مسيرة الزائرين يوم الاربعين مشياً على الاقدام لمسافات بعيدة، قدمت تطبيقات عملية للتعاون والتكافل واحترام الآخر، الى جانب قيم عليا مثل؛ الحرية والمساواة، وهذا يؤهلها لأن تحمل مهمة الوساطة (الوسط) بين الرسالة السماوية الخاتمة، وبين اصحاب كل الديانات والمذاهب في العالم، والدليل على هذا التأهيل...
بسمه تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...). سورة البقرة، الآية،143
الصفات الاجتماعية والنفسية التي تحلّى بها العرب قبل بزوغ فجر الاسلام، كانت تمثل علامات فارقة ما بينهم وبين الأمم الاخرى، مثل الكرم والنخوة والشجاعة، وهي صفات لها جنبة وراثية و تربوية، وعند ما انتشر نور الاسلام في ربوع هذه الامة، جعل لهذه الصفات أبعاد اجتماعية وحضارية، وأخرجها من أطرها الضيقة، كما زاد على المجتمع العربي صفات وفضائل ومكارم أخرى بنفس المواصفات مكنتهم من نشر الاسلام في الآفاق في فترة وجيزة بما أذهل المؤرخين والمفكرين قديماً وحديثاً، فهي لم تكن من الموروثات الاجتماعية، وإنما نابعة من قيم اخلاقية ودينية عليا، مثل الصدق والامانة والعدل والحرية والأخوة والتقوى والزهد وغيرها، فتحول العرب من سكان للجزيرة العربية بتلك الحالة المعروفة من الضعف والهوان والتخلف، الى أمة متكاملة تحمل رسالة التحضر والتقدم الى البشرية جمعاء وعلى مر الاجيال.
وهذا ما كشف عنه القرآن الكريم أول مرة في الآية التي صدرنا بها المقال، وهو يخاطب ابناء الامة، بأنه مقابل كل هذا التميّز عن الأمم في العالم، عليهم تحمل مسؤولية حمل هذه الرسالة السماوية ونشرها في العالم، والخطاب ليس موجهاً لابناء الامة في زمن نزول هذه الآية، وانما الخطاب موجه الى الاجيال المتعاقبة الى يوم القيامة.
الأمة الوسط والمرآة الناصعة
اختيار مفردة الوسط لم تأت اعتباطاً في القرآن الكريم حتى تكون من سمات الامة الاسلامية، فهي ظهرت من بعد مادية اليهود، ومن بعد رهبانية المسيحيين، هذا من الناحية الحضارية، ومن الناحية الفكرية ايضاً؛ فقد أختيرت هذه الامة لتكون الوسط بين الحرية الفوضوية، وبين النظام التسلطي والقمعي، وبين ظلم للفرد للجماعة، وبين ظلم الجماعة للفرد، وبين الغلو والجفاء.
بينما الوسطية المحضية بها الامة الاسلامية، عبارة عن رسالة تتحملها من بعد النبي الأكرم، المبلغ لرسالة الله –تعالى- وهو ما اتفق عليه معظم المفسرين، بيد ان الفارق البسيط في من يكون المقصود تحديداً؛ في حالة الوسطية ويحقق دور "الشهادة" على سائر الامم في العالم.
وفي كتابه الوسطية والاعتدال في الفكر الاسلامي، ذكر آية الله السيد مرتضى الشيرازي ثلاثة أقوال منها: "ان الامة الوسط هي الامة المتوسطة بين رسول الانسانية، وبين الناس على امتداد التاريخ الى يوم الحشر الاكبر، وكوننا وسطاء بين الرسول الاعظم وبين الناس يعني ان علينا ان تكون المرآة الصافية التي تعكس على سلوكنا اليومي وفي حياتنا الشخصية والاجتماعية والسياسية، الاخلاق النبوية ومعالم الانسانية...".
كما يورد قولاً آخر عن الحالة الوسطية في "ان الامة الوسط هي نخبة النخبة، فانها هي التي تصلح لان تكون الشهيد على الناس"، ولتوثيق هذا القول يستند سماحة المؤلف على تفسير العياشي لهذه الآية، في رواية عن الامام الصادق، عليه السلام، "...فان ظننت ان الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر، يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ كلا، لم يعن الله مثل هذا من خلقه". بما يعني أن ثمة نخبة في الامة هي المخولة بالقيام بدور الوسطية بين الرسالة السماوية وبين سائر الأمم.
و سواءٌ كان الوسيط من نخبة الأمة، او تكون المسؤولية على الأمة برمتها، فان جوهر القضية (الوساطة) ثابت لا يتغير، بضرورة وجود من يحمل مشعل الرسالة المحمدية بكل قيمها ومبادئها الى الأمم الاخرى، ويكون كالمرآة الناصعة – كما يصفه سماحة السيد مرتضى الشيرازي-، ولعل أبرز مصداق عملي لهذه المهمة، ما بلغه المسلمون من نجاح وتفوق في نشر الاسلام الى مشارق الارض ومغاربها في القرون الخوالي عبر التجار والمسافرين الذين وفدوا الى اندونيسيا وماليزيا والصين.
مسيرة الاربعين والنخبة الوسط
لا غرو من وصف زائري يوم الاربعين بأنهم يمثلون نخبة الامة الحاملة للمبادئ والقيم التي حملها أول مرة، رسول الله، صلى الله عليه وآله، ومن أجلها ضحى بنفسه الامام الحسين، عليه السلام، وإلا فان واقع الامة في مختلف الجوانب لا يختلف عليه اثنان في سوءه وتدهوره؛ اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وحتى نفسياً، فضلاً عن التراجع الملحوظ في الجانب الديني، حيث الاعتماد على القشور والظواهر من الدين وحسب، حتى نكاد نصف الحالة الدينية لدى شعوب اسلامية بانها أقرب الى الطقوس المسيحية منها الى الالتزامات الحقيقية والصادقة بروح الاسلام وتعاليمه، كل هذا بسبب ابتعاد علماء الدين عن الطريق الصحيح الذي اختطه رسول الله للأمة ولهم ايضاً، والتنكّر لما أوصى به مراراً وتكراراً محذراً من مغبة "أن تضلوا من بعدي...".
ولعل سبب تفاعل أهل المذاهب الاسلامية، وايضاً أهل الديانات الاخرى من العالم مع هذه المسيرة المليونية، ما يجدونه امامهم من تجسيد ومصاديق عملية لكل تلك القيم والمبادئ التي أتخمت الكتب طيلة قرون من الزمن، على أن "الاسلام هو الحل"، وأن "الاسلام يعلو ولا يعلى عليه"، وأنه الأكمل والأرجح وغيرها من مفردات التفضيل.
مسيرة الزائرين يوم الاربعين مشياً على الاقدام لمسافات بعيدة، قدمت تطبيقات عملية للتعاون والتكافل واحترام الآخر، الى جانب قيم عليا مثل؛ الحرية والمساواة، وهذا يؤهلها لأن تحمل مهمة الوساطة (الوسط) بين الرسالة السماوية الخاتمة، وبين اصحاب كل الديانات والمذاهب في العالم، والدليل على هذا التأهيل النجاح الباهر الذي حققه الزائرون لاربعين الامام الحسين، عليه السلام، منذ أول قافلة تحركت صوب كربلاء المقدسة إبان الحكم العباسي في القرن الهجري الثاني (القرن الثامن للميلاد)، وما تخللتها من تضحيات جسام وتحديات كبيرة لمختلف الموانع من لدن حكام تعاقبوا على العراق، وقد أثبت المشاة، ونخصّ منهم بالذكر العراقيون، أن تضحياتهم ومعاناتهم لإحياء ذكرى الاربعين، هي امتداد لتضحيات الامام الحسين، عليه السلام، واصحابه في مواجهة الجيش الأموي، ومن بعده تضحيات وتحديات السيدة زينب والامام السجاد، عليهما السلام، ودورهما الاعلامي والتثقيفي في كشف الحقائق وانتزاع الشرعية من السلطة الاموية.
اضف تعليق