معرفة أهمية الإرث الحضاري والإنساني الذي تركه لنا الامام الحسين، خلال مسيرته الخالدة نحو النهضة الإنسانية، وأعطت بكل تفاصيلها أروع الامثال واصدقها، من اجل انقاذ الانسان ومنعة من السقوط تحت رحمة براثن العبودية والانحلال، بل يكفي للباحث عن الحقيقة ان يذهب صوب كربلاء في زيارة الأربعين ليشاهد بنفسه...
قلما تجد في زمان او مكان تجتمع فيه الملايين من الناس من اجل نصرة الإنسانية، حيث تذوب فيه الطبقية والعنصرية والخلافات، وتتوحد فيه الأعراق والآراء والاتجاهات، لتبرز فيه "الإنسانية" بمعناها الطبيعي، بعيداً عن تشوهات الفوارق والألوان والاحساب، في زمن العودة الى الفطرة السليمة والأخلاق الحسنة، زمن التحلي بالفضائل وبناء الحضارة بمعناها "الإنساني" الخالد، انه زمان ومكان الامام الحسين (عليه السلام) وهو يدعو الجميع الى واحتها المعطاء.
يشير مفهوم الإنسانية الى عدة امور اهمها "إظهار الاحترام والإحسان تجاه رفقائنا من البشر، وتقدير قيمة التعلم البشري"، وفي الدين الإسلامي اعتمد هذا المفهوم على تكريم الانسان وتعظيمه وتفضيله لقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
وهو منهاج جميع الأديان السماوية التي اعتبرت الانسان قيمة عليا كما أشار المرجع الراحل الامام السيد الشيرازي: "الأديان السماوية عامة، وخصوصاً الإسلام الذي يكون أقرب إلى المطالعة لقرب عهده كانت تكون الأمم، وتغير جذور حياة الإنسان، التي كانت ناشبة في عروق الفرد والمجتمع، وذلك لأن الدين السماوي بطبعه، حيث يبنى على المصلحة الإنسانية، يقلع جذور المناهج المبنية على مصلحة القوم، أو اللغة، أو الحدود الجغرافية".
ان "الإنسانية والتعاون والخدمة والرفاه والثقة المتبادلة والاطمئنان والحياة السعيدة والاكتفاء الذاتي والرخص والحوائج الجسدية والنفسية التي وفرها الإسلام للأمة كانت قد أدخلت المسلمين في إطار حضارة إسلامية إنسانية كاملة".
ويرتبط مفهوم الإنسانية بقيم معينة، مثل (الإحسان، والإيثار، والاحترام، والتعاطف، والأخوة، وقبول الآخر، والتفاهم، وغيرها)، والتي تعتبر مجموعة من الالتزامات الأخلاقية التي ترشد الإنسان إلى كيفية التفاعل مع بني جنسه، وبالتالي فان معيار الاخلاق والطبية والفضائل هي الأساس في مبدأ الترابط الإنساني والتفاعل مع الاخرين وليس العكس مما نشاهده ونعيشه في عصرنا الحاضر من تشوهات وانحرافات طرأت على أصل الإنسانية من جانبين:
الأول: الانحراف الأخلاقي والإنساني والحضاري الكبير الذي اصاب الإنسانية ومعناها وتسبب بالكثير من الازمات والصراعات البشرية (مباشرة وغير مباشرة) التي امتدت اثارها لتشمل الجميع، كالحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية وغيرها، من اجل تحصيل الأرباح المادية وامتلاك القوة والسيطرة على مقدرات الشعوب.
الثاني: التحريف الذي استهدف الفطرة الإنسانية والأخلاق الإنسانية وسعى الى قلب الحقائق وتشويه الإنسانية باسم الحرية والتحرر من قيود الماضي، وما ترتب عليها من انحرافات أخلاقية خطيرة، وشذوذ جنسي، وتفشي الرذائل، والتقليد الاعمى.
بالتالي فان المجتمعات الإنسانية امام اختبار صعب ومصيري في مدى قدرتها للعودة الى جذورها الإنسانية الطبيعية، وكيفية التخلص من التشوهات التي اصابتها وحولتها الى مجرد سلعة لتحقيق الأرباح المادية، او قضية إعلامية للمتاجرة بها على منصات التواصل الاجتماعي.
لتحقيق النجاح يحتاج فان الإنسانية بحاجة الى:
1. العودة الى الفطرة الإنسانية السليمة واخلاقها وفضائلها وحضارتها الخالية من التشويه والتحريف، ان رحلة البحث عن جذور الانسانية لا تتم الا من خلال العودة الى منابع الحكمة واصل الإنسانية وحقيقة الاخلاق والفضائل التي اوضحتها الأديان السماوية، اذ ان: "كل ما يحتاجه الإنسان في مسيرته الإنسانية، ورحلته التكاملية وحياته اليومية، من سلامة روحه وجسمه، وسعادة حياته، ورغد عيشه، وأمن سفره وحضره، وصلاح دنياه وآخرته، كل ذلك وأكثر يجده في كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أهل البيت (عليهم السلام)".
2. التوحد حول قضية خالدة تجسدت فيها معاني الإنسانية وطبيعتها وقيمها واهميتها، مثلما توحد الناس حول قضية "النهضة الحسينية" الخالدة بكل معانيها وتفاصيلها، وبالتالي القدرة على احداث الفرق في السلوك الإنساني على المستوى الفردي والجمعي من خلالها.
3. بناء القيم السليمة للفرد داخل المجتمع وتحقيق تكامله الإنساني، من اجل خلق جيل انساني عارف وواعي، ويتحقق هذا البناء عن طريق التغذية المعرفية والعلمية السليمة، وتعزيز القيم والعادات والممارسات والأخلاق الحسنة في المجتمع.
4. التحصين ضد الآفات الاجتماعية، والعدوى التي تصيب المجتمعات الانسانية نتيجة للتقليد الاعمى لها من خلال استهلاك القيم والأخلاق المعلبة الجاهزة للاستخدام، والمستوردة من مجتمعات تعاني من أزمات أخلاقية ونفسية خطيرة بحجة التطور ومواكبة العصر.
ان الانهيارات الأخلاقية الكبيرة التي شهدتها الإنسانية في المئة عام الأخيرة، تشهد ان الإنسانية في خطر فقدانها لهويتها الحضارية وطبيعتها البشرية، وبالتالي اصبحت الحاجة ملحة الى توحيد الجهود والتكاتف من اجل العودة اليها مرة أخرى، اذ يعتبر السيد الشيرازي ان: "الإنسانية وحدة واحدة، واللازم على الإنسان خدمة الإنسان الآخر مهما كان لونه وعقيدته واتجاهه"، وفي سبيل تحقيق هذا الامر يعرج الشيرازي (رحمه الله) على خصوصية واقعة الطف وما يجري فيها من اجل الاستفادة منها في خدمة الإنسانية حيث يرى انه: "من الضروري توسيع دائرة الاستفادة من محرم الحرام ومعنوياته الهائلة ومبادئه النبيلة وأهدافه السامية لخدمة الإنسانية ولتحقيق السلام والرفاه في العالم".
ولا يحتاج المرء الى ادلة او براهين من اجل معرفة أهمية الإرث الحضاري والإنساني والقيمي الذي تركه لنا الامام الحسين (عليه السلام) خلال سيرة حياة الشريفة عامة، وتحديداً خلال مسيرته الخالدة نحو النهضة الإنسانية العظيمة التي قام بها، وأعطت بكل تفاصيلها أروع الامثال واصدقها، من اجل انقاذ الانسان ومنعة من السقوط تحت رحمة براثن العبودية والخضوع، والانحلال الأخلاقي، والتجرد من قيمته الإنسانية، لتحقيق مكسب انيه زهيده لا تتناسب واهميته كانسان.
بل يكفي للباحث عن الحقيقة ان يذهب صوب كربلاء في زيارة الأربعين ليشاهد بنفسه صدق ما تم ذكره، ويشعر بإحساس ان يستظل تحت راية واحدة قيمتها الانسان، ويلمس حقيقة التوحد في واحة الإنسانية وحصنها الأخير، عند الامام الحسين (عليه السلام) الذي خرج وضحى بما يملك من اجل نصرة الانسان، ودفاعاً عن الإنسانية.
اضف تعليق