يوم الأربعين 20 صفر الأحزان، هو يوم الزحف المقدس إلى الروضة القدسية لزيارة ذاك القديس، والإمام الذي وهب نفسه وكل ما يملك فداء لدين الله واستنقاذاً لعباد الله من الجهالة، وحيرة الضلالة، كما في الزيارة، فهي يوم تجديد البيعة لمَنْ نكثوا بيعته، واستجابة لندائه الذي...
تأصيل قرآني
يقول الأعلام الكرام: أن لله تعالى كتابين، تكويني، وتدويني؛ وهما متكاملان يفسِّر بعضهما بعضاً، والكتاب التدويني؛ هو كتاب الله الصامت القرآن الحكيم، وله قرآن ناطق هم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وأما الكتاب التكويني؛ فهو كتاب الخلق والتكوين بكل ما فيه من آيات تدلُّ على الخالق والبارئ والمصور والمكوِّن لها جميعها.
وفي كتاب الله التدويني الصامت يقول ربنا سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فُصِّلت: 53)
فآيات الآفاق؛ هي آيات الخلق الدَّلة على القدرة والحكمة والعلم، وهي متكاملة مع آيات النفس البشرية التي خُلقت من هذا التراب وإليه تعود، في دورة حياتية متكاملة ومنتظمة، فسبحان الخالق العظيم الذي أبدع بما صنع: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: 88)
ومن أجمل وأضبط وأدق مصنوعات الله تعالى وإبداعاته الغير متناهية؛ هو صنع هذا الإنسان الذي خلقه وسوَّاه بأجمل صورة ممكنة، قال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (غافر: 64)، وقال ربنا تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (التغابن: 3)
فهذا التناغم في الآيتين الكريمتين بين خلق السماوات والأرض، وبين صوَّركم فأحسن صوركم، هي للتقابل الدلالي والجمالي بين الصورتين، المتكاملتين فيما بينهما من حيث الدقة في الصنع، والرِّقة والجمال في المصنوع، والقدرة والخبرة والعلم بالصانع فتبارك الله أحسن الخالقين.
والباري سبحانه جعل في كل شيء خلقه ميزان له ومقياس من نفسه ليكون مثالاً واقعياً، ومعياراً لغيره من المخلوقات، وجعل الإنسان مثاله الأرقى والأنقى بما حباه من عقل مفكر، وإرادة فاعلة، وبعث فيهم أنبياء ورسل وأوصياء وأولياء منهم، وأنزل عليهم صحف، وكتب من السماء فيها بيان مصالحهم ومفاسدهم، وتفصيل كل شيء يحتاجون إليه في حياتهم الدنيا ضامنة لهم السعادة فيها إذا ما اتبعوها بالأوامر فعلاً، وللنواهي تركاً، بدلالة وإشارة وبيان وتعليم ذاك الإنسان الكامل، والمثال في اللإنسانية والفضائل، نبياً كان أو ولي، فلا بدَّ من حُجة لله في خلقه، ولو خلت منه لما بقيت طرفة عين أبداً، ولساخت بأهلها حسب الروايات المتضافرة في هذا الباب.
والإمام الحسين (ع) كان ذاك المثال في عصره الذي عاش فيه بين الناس في أمة جده المصطفى (ص) ولكنها تركته فريداً وحيداً وهو يدعوها إلى الله، ولم تكتفِ بذلك فقط بل تجمَّعت وتآلفت، وتكالبت، عليه فجمعوا ثلاثين ألف لقتاله ولم يتركوه إلا جثَّةً مرضرضة بحوافر الخيول الأعوجية، وبلا رأس لأنهم رفعوا رأسه الشريف على رمح طويل ليكون عليهم شاهداً عبر العصور وكرِّ الدهور.
لا يوم كيوم عاشوراء
هناك في القرآن الحكيم، آية في غاية الدِّقة والرَّوعة، حيث تقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ)، (إبراهيم: 5)، فما هي تلك الأيام التي شرَّفها الله ونسبها إليه؟ يجيب عن هذا السؤال جناب السيد الأستاذ مرتضى الشيرازي (حفظه الله) في إحدى محاضراته الحسينية، فيقول: "إن تذكير عباد الله بأيام الله على مدار السنة يُعدّ وسيلةً مثلى وفُضلى لإخراجهم من الظلمات إلى النور حدوثاً، ثم المحافظة عليهم في دائرة النور والهُدي، فإنّ الإنسان لو ذكّر عبادَ الله بشتى العناوين وبمختلف المناسبات بالأحداث والوقائع العظمى من أيام الله: من أعياد إلهية؛ كعيد الأضحى، والغدير، أو أحزان ومصائب كعاشوراء أو الفاطمية، فإن هذه تعدّ من إحدى أنجح وأنجع الطُرق لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
إن الذين يجهلون ويتجاهلون قيمة إحياء هذه المناسبات العظيمة، هم في الواقع قد ضيّعوا طريقة إلهية عقلائية مُثلى لهداية الناس؛ فإن الكثير من الناس في أيام شهر محرم الحرام يهتدي إلى الدِّين.
والكثير من العُصاة يتوجه إلى التوبة في مثل هذه الأيام الحزينة، أو في المناسبات والأعياد الإلهيّة، كعيد الفطر، والأضحى، والجمعة، وعيد الغدير، ومولد الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في 15 شهر شعبان، وكذا سائر الأيام الإلهية، فإن من مصاديق التذكير إحياء العشرة المهدوية، وكذا إحياء شهر كامل بعنوان أيام الفاطمية، كما يصنع بعض المؤمنين حيث يُحيون ذكرى شهادة الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) شهراً كاملاً يصلون فيه بين الفاطميتين بإقامة مجالس العزاء، ولبس السواد، فإن مثل هذا العمل تذكير بأيام الله.
فالتذكير بأيام الله تعالى، له جانب طريقي ومقدمي لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فالعلاقة الوجودية بين [أَخْرِجْ قَوْمَكَ]، وبين [ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ] هي علاقة المعدّ والسبب؛ فإنّ (ذكّر) من الوسائل المعدة والمسببة لإخراج القوم من الظلمة إلى النور". (شرعية، وقدسية، ومحورية النهضة الحسينية؛ السيد مرتضى الشيرازي: ص9)
فأيام الله كثيرة وهي مرتبطة بشعائر الله في هذه الحياة، والشريعة الإسلامية المباركة، فكل يوم يُذكِّرك بالله، ويفتح لك نافذة إلى ساحات قُدسه هي من أيام الله سواء كانت فرحاً وأعياد، أو ترحاً وحزناً وعزاء، لأن الحياة تتأرجح بين هذين العنوانين العريضين في هذه الدنيا.
ويوم عاشوراء هو يوم فريد على مرِّ الدهور وكرِّ العصور ولذا قال المعصوم (ع): (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله)، فهذه حقيقة لا مجاز، وواقع لا خيال، فلا يوجد يوم من أيام الدنيا كيوم عاشوراء تقدَّمت فيه قرابين لله، بتلك الكيفية المفجعة، وذلك المستوى الرفيع الراقي، فكان يومٌ لله مشهود في هذه الحياة، ما زال يتفاعل ويتنامى في الحياة منذ أن وقع في مطلع سنة 61ه.
يوم الأربعين من أيام الله
بعد يوم عاشوراء المأساة الخالدة، كان يوم الأربعين 20 صفر الأحزان، هو يوم الزحف المقدس إلى الروضة القدسية لزيارة ذاك القديس، والإمام الذي وهب نفسه وكل ما يملك فداء لدين الله واستنقاذاً لعباد الله من الجهالة، وحيرة الضلالة، كما في الزيارة، فهي يوم تجديد البيعة لمَنْ نكثوا بيعته، واستجابة لندائه الذي لم يُلبوه يوم نادى، ولنقول معه بكل عزة وشموخ: (هيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)، فنرفض الطغاة والطغيان، ونثور على الظالمين في كل زمان ومكان.
يقول جناب السيد مرتضى الشيرازي في بحثه الراقي: " توجد لدينا كبرى كلية وهي [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ]، وصغرى جزئية وهي [أَيَّام اللهِ]، وبالقياس المنطقي نقول حول مثل عاشوراء أو يوم الأربعين: (يوم الأربعين يوم من أيام الله) و(كل يوم من أيام الله من شعائر الله) (فيوم الأربعين من شعائر الله) أو نظير هذا القياس.
وإذا عرفنا أن (أيام الله) تكتسب قدسيتها من إضافتها إلى الله سبحانه وتعالى عرفنا قيمة أيام محرم والأربعين، وذلك لأن سيد شباب أهل الجنة(ع) قد نهض لإحياء دين الله، ولأجل الإصلاح في العباد والبلاد، حيث صرّح (صلوات الله عليه) بقوله: (إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمة جدي).
ولأن سيد الشهداء (عليه الصلاة والسلام) أخلص نيَّته وبأعلى درجات الخلوص لله سبحانه وتعالى، وبذل مهجته لله عز وجل وكافة ما يملك، وبأسمى وأرقى وأعلى درجات البذل والتضحية؛ لذلك صار ذلك اليوم من أيام الله؛ لأنه يُذكّرنا بالله سبحانه، ويذكّرنا بوصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يُذكّرنا بعظيم تلك التضحيات، ويُذكّرنا بما لم ير وجه التاريخ له مثيلاً من أسمى درجات الإيثار والشهامة والبطولة وعزة النفس والإباء والشموخ (شموخ الحق، وشموخ الحقيقة، وعلو هذا المجد) الذي لا نظير له في عالم الإمكان، إلاّ في دائرة الرسول الأعظم (ص) وأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) ومن ثَّم سائر الأنبياء والمرسلين (صلوات الله عليهم أجمعين) الأمثل فالأمثل.
كما تكتسب هذه الأيام (قدسيتها) من إضافتها (لله) سبحانه، كذلك تكتسب (خلودها) من (الله) تعالى؛ فإن هذه الأيام لا يمكن أن تُمحى، فكما لا يستطيع أحد أن يمحو يوم عرفة، لأنه من (شعائر الله) ومن (أيام الله) كذلك لا يمكن لأحد أن يمحو عاشوراء أو يوم الأربعين فإنها من (أيام الله) و(شعائره)، وكم من الطغاة والعتاة والجناة أمثال؛ المتوكل العباسي، وصدام التكريتي، (عليهم لعائن الله) حاولوا أن يطمسوا هذا النور، وأن يمنعوا زيارة الأربعين، فعلى الرغم من أربعين سنة تقريباً من ذلك الاستبداد الرهيب لكنكم جميعاً تشاهدون ما لا نظير له في العالم كله حيث الملايين من الناس (15 مليوناً أو أكثر) من كل أنحاء العراق وخارج العراق، يأتي الكثير منهم ومن دول شتى، مشياً على الأقدام وفي مسافات طويلة جداً، فمثلاً؛ ينطلق مئات الألوف من البصرة وحدها ليقطعوا مسافة 600 كيلومتر تقريباً مشياً على الأقدام ولمدة 10 إلى 15 يوماً في شدة الحر أو شدة البرد، وكذلك الحال في الرميثة والسماوة والعمارة والناصرية والنجف وبغداد وغيرها من المدن والمحافظات ــ على اختلاف المسافات ــ وحتى من بعض البلاد المجاورة أيضاً كما سمعتُ أن الكثيرين من إيران، والبعض من الكويت، ومن بلاد أخرى (كالبحرين)، انطلقوا مشياً قبل فتره من الزمن كي ينالوا هذا الشَّرف العظيم، وهذا يعني أنهم قبل ثلاثين يوماً أو عشرين يوماً انطلقوا على الأقدام ليوصلوا أنفسهم إلى زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وهذا شاهد بارز على (يوم من أيام الله) قد اكتسب قدسيته وخلوده من إضافته إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الله أبدي سرمدي وما ينتسب إلى الله سبحانه وتعالى، في حدود عالم الإمكان، ستكون له الأبدية النسبية بإذن الله عز وجل". (شرعية، وقدسية، ومحورية النهضة الحسينية؛ السيد مرتضى الشيرازي: ص17)
ولذا لا نستغرب من هذه المسيرة المليونية، وهذه المائدة النورانية، التي تسير وتزحف إلى كعبة القلوب والأرواح، إلى المعشوق الحقيقي لهؤلاء الكرام الذين لبُّوا نداء سيدهم ومولاهم وإمامهم الحسين بن علي (ع)، فهذا أمر طبيعي، وفطري، وعقلائي، أمر به الدِّين وندب إليه رسول رب العالمين (ص)، وذلك لتعظيم شعائر الله، وتذكير الناس بأيام الله الخالدة بخلوده، الباقية ببقائه، العظيمة بعظمته سبحانه وتعالى.
ويجب أن ننظر إلى هذه المسيرة بكل هذه التحديات التي تُحيط بها من كل حدب وصوب، وكل هؤلاء الأعداء والمرجفين والمشككين، كنظرنا إلى رحلة الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة حيث لم يكن مع رسول الله (ص) إلا دليله ولكن تحدى قريش المشركة، والأعراب الكافرة، وخرج من بينهم جميعاً وسار بحفظ الله وحمايته حتى وصل إلى مأمنه في المدينة، وقام فيها بما أمره الله تعالى ببناء القواعد الرَّصينة لهذا الدِّين العظيم، وهكذا فعل خلال عشر سنوات من عمره الشريف إلى أن أكمل الله الدِّين وأتمَّ النِّعمة في يوم الغدير الأغر الذي هو من أعظم أيام الله وأكبر أعياد الأمة.
ويوم الإمام الحسين (ع) كان امتداداً ليوم الغدير، حيث رفض المنافقون أوامر الله تعالى بداية ولكن عندما رؤوا مقتل ذاك الجلف الجافي الذي سأل العذاب فنزل عليه في لحظته كما قال تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ) (المعارج: 2)
فبادروا جميعاً للبيعة مع إضمار النكث والغدر بصاحبها أمير المؤمنين (ع) فبخبخوا له مذعنين خاضعين غير راضين ولكن خائفين وجلين من نزول العذاب، ولكن ما أن رجعوا إلى المدينة حتى أظهروا له ما قد خبَّؤوه من مكر وخديعة، فمنعوه من كتابة الوصية، ورفضوا أمره بالخروج مع جيش أسامة، رغم لعنه لكل مَنْ تخلَّف عنه.
وسارت الأحداث بكل مآسيها وكوارثها على هذه الأمة، وعلى أهل البيت الأطهار (ع) بالخصوص، إلى أن وصل الحكم إلى صبيان النار من أبناء الشجرة الملعونة في القرآن الأموية، الذين ما آمنوا ولن يؤمنوا إلا بالحكم والسلطان، فلما وصل يزيد الشر إلى السلطة ارتكب تلك الجريمة التي أراد منها إفناء أهل البيت (لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية)، لدفن الإسلام، ولكن الله يأبى عليهم ذلك، وصدق مَنْ قال: (الإسلام محمدي الوجود وحسيني البقاء والاستمرار).
اضف تعليق