الإمام الحسين سار على نهج جده الرسول الأكرم وأبيه أمير المؤمنين الإمام علي فقد ضربوا أروع الأمثلة وأجمل الصور في التسامح وبالخصوص تجاه من أساء إليهم. فالإمام الحسين كان يحث على التحلي بالأخلاق الحسنة ويعتبرها جزءاً من العبادة، إذ يقول الْخُلُقُ الْحَسَنُ عِبادَةٌ...
فضيلة التسامح من الفضائل الأخلاقية الكبرى التي دعا إليها الإسلام وحثّ أتباعه إلى التحلي بقيم ومبادئ وأخلاقيات التسامح في جميع صوره وأشكاله. فالتسامح هو مزيج ما بين الفكر والأخلاق، فتاره يتم التركيز على التسامح من زاوية أخلاقية، وتعني تطبيق مفاهيم ومعاني التسامح الأخلاقي في التعامل والسلوك مع الآخرين. أما مفهوم التسامح من الزاوية الفكرية فهي التعامل مع نظريات وأفكار وآراء الناس على صعيد النظر والفكر.
وفضيلة التسامح ركيزة أساسية يدعو إليها الدين الإسلامي بقوله تعالى: ﴿وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، بالإضافة إلى الأحاديث والروايات الكثيرة التي تشير إلى أهمية وضرورة التسامح مع المخطئين والمسيئين.
وانطلاقاً من الآية المباركة فللتسامح مستويات، فالمستوى الأول هو العفو وهو ترك العقاب تجاه المخطئ والمسيء بحقك.
أما المستوى الثاني للتسامح فهو الصفح ويعني ترك العقاب مع عدم اللوم والتوبيخ والذم تجاه الإنسان المخطئ.
أما المستوى الثالث للتسامح فهو الغفران وهو يعني ترك العقاب مع عدم اللوم والتوبيخ وعلاوة على ذلك محو أخطاء الآخرين من الذاكرة، وهذا أفضل مستويات التسامح وأعلاها. فإذا كان الله تبارك وتعالى بجلاله وعظمته يغفر للمذنبين والمخطئين والمسيئين من عباده، أليس من الأولى لنا أن نعفو عن المخطئ ونصفح عنه ونغفر له زلاته؟!
والتسامح لغة يعني التساهل، فضلاً عن المعاني الأخرى وهي الكرم والجود والعطاء.
أما في الاصطلاح فتوجد تعاريف متعددة، ولكن يمكن القول بصورة مختصرة أنه: السماح للآخر في حق الاختلاف واحترام المختلف وقبول ما يترتب عليه من نتائج، فعندما نقر بمبدأ التسامح فإننا نقر بحق الآخرين في الاختلاف وحقهم في الحياة بنحو مختلف عن الذات.
الإمام الحسين (عليه السلام) سار على نهج جده الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأبيه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، فقد ضربوا أروع الأمثلة وأجمل الصور في التسامح وبالخصوص تجاه من أساء إليهم. فقد أثنى المولى عز وجل في كتابه الكريم على نبيه بالخلق العظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، فالإمام الحسين (عليه السلام) كان يحث على التحلي بالأخلاق الحسنة ويعتبرها جزءاً من العبادة، إذ يقول (عليه السلام) «الْخُلُقُ الْحَسَنُ عِبادَةٌ »؛ وكان يحث الناس على التسارع والتنافس في التحلي بمكارم الأخلاق.
وقد كان (عليه السلام) لطيفاً ومتسامحاً مع من يخطئ بحقه، فقد قال رجل للحسين (عليه السلام) إن فيك كبرا، فقال له الإمام (عليه السلام): إن الكبر كله لله وحده ولا يكون في غيره، إن فيّ عزة، وتلا قول الله تعالى ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، فالإمام الحسين (عليه السلام)
تعامل مع هذا الناقد المخطئ بكل لطف ورفق وتسامح، ولم يغضب أو يرد عليه بما لا يليق، بل أجابه بكل رحابة صدر مبيناً له خطأ انتقاده للإمام بأن الكبر لا يكون إلا لله تعالى، وأن، الإمام فيه عزة المؤمنين وصلابة الإيمان.
ومن صور التسامح لدى الإمام الحسين (عليه السلام) قبول العذر تجاه من أخطأ بحقه، فينقل الإمام زين العابدين عن أبيه الإمام الحسين عليهما السلام، يقول: «لَو شَتَمَني رَجُلٌ في هذِهِ الاذُنِ- وأومَأَ إلَى اليُمنى- وَاعتَذَرَ لي فِي الاخرى، لَقَبِلتُ ذلِكَ مِنهُ».
فالبعض عندما يخطئ أحد بحقه لا يسامحه ولا يقبل عذره بل تحدث القطيعة والعداوة والشحناء والبغضاء معه، ولربما حدث ما هو أكثر من ذلك من شتم وسب وضرب وعنف، في حين أن الإمام الحسين يدعو إلى التسامح مع المخطئ وقبول العذر من الآخرين.
فالإمام الحسين (عليه السلام) كان كثير العفو والصفح عن المسيئين إليه، فيروى أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان عنده غلام وقد ارتكب جناية استحق عليها العقاب فأمر الإمام الحسين (عليه السلام) أن يؤدب، فقال الغلام: يا مولاي ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾. قال: خلوا عنه. فقال: يا مولاي ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾. قال: قد عفوت عنك. قال: يا مولاي ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. قال: أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك. فالإمام الحسين (عليه السلام) لم يكتفِ بكظم الغيظ والعفو عن الغلام المسيء الذي يستحق العقوبة بل أعتقه وأكرمه وضاعف له العطاء وأحسن إليه.
فكيف بنا الحال إن أخطأ أحد من عائلتك أو أقربائك أو أصدقائك أو من حولك تجاهك؟
فلابد من التمسك بقيم التسامح في جميع الأحوال والأوقات وفي كل شؤون الحياة، وخصوصاً مع الأهل والأقارب والأرحام والجيران والأصدقاء والزملاء.
التسامح الانساني
وقد امتاز الإمام الحسين (عليه السلام) بتسامحه الإنساني أيضاً، فالإمام الحسين (عليه السلام)
ضحى بأغلى ما يملك وهي نفسه الشريفة من أجل إرساء القيم الإنسانية التي يؤمن بها جميع البشر.
ومفهوم التسامح الإنساني هو ما يكون الدافع فيه القيم الإنسانية المحضة من غير النظر إلى الدين أو المذهب أو العرق، بل إن التسامح يكون في هذه الصورة منطلقاً من مبدأ الإنسانية واحترام الإنسان.
فقد دعا الحسين (عليه السلام) إلى تحقيق العدالة والكرامة والعزة واحترام الإنسان. لذا فإننا نجد الكثير من العقلاء والمفكرين في العالم من غير المسلمين يكتبون عن سيرة الإمام الحسين (عليه السلام)، ويعجبون بشخصيته، وينبهرون بتضحياته العظيمة.
ومن هذه الصور الرائعة تسامح الإمام الحسين (عليه السلام) مع أعدائه وهو قمة التسامح، فعندما وصل الجيش الأموي بقيادة الحر بن يزيد الرياحي وكانوا ألف فارس ووقفوا في مكان نزل فيه الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا في غاية العطش والظمأ وكادوا أن يموتوا من شدة العطش لكن الإمام الحسين (عليه السلام) بإنسانيته ورحمته ورأفته أمر أهل بيته وأصحابه أن يسقوا من جاؤوا لمحاربته وقتله الماء، ولم يكتفِ بذلك بل أمر بإسقاء الخيول وعلاوة على ذلك قام بنفسه الشريفة بإسقاء أحد الأعداء وعاونه وساعده على ذلك.
أما الشاهد الثاني من صور التسامح الإنساني فهو تسامحه مع خصومه، فأسامة بن زيد لم يبايع أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومع ذلك عندما علم الإمام الحسين (عليه السلام) بأنه في حالة المرض ذهب الإمام لعيادته وعندما دخل عليه قال أسامة بن زيد عندما رأى الإمام الحسين (عليه السلام): واغماه! فقال له الإمام الحسين (عليه السلام): مما غمك يا أخي؟ فقال أسامة: ديني ستون ألف درهم وأخشى أن أموت قبل سداده. فقال له الإمام الحسين (عليه السلام): أنا أقضيه عنك. فقال: ولكن أخشى أن أموت قبل سداده. فقال له الإمام الحسين (عليه السلام): لن تموت حتى أقضيه عنك، وبادر الإمام الحسين (عليه السلام) وسدد دينه. فنجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) يذهب لزيارة مريض من خصومه؛ بل ويدفع عنه دينه ويكرمه ويحسن إليه، ويغض طرفه عن موقفه من أمير المؤمنين (عليه السلام) الخاطئ، وهذا يدل على مدى التسامح الذي كان ينتهجه الإمام الحسين (عليه السلام).
التسامح الفكري
وهو أن يكون الإنسان متسامحاً مع الآخرين تجاه الأفكار التي يختلف معهم حولها، فطبيعة البشر تختلف أفكارهم وتوجهاتهم وقناعاتهم، ويظهر التسامح الفكري لدى الإمام الحسين (عليه السلام) حين مدح القائل ونقد الفكرة، فقد قيل للإمام الحسين (عليه السلام): إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة. فقال (عليه السلام): رحم الله أبا ذر، أما أنا أقول: من وثق بحسن اختيار الله لم يختر غير ما اختار الله له.
وفي هذا النص نجد أن الإمام الحسين (عليه السلام) بدأ بمدح القائل ثم انتقد الفكرة بأسلوب جميل ومنطقي وموضوعي. وهنا يضرب الإمام الحسين (عليه السلام) أروع الأمثلة في التسامح الفكري الذي نحن في أمس الحاجة إليه الآن وهو منهج يجب أن يسلكه أهل الرأي والفكر والعلم.
ومن التسامح الفكري عند الإمام الحسين (عليه السلام) عندما قال عنده رجل: إن المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع. فقال الحسين (عليه السلام): ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البر والفاجر. فشبّه الإمام فعل الخير بالمطر ينتفع به جميع الناس الصالح والطالح، والمؤمن وغير المؤمن، ثم إن الله سبحانه يجازي فاعل المعروف على فعله ويعطيه الثواب والأجر، ولا يذهب فعله سدى.
ان الحاجة للتسامح مطلب ديني وضرورة اجتماعية؛ فالمنهج الديني يؤكد عليه والواقع الاجتماعي يفرضه، فإن حقائق التنوع الفكري والثقافي والاجتماعي، والتعدد الديني والمذهبي، وتغاير التوجهات والنظريات والأفكار يدعونا إلى انتهاج نهج التسامح، ولا يمكن أن نعيش في سلام وأمن وأمان وألفة وانسجام إلا بالتحلي بمبادئ وقيم وأخلاقيات التسامح، وإن الاختلاف يجب أن لا يمنعنا من التعايش والتواصل والتعاون والتكامل والاحترام.
اضف تعليق