منح الإمام الحسين الجميع وبلا استثناء الحرية وضرب المثل الأعلى بالتضحية دونها وقطع دابر الحكام الظالمين ممن دأبوا على قمع الحريات كسبيل للبقاء في السلطة، فكان من عاصره مخيراً بين الحرية التامة المتمثلة بمنهج الحق الذي يمثله الحسين والقائم على الاقتناع الذاتي، ومذهب أئمة الظلم القائم على القهر...
حمل الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء لواء الإصلاح، وكانت لمواقفه وطروحاته الدور الأكبر في استنهاض الأمة والخروج من حالة السبات التي عانتها إلى حالة الديناميكية الحياتية الحقة، وقد جسد عليه السلام بمواقفه يوم الطف المبادئ والقيم الإنسانية المتأصلة وعلى رأسها الحرية، ليس على المستوى الشخصي فحسب بل للآخرين في ركبه ومعسكره.
إذ ان الخلاف بين الإمام الحسين وأعدائه لم يكن حول السلطة أو المكاسب الدنيوية الزائلة، إنما كان خلاف يتصل بكرامة الإنسان وحريته، لذا قال قولته المعروفة التي تجري اليوم على كل لسان لتعبر عن واقع الحاكم الظالم ومن يحيط به من أفراد ارتضوا لأنفسهم العيش بعيداً عن القيم الحقة "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يُحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحصوا بالبلاء قلّ الديانون".
وثمة تساؤل عن الحرية في نهج الحسين عليه السلام برحلته التي امتدت من شهر ذي الحجة إلى العشرة الأولى من شهر محرم الحرام سنة 61 هجرية، حين وقعت الواقعة الأليمة باغتيال الحسين عليه السلام من قبل عصابة من المجرمين، إذ من الواضح ان الثنائية المعروفة كانت حاضرة يوم عاشوراء (الخير والشر، الفساد والإصلاح، الحرية والعبودية..)، وان الإمام كان يمثل الجزء المنير من تلك القيم الإنسانية فلازالت صرخة الطف نبراساً للأحرار في جميع الأمم والشعوب وعندما نقف عند مواقفه وحديثه نستشف التجسيد الحقيقي للقيم الإنسانية والإسلامية الأصيلة وعلى رأسها الحرية التي تجسدت يوم الطف بسلوكه عليه السلام قبل وأثناء معركة الطف ضد الظلم والفساد والانحراف واستكملت أسرته المسيرة فيما بعد.
إن التأمل في شعارات ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء تكشف وبما لا يدع مجالاً للشك انه قصد قيم الحرية والكرامة والإصلاح بمواجهة قيم الظلم والانحراف والعدوان، ولما جمع لحربه الألوف لم يلتفت لذلك ومضى في طريق الإصلاح واستنهاض الأمة بالعودة إلى طريق الحق والعدل وكثيرا ما تردد على لسانه الشريف مقولة "هيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
وظهرت الروح الثورية التواقة إلى التخلص من براثن الفساد في أولى خطوات الإمام في المدينة المنورة إذ خاطب أخيه محمد وبعض أقربائه قبل السفر إلى العراق عندما قال عليه السلام "بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى بني هاشم: أما بعد فانَّه من لحق بيَّ استشهد، ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح والسلام" وقال عليه السلام في موطن آخر "من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا" والخطاب المتقدم دليل وعي وإيمان بالقضية التي خرج لأجلها الإمام عليه السلام وعلو الهمة، والتخطيط الاستراتيجي لقضية أزلية تتمثل في مقارعة الباطل والانحراف، وما تقدم يتطلب ان ينهض معه ثلة طيبة من الأقرباء والأنصار من منطلق الإيمان بالقضية المركزية التي تتمثل بالـ(حرية) لا لدواعي شخصية أو أسرية أو دوافع ذاتية، بل يمكن القول وبكل ثقة ان الدافع كان موضوعياً وعن قناعة وثقة وإيمان بالقضية، لذا حرص عليه السلام على عدم إلزام أيا منهم بالخروج معه إلا عن حرية مطلقة وإرادة واختيار.
وبهذا منح الإمام الحسين الجميع وبلا استثناء الحرية وضرب المثل الأعلى بالتضحية دونها وقطع دابر الحكام الظالمين ممن دأبوا على قمع الحريات كسبيل للبقاء في السلطة، فكان من عاصره مخيراً بين الحرية التامة المتمثلة بمنهج الحق الذي يمثله الحسين والقائم على الاقتناع الذاتي، ومذهب أئمة الظلم القائم على القهر والعدوان والأساليب الشيطانية في الإغواء وكسب الأنصار، فقد اختار الإمام الحسين لنفسه طريق ذات الشوكة لطلب الإصلاح مرجحاً ذلك على القعود وعدم النهوض بالمسؤولية الأخلاقية والدينية والإنسانية.
ثم ان الإمام عليه السلام ضرب لنا أروع الأمثلة في الإيثار في حديث له مع أصحابه حين وصلوا إلى العراق إذ يقول لهم "إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقا حقاً فاني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما" وما ذاك الحديث إلا دليل إيمان الحسين عليه السلام بالحرية التي لا يساوم عليها ولو كان ثمنها ذهاب روحه وقتله سلام الله عليه.
كما أكد الإمام الحسين على الحرية تكراراً في مخاطبته للقوم الذين تجمعوا لحربه فقد قال لهم في كلام مطول أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قوله "من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله" نستشف من المقطع المتقدم التأكيد الراسخ على الحرية في الرأي ومقاومة طغيان السلطة.
وما تقدم يعد من أجلى تجليات الحرية كمبدأ وكحق أزلي للإنسان ليعبر بحرية عن معارضته للنظام الحاكم ان وجد ان القائمين عليه قد انحرفوا عن جادة الصواب وركنوا إلى الفساد والإفساد في الأرض والفطرة السليمة للإنسان، ولابد لنا من التأكيد ان الدين الإسلامي حرص كل الحرص على تربية أجيال من المسلمين ممن يحملون لواء المسؤولية تجاه الشأن العام والتصدي للفساد أياً كان لونه أو مصدره، إذ يعد الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر ركناً من أركان دين الله وليس أمام الفرد المسلم من سبيل إلى التملص من مسؤولية التصدي للظلال والمنكر ولو بقلبه ان لم يتمكن من ذلك بيده أو لسانه.
وتأكيداً للإيمان المطلق بحرية الفرد بالاختيار يلهج أبو عبد الله ليلة المعركة بلسان عربي فصيح أن الجميع أحرار في انتهاج السبيل الذي يرغبون فيه ويحلهم من بيعته أو أي التزام له إزاءهم، بعبارة أخرى هو كفل لهم الحرية الكاملة في الاختيار بعيداً عن كل صورة من صور الضغط ومصادرة الاختيار، بل انه جاهرهم بالنتيجة الحتمية ليوم المعركة الموعودة، لكي يكون خطابه لهم مصداق لقوله تعالى "لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ"، لذا خاطبهم عليه السلام بقوله "إني لا أعلم أصحاباً أصح منكم ولا أعدل، ولا أفضل أهل بيت، فجزاكم الله عني خيرا، فهذا الليل قد أقبل فقوموا واتخذوه جملا، وليأخذ كل رجل منكم بيد صاحبه أو رجل من إخوتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم".
وفي حديث الإمام مع الأعداء بعد ان أشرفت المعركة على النهاية العسكرية بقتله إذ ذكرهم أيضاً بالحرية التي ينبغي لهم ان يتخذوها منهجاً في حياتهم فقال لهم معاتباً "ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعراباً" فلو كان الجيش الأموي قادة وأفراداً يمتلكون شيئاً من الحكمة، أو الإيمان بقيم السماء لما امتدت أيديهم إلى ريحانة رسول الله، ولما أساءوا إلى حرمه وأهل بيته، وبالحد الأدنى كان ممكنا ان يتعاملوا معهم بقيم العرب المعروفون بالغيرة على النساء والعطف على الأطفال وإغاثة الملهوف والرفق بالضعيف، لكن كربلاء يوم الطف كانت شاهداً على انحطاط أخلاقي وقيمي خطير يخدش حتى الثوابت الإنسانية.
وللحسين عليه السلام العديد من العبارات الدالة على قصده في صيانة الحرية والتعويل عليها في أحلك الظروف وأصعبها إذ تمثل الإمام الحسين بأبيات مطلعها:
((سأمضي وما بالموت عار على الفتى....إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما))، وقال أيضاً "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد"، "الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار" إذ يريد الإمام الحسين ان يقول للأجيال التالية إن الإنسان إذ وقف أمام خيارين أحدهما العار والذلة والهوان والخيار الثاني هو الموت بعزة وكرامة فالأولى أختار الموت على الحياة مع الظالمين.
اضف تعليق