قوة المال والسلطان وسياسة الترهيب والترغيب التي شهدتها الأمة آنذاك.
ومن نافلة القول؛ أن العدد النهائي لأصحاب الامام الحسين، عليه السلام، في ظهيرة العاشر من محرم، كانت جزءاً من عدد كبير ممن التحق بقافلة الامام، عليه السلام صوب الكوفة. وهذه الصفوة الصافية، لم تصل الى هذا اليقين بالفوز الحقيقي، إلا عندما تيقنت من قبل بالفوز الحقيقي لأهل البيت في صراعهم مع الباطل منذ الايام الاولى لرحلة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ومروراً بالاحداث التي جرت والظروف التي عاشتها الامة. وحسب المصادر، فان بين اصحاب الإمام الحسين، عليه السلام، في كربلاء، كان ثمة بقية باقية من أصحاب "بدر"، وممن ضربوا بالسيف بين يدي أمير المؤمنين، عليه السلام، في حروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين.
هذه البصيرة الايمانية التي تكونت بها شخصية الاكبر، عليه السلام، هي التي جعلته لا يتهيّب من كون القافلة ماضية الى الموت والشهادة، وليس الى الكوفة، حيث استلام الحكم والقيادة، والتنعّم بالملذات والرفاهية والمكاسب. وهذا لم يكن لولا تنمية الوعي وتعميقه، وإلا فان جموع المسلمين كانوا يعلمون من هو الامام الحسين، ومن هو أبوه وجده وأمه...؟ بل كثيرٌ منهم يحفظ ما قاله النبي الأكرم، بحق الحسين وأخيه، والمواقف المشرفة له بحقهما، وهما صبيان في حجره، وكيف كان يغمرها بالحب والحنان، بيد أن العقدة في هذا الجمع الهائل من الامة، أن هذه المشاهد كانت في رؤيتهم، مجرد لقطات يعجزون عن تفسير دلالاتها لقصور في الفهم وسطحية في الوعي، مع ضحالة في الايمان، وحتى احياناً، الايمان المزيف الذي يخفي المصالح الذاتية والترسبات الجاهلية.
شاب يتطلّع الى الخلود
مهما كان قربه ونسبه ومنزلته، يبقى عليٌ الأكبر، عليه السلام، ذلك الشاب ذو العشرين ربيعاً، الذي اكتملت فيه كل مواصفات الشاب اليافع والمكتمل من النواحي كافة، فهو يحب ويكره، ويتذوق ويطمح الى الافضل والى مستقبل يبتسم له، ليكون مثل سائر الرجال، ذو شأن في المجتمع. وهكذا كان الحال من الناحية التكوينية، في إحدى بنات أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما استعارت حليّة من بيت المال لتتزيّن بها يوم العيد وتعيدها ثانية، فهي إنما أرادت أن تكون مثل بين جنسها، تستشعر البهجة والفرح باليوم السعيد.
وكان من حق الأكبر، عليه السلام، أن يفكر بالزواج مثلاً، والحياة الهانئة مثل أي شاب آخر، بيد إن هذه المرحلة الشبابية وجدها الأكبر، قابلة لأن تكون في طريق نهضة حضارية وانسانية مدويّة على مر التاريخ، لا أن تنحسر في زاوية بيت او بين جدران بعض المراكز العلمية التي تبعد الطالب عن الحقائق فيما يتعلق بالحياة والانسان والوجود، وتجعله حبيس الكتب و الافكار والتصورات الذهنية التي تعجز عن ملامسة الواقع طرفة عين، إنما تجعل صاحبها يتلذذ بالأحلام الوردية والصور الذهنية عن الحب والسعادة والاطئمنان، بينما الحب والسعادة والاستقرار وغيرها من المقاصد النبيلة لدى الانسان، لن تكون لها مصداقية، إلا اذا اقترنت مع الفضائل والمكارم التي تصب في الصالح العام، ليعمّ الخير والنعيم الامة بأسرها، وليس شخص واحد او افراد معدودين.
اضف تعليق