الروح التي تبعثها النهضة الحسينية في النفوس وفي الأرواح تمثل بعداً من أبعاد الكلمة العظيمة: (إن الحسين مصباح هدىً) فهو مصباح للرؤية (وسفينة نجاة). فينبغي في شهر محرم الحرام بالإضافة إلى أننا نستلهم منه الإيمان، علينا أن نقوي الإرادة فينا، لأن كل واحد منا يعاني...
هنالك حديث شريف مرويٌ عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) جاء فيه: (إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة)، ورد هذا الحديث الشريف في كتاب (مدينة المعاجز) في المجلد الرابع ص 51، ونقلت هذه الرواية عن مجموعة من المصادر بألفاظ تقارب هذا اللفظ كما في كتاب (العوالم) للمحدث البحراني (رحمة الله عليه) في أحوال الإمام الحسين (عليه السلام) حيث ورد لفظ: (يا مصباح الهدى وسفينة النجاة).
وورد في كتاب (عيون الأخبار) للشيخ الصدوق (رحمة الله تعالى عليه) في المجلد الثاني ص62: (إن الحسين بن علي (عليه السلام) في السماء أكبر منه في الأرض، وإنه لمكتوبٌ على يمين عرش الله عزوجل: مصباح هدىً وسفينة نجاة...)، وكذلك في بحار الأنوار (ج36 ص205 وج91 ص184). نتوقف قليلاً عند كلمتين من هذا الحديث الكلمة الأولى: (مصباح هدىً) والكلمة الثانية: (سفينة نجاة).
أمهد أولاً لجملة (مصباح الهدى) بمقدمة:
إن الأفعال الإرادية التي تصدر منا نحن البشر لا يمكن أن نعتبرها فلتة أو مصادفة ولا شهاباً ظهر فجأةً من المجهول، ولا يمكن أن نعتبرها كشجرةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فهذا المعنى قد يُفرض في الأفعال غير الإرادية، فحين يمشي أحدهم في الطريق وتزل قدمه فجأة ويسقط في هاوية، هذا العمل ربما يعتبر عملاً فجائياً أو مباغتاً، فيُقال إنه سقط فجأة من دون أية مقدمات، ولكن هذا المعنى لايمكن أن نفترضه في فعلٍ إرادي لأن الأخير يصدر من طبيعة الفاعل ويكشف عن هوية هذه الطبيعة.
لنضرب مثالاً لتقريب هذه الفكرة إلى الأذهان، في أحد الأيام استيقظ شاب على صوت أذان الفجر، فقد توجّه الخطاب الإلهي له: قم وأطع ربك واعبد ربك، ولكنه كان متثاقلاً، إذ لا يتمكن أن ينتزع نفسه من الفراش، فيقول لنفسه: سأنهض بعد عشر دقائق، ثم بعد عشرين دقيقة وهكذا يظل يصارع نفسه حتى يغلبه النوم وتفوته صلاة الصبح، هل يمكن لنا أن نعتبر عمل الشاب فجائيا؟ بطبيعة الحال كلا، فهذا العمل إنتاج يكشف عن طبيعة الفاعل.
إذا أردتم أن تحكموا على إنتاج معمل ما، كيف سيتم ذلك؟ قد لا يكون ــ في بدو الأمر ــ إنتاج المعمل معلوماً من حيث الجودة أو الرداءة، لكن النتاج الأول سيكشف لكم عادةً عن طبيعة هذا المعمل، فهنالك علاقةٌ وثيقة بين النتاج وبين طبيعة المنتج، حيث سيكشف السقوط العملي عن سقوط في نفسية المنتج، إذن ذلك الضعف العملي لدى الشاب المتثاقل يكشف عن خور وضعف في نفسيته، ولعل الله سبحانه وتعالى يشير إلى هذه الحقيقة بقوله: (قُلْ كُلّ يَعْمَلُ عَلَىَ شَاكِلَتِهِ)(1).
ولذلك إذا صدرت من الرجل العادل الذي يتحلى بملكة العدالة، في يوم أو لحظة ما معصيةٌ كبيرة، فهو من الناحية الفقهية مسقط للعدالة كما يقول الفقهاء، فإذا ارتكب غيبة ــ مثلاً ــ حتى لو كان عادلا لمدة عشرين عاماً، لكنه بمجرد ارتكابه لهذه الغيبة تسقط عدالته، لأن هذا الفعل يكشف عن حصول انقلاب في طبيعته وفي ماهية ملكة العدالة لديه، فعادة لا يمكن أن تصدر من العادل معصية من دون حدوث الانقلاب في طبيعته، وسيكشف لنا هذا الفعل عن وهمنا بأنه كان رجلاً عادلاً، ويمكن أن تُرمّم هذه الحالة ويُعالج الانقلاب الذي يحدث في طبيعة الإنسان وفق الضوابط التي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية.
إدانة العمل إدانة للنظام
بعد هذه المقدمة، نقول: إن قضية قتل سيد الشهداء الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) والصفوة المنتجبة (عليهم السلام) الذين كانوا معه، لم تكن خطأً ارتكبه نظام فقط، حيث يقول بعض الأفراد: نحن ندين هذا العمل ولا ندين النظام الذي وقف وراءه، وبعضهم يقول: أولئك قومٌ عصمنا الله من الإشتراك في دمائهم، فالعنوا العمل ولا تلعنوا العامل، أي لا تلعنوا ذلك النظام الذي أنتج مثل هذه الفاجعة.
لا يمكن لنا أن نقتصر في القضية على إدانة العمل فقط، بل هي في واقعها إدانة للنظام الذي قام بالعمل، إن هذا الأمر يشبه من يقول أننا ندين العمل الفلاني الذي قام به النظام الفلاني البائد دون النظام، لكن العمل هو إنتاج طبيعي لطبيعة ولواقع ذلك النظام، إذن يجب أن تنصبّ المسؤولية أولاً على ذلك النظام الذي أنتج هذه الجريمة وهذه الفاجعة. فالنظام الفاسد المستبد والغارق في شهواته، لا تهمّه إلا مصالحه وأهواؤه، ولايبالي بتهديم الكعبة المشرّفة (2) وهي بيت الله تعالى كما فعل ذلك نظام يزيد، ولكن إذا كان هناك تعارض بين الحكم وبين هدم الكعبة فلا مانع ليزيد من هدمها للحفاظ على نظامه، ثم ألم يستبح هذا النظام مدينة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ثلاثة أيام(3) حتى جرى الدم في مسجد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ناهيك عن الفجائع الأخرى التي ذكرها المؤرخون ممّا قام به الجيش الأموي في تلك الأيام الثلاثة بالمدينة المنورة، إن الإدانة يجب أن لا تقتصر على هذه الأعمال فقط وإنما تمتد لتشمل النظام أيضاً، لأن هذه الأعمال من نتاجه ولذلك فهي تكشف عن طبيعة النظام.
كيف وُجد هذا النظام؟
هنا نشير بصورة عابرة لنظام يزيد ونسأل كيف وُجد هذا النظام؟
إنه بطبيعة الحال وليدٌ طبيعيٌ لمن تقدّمه، فيزيد لم يقم بانقلاب أو بثورة، بل هو نتاج طبيعي لمن تقدمّه من الأنظمة وكان وليداً طبيعيّاً لها، إذن في واقع الحال إن قتل سيد الشهداء (صلوات الله عليه) لا يمثل إدانة لفرد هو (يزيد) فحسب، أو لنظامه فقط، إنما يمثل إدانة لتلك الحلقات المتتابعة التي أنجبت نظام يزيد الذي انتهى إلى قتل سيد الشهداء (عليه السلام)، فبقتل سيد الشهداء (عليه السلام) انكشفت تلك الحقيقة التي أرادوا إخفائها.
فإذا أراد المسلمون أن يعرفوا من هي الفرقة الناجية منهم، وهي قضية مهمة جداً، قال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في حديث شريف رواه الفريقان: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقي في النار)(4).
إن هذه القضية مهمة جداً، لأنها تتعلق بالمصير الأبدي للمؤمن؟ وقد كشفت قضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه) هذه الحقيقة، ولذلك كثير من المتحوّلين الذين عرفوا الحقيقة وأبصروا الهدى، انطلقوا من قضية سيد الشهداء (صلوات الله عليه) حيث استوقفتهم وانطلقوا منها وتابعوا الحلقات المتتالية حتى توصلوا إلى الحقيقة.
نحن نقرأ في زيارة عاشوراء: (لعن الله أمةً قتلتكم) ولمعرفة تلك الأمة ينبغي أن لانقصر النظر على خصوص المباشرين فحسب، لأنها نتيجة لما سبقها، فعلينا أن نلاحظ المقدمات وكيف انتهت إلى تلك النتيجة.
منشأ الانحراف
يُقال إن الخط عندما ينحرف في بدايته تكون قيمة انحرافه قليلة (سنتيمتر واحد) مثلاً، ولكن كلما طال هذا الخط يكبر انحرافه، وقد تصل قيمة الانحراف في نهاية المطاف إلى آلاف الكيلومترات، إذن عليكم أن لا تـنظروا إلى النتيجة فحسب، بل انظروا إلى النقطة التي بدأ منها الانحراف، (لعن الله أمةً قتلتكم) هذه هي نهاية المطاف ولكن ماذا كانت بدايته، ولعن الله (الممّهدين لهم بالتمكين من قتالكم)، فمن الذي أعطى السيف ليزيد؟ هذا ما يجب أن نفكر به أولاً، فلو رأيتم حائطاً مائلاً يجب أن لاتقصروا النظر على انحرافه، بل ابحثوا عن منشأ هذا الانحراف ومن أين بدأ؟ ستبحثون وتبحثون حتى تصلوا إلى اللبنة الأولى التي وضعها البنّاء بشكل منحرف، فحين وُضعت اللبنة الأولى منحرفة سيبقى الجدار الذي بُني عليها منحرفاً حتى لو وصل ارتفاعه إلى الثُريا. إذن، هذا هو الانحراف الكبير الذي انتهى إلى قتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم يكن للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فوق هذه الكرة سبطٌ وابن بنت غير الحسين بن علي (صلوات الله عليه).
فكيف حدث هذا الإنحراف؟ هل هو انحراف فجائي؟ كلا، ولم يكن مباغتاً، فتابعوا الحلقات حتى تصلوا إلى نقطة البداية، وعند ذلك تنكشف للمسلمين جميعاً معالم الحقيقة ومعالم الخط الذي دعا إليه النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) من غيره.
إذن كلمة (إن الحسين مصباح الهدى) هي البداية لمئات الملايين من المسلمين إذا أرادوا أن يتلّمسوها، فالبداية هي الحسين بن علي (صلوات الله عليه).
طريق النجاة
أما الكلمة الثانية في حديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (وسفينة النجاة) أو (وسفينة نجاة)، فهي تمثل مرحلة ثانية، كما يبدو أن (مصباح الهدى) يتعلق بالرؤية، فكيف نرى الأمور؟ إن ذلك يتعلق بالعقيدة، ولكن الرؤية لا تمثّل كل شيء، وإنما هنالك مرحلةٌ تالية، وهي كيف ينجو المهتدي بعد أن عرف الحق؟ يقول لقمان لابنه: (يا بني إن الدنيا بحرٌ عميق قد غرق فيه أُناس كثيرون) (5).
ولكن كيف للعالِم أن يعرف الطريق وينجو أمام مضلات الفتن؟، هل يُؤمن أن لا يتحوّل هذا العالِم إلى الشلمغاني الذي عرف طريق الهدى ولكن لم يستطع النجاة حيث وقع في منعطف ولم يتمكن أن ينجو منه؟.
لماذا يدعو المؤمنون ربهم ويخافون دائماً: (اللهم اجعل عواقب أمورنا خيرا)؟ لأن هذه الدنيا خطيرة جداً، فالإنسان ليس لديه أمان أو ضمان في المنعطف.. وإذا بهذا العالِم قد تحوّل إلى الشلمغاني(6)، أو تحوّل إلى شُريح القاضي (7) أو إلى بلعم بن باعورا (8)مع أن بداية هؤلاء لم تكن منحرفة، وإذا بهم يتجهون إلى طريق آخر.
إن هذه القضية تتعلق بجميع فئات المجتمع، فالطريق معروف للإنسان ولكن كيف ينجو؟ ومن الذي يضمن أن هذا التاجر لا يتحول إلى قارون؟ فقارون لا يمثل فرداً في التاريخ فقط وإنما هو خط كل من مشى عليه صار قاروناً أيضا.
كيف يعيش الشباب؟
وفي ظل أجواء هذه التحديّات الكبرى كيف يعيش الشباب؟
كان أحد إخواننا يدرس في إحدى البلاد الإسلامية فانسحب من الجامعة، وحين سألته لماذا انسحبت؟ قال: في الواقع خشيت على ديني، فلم أكن قادراً على أن أحفظ ديني في أجواء تلك الجامعة، ثم نقل بعض القضايا والحوادث، وقال كان أمامي خيار واحد، أما أن أفقد ديني أو أترك الجامعة، فتركها وتحوّل إلى خطٍ آخر، وفقه الله سبحانه وتعالى في خياره الجديد.
إذن كيف ينجو الشاب الذي يعيش ضمن هذه التحديّات الكبرى؟ ولا يتحوّل إلى ما يشبه ذلك الرجل الذي يخدعه الشيطان (كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيَءٌ مّنكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ)(9).
إنكم تعرفون ما هي بداية هذا الرجل، لقد كانت بدايته الشهوة، فربما يسقط الإنسان في لحظة واحدة ويتحوّل إلى جانٍ أو مجرم، وإن ما يفصله عن هذا السقوط هي لحظة واحدة، فهو يحتاج إلى طاقة معنوية هائلة تحفظه من الضغوط والمغريات.
إننا نجد في قضية سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مصدراً عظيماً من مصادر الطاقة، كما أن الشمس تعطي طاقة لهذا الكون، بلا تشبيه، فلا يمكن لنا أن نمثّل الشمس المادية المحدودة بتلك الطاقة الكبرى التي تعطيها قضية عاشوراء وسيد الشهداء (عليه السلام). كتب أحد المفكرّين في بلاد الغرب: لقد تتبعنا وضع الجاليات التي جاءت إلى بلاد الغرب ــ طبعاً الآن الأمة تعيش أجواء الغرب والحضارة الغربية ــ فوجدنا أن معظم الجاليات ذابت تحت وطأة الحضارة الغربية وأجوائها الحاكمة ــ إنها حضارة مقتدرة عملاقة من الناحية المادية وفيها جميع المغريات ــ ويقول المفكر: لكن هنالك طائفة واحدة لم تذب في خضم الحضارة الغربية، ربما ذاب أفراد منها ولكن كخط عام وكأمة، قاوموا الذوبان في أجواء الغرب، وهم شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، ثم تساءل هذا المفكر: ما هي العوامل التي تقف وراء ذلك؟ يجيب نفسه أن هنالك عاملين:
العامل الأول: الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فهو قوة هائلة لا تُقهر
نحن نعرف كثيراً من الشباب الذين كانوا يحملون الروح الحسينية عاشوا في محيطات الغرب لكنهم لم يذوبوا فيها، بل تحوّلوا إلى حَمَلَةٍ للواء أهل البيت (عليهم السلام) في تلك البلاد البعيدة، فربما لأول مرة في تاريخ الكون في بعض المناطق يُرفع علم الدين وعلم " لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" (صلى الله عليه وآله) ببركة هؤلاء الذين يحملون هذه الروح الحسينية.
العامل الثاني: المرجعية الدينية، وهذا العامل يحتاج إلى تفصيل لا مجال له.
طاقة تحمل الامتحان
أحد الأفراد الذين انكشف لهم الطريق وقد كان في خط آخر، فبعد بحوث وجهود انكشفت له معالم طريق أهل البيت (صلوات الله عليهم) واهتدى، كان قد خاض في بحوث ودراسات علماء الشيعة ومفكريهم فتبيّنت له معالم الحقيقة، ولكن نحن نعرف أن عملية التحول من خط إلى آخر تكون شاقة جداً، إن هذه الحالة تشبه كلمة الحرّ (رضوان الله عليه) التي قالها يوم عاشوراء: (إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار) نعم نحن أيضاً نجد أنفسنا في كثير من المواقف على مفترق طريقين، فنخيّر أنفسنا بين الجنة والنار، وهو خيار صعب جداً، أحياناً على الإنسان أن يفقد جميع مصالحه، فمن تتوفر له القدرة على اتخاذ قرار يضحي بجميع مصالحه؟ إن هذا يمكن أن يحدث بسهولة باللفظ لكنه في الواقع من أصعب المشكلات.
قد يعرف أحد التجار بعد فترة أن جميع أمواله محرّمة، فيجب عليه أن يتخلى عنها، فأي طاقة يحتاج الفرد لكي يقرر التخلي عن جميع أمواله؟ إذن مثل هذا القرار يحتاج إلى طاقة، فمن الذي يعطيه تلك الطاقة المطلوبة؟
إن الامتحان لم يكن للحرّ فقط بل هو لكل واحد منا، (وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ)(10).
إنها كلمة واحدة (فتنّا) ولكن ابحثوا في أعماق هذه الكلمة ستجدونها بحراً من المعاني، (فتنّا) تعني على سبيل المثال ثلاثين عاماً من السجن في ظل البعث، وفي المقابل كلمة واحدة (إعترفْ) مع إمضاء وينتهي كل شيء، فقد جاء شخص إلى أحد العلماء وقال له: إمضِ، إمضاءً صغيراً، هذا ما نريده منك لا أكثر.
لكن عدم القبول بهذا الإمضاء الصغير أدى إلى ثلاثين عاماً من السجون والمعتقلات والتعذيب الذي لا يمكن أن يتصوّره الإنسان، هذا هو معنى (فتنّا)، وتعني كذلك زوجة فرعون حيث تُسمّر بمسامير في الأرض وتنزف دماً حتى تموت، إذن كلمة (فتنّا) هي في الحقيقة بحر، وهي تعني المرض الشاق الذي يقعد الإنسان عشرة أعوام على فراش المرض، إذن فهي كلمة ليست هينة (أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ)(11).
إذن قرار ذلك الرجل الذي تحوَّل عن خطه إلى خط أهل البيت (عليهم السلام) كان شاقاً، فكيف يتخلّى عن كل تاريخه وينفصل عن كل ماضيه، يقول الرجل: جئت وأنا في غاية التردد وأسأل نفسي ماذا أعمل؟ ثم دخلت حرم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وجلستُ في إحدى الزاويا، فجأةً التفتُ إلى ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) وإذا بي أشعر بطاقة هائلة تدبُّ في أوصالي وقررت في تلك اللحظة أن اُعلن انتمائي لأهل البيت (عليهم السلام) وأعلن انتماءه فعلاً.
كربلاء وصناعة روح التضحية
إن الإنسان عندما يعيش أجواء تلك التضحيات، قد لا يتأثر في اليوم الأول، لكن التأثير يزداد شيئاً فشيئاً حتى يتحول الإنسان نفسه إلى مشروع تضحية، ولا تعني التضحية أن الإنسان يذهب ويُقتل في ميدان المعركة، إن هذا شكل من أشكال التضحية، وربما لا تتطلب كل الظروف مثل هذا الشكل، فالعلامة الأميني ــ مثلاــ في (غديره) هو مشروع تضحية، ومؤلّف العبقات في (عبقاته) مشروع تضحية أيضاً، كذلك الشيخ محمد جواد البلاغي الذي باع بيته وسكن في بيت إيجار ليطبع كتابه المعروف، هذا أيضا مشروع تضحية، وتلك المرأة التي باعت ذهبها ــ ومعروف للجميع كم تعتز المرأة بذهبها؟ــ لكنها باعته لطبع كتاب حول أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكل ذلك مشاريع تضحية، فمن يعيش في أجواء هذه التضحيات سيتحول نفسه إلى مشروع تضحية ويرتفع وتسمو روحه.
هناك كلمة يعبر عنها بعض العلماء، وهي كلمة جميلة يقولون فيها: إن بعثة الأنبياء (عليهم السلام) كانت لهدفين: الهدف الأول: إيصال جوهر العقل إلى مرحلة الكمال النظري. والهدف الثاني: إيصال جوهر الإرادة إلى مرحلة الكمال العملي.
يقول الله تعالى: (وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ)(12)، إن قضايا كربلاء وقضايا عاشوراء تخلق روحية التضحية والإيمان. وإن من حفظ إيمان المؤمنين في العراق خلال أكثر من ثلاثين عاماً من البطش والإرهاب والقتل والتعتيم هي روح عاشوراء وروح سيد الشهداء (عليه السلام)، فلا أظن أن الحكم البعثي ترك شيئاً يمكنه القيام به ولم يعمله في سبيل القضاء على الدين والإيمان وخط أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن الروح الحسينية وروح سيد الشهداء (عليه السلام) هي التي حفظت المؤمنين.
نقل لنا الوالد (رحمه الله) في قضية مطوّلة سأختصرها في كلمات، قال: كان هناك شاب مُغَنٍّ عاش عمره في الغناء واللهو والطرب وكان يقول المغني بأنه لم يدع أمراً محرّماً إلاّ ارتكبته، وفي إحدى ليالي محرم الحرام، مرّ على مجلس لسيد الشهداء (صلوات الله عليه) وكان الخطيب يتكلّم حول العباس بن علي (صلوات الله عليه) وتضحياته الكبرى في سبيل الدين، يقول: فأخذني كلام الخطيب ومواعظه بقوة، ــ كم من الشباب تحوّلوا في هذه المجالس إلى الإيمان، وكم هم الذين تابوا، أولئك الشباب الذين كانوا موغلين في المنكرات والموبقات ثم تحوّلوا إلى التوبة ــ يقول الشاب: حتى وصل الخطيب إلى المقطع الذي يشير إلى قطع الكف اليمنى للعباس بن علي (عليه السلام) وهو يقول: والله إن قطعتُمُ يميني......إني أحامي أبداً عن ديني
فبكيت بكاءً مرّاً في ذلك المجلس وصمّمت على أن أقلع عن ماضيّ كله، وعدتُ إلى البيت، وأخذت آلات اللهو والغناء والطرب وتخلصت منها جميعاً وتركتُ عملي السابق وتحوّلت إلى سائق تكسي أنقل الركاب من مكان إلى مكان، والحمد لله الذي فتح لي أبواب الرزق لأعيش حياة هانئة بكرامةٍ ونعيم.
ولعلّ الروح التي تبعثها النهضة الحسينية في النفوس وفي الأرواح تمثل بعداً من أبعاد الكلمة العظيمة: (إن الحسين مصباح هدىً) فهو مصباح للرؤية (وسفينة نجاة).
فينبغي في شهر محرم الحرام بالإضافة إلى أننا نستلهم منه الإيمان، علينا أن نقوي الإرادة فينا، لأن كل واحد منا يعاني من نواقص إلاّ من عصمه الله تعالى، فقد تكون هنالك عُقد في روحياتنا، وهذه العقد تظهر في المنعطفات، لأن الإرادة لم تصل إلى مرحلة الكمال العملي، فنحاول أن نستلهم الإرادة من الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه الأوفياء (عليهم السلام) الذين بذلوا جميع ما يملكون من أجل الدين.
النهضة الحسينية مشروع للتحول
لأحد المفكرين الغربيين كلمة لا بأس أن أذكرها، يقول فيها: إن ذكرى كربلاء التي اُستشهد فيها سبط محمد (صلى الله عليه وآله) كافيةٌ لكي تُحدث في قلب أكثر الناس تهاوناً في الأمور، حماسةً وحزناً وهيجاناً شديداً، وأن تتعالى بالروح إلى مدارج الكمال، بحيث تستهين بالألم والموت.
إلى هذا المستوى يصل الذين يعيشون في ظل تربية سيد الشهداء (عليه السلام) ويكونون في تماس مع هذه القضية، إنهم يتعالون فوق الألم، ويصلون إلى مستوى التضحيات الكبرى، وحتى إذا تطلّب الظرف أن يتحول الإنسان إلى مشروع تضحية فلا مانع عنده. فيجب علينا أولاً أن نصوغ أنفسنا من هذه الذكرى العظيمة، فالتحوّل، أو القدرة على التحويل لم تكن خاصة بزهير ابن القين العثماني الذي تحوّل علوياً وحسينياً، ولا تقتصر على وهب الذي كان مسيحياً وإذا به يتحوّل إلى من يشمله قوله (عليه السلام): (لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي) (13)، ولا تقتصر على الحرّ الذي كان من قادة الجيش الأموي وإذا به يتحول إلى تائب تذهبون إلى قبره وتقولون له: (بأبي أنت وأمي)، فهذه القدرة موجودة في نهضة سيد الشهداء (عليه السلام) وفي عاشوراء، حيث يمكن أن تحوّل كل واحد منا، هذا ما يجب علينا استلهامه أوّلاً.
راية الحسين (عليه السلام)
أما الشيء الثاني: فيجب أن نحاول رفع عَلَم سيد الشهداء (عليه السلام) في كل مكان.
نقل لي أحد العلماء قائلاً: ذهبت إلى مكتبة الفاتيكان في الأعوام الأخيرة وكنت ألاحظ كتبها ففوجئت بوجود كتب كثيرة فيها حول الإمام الحسين صلوات الله عليه، أكثر من ألف كتاب، فاندهشت وسألت مدير المكتبة لماذا وجود هذه الكتب في مكتبتكم؟ قال في الواقع أن علماء المسيحية فكروا في سرعة انتشار خط أهل البيت (عليهم السلام) في العالم، والذي يعدّ معجزة من معجزات الله تعالى في هذا الوجود مع كل ما تعرّض له شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من بطش عبر التاريخ، وصدّام أحدهم وشاهد عليهم؟ فتوصل علماء المسيحية إلى أن من يقف وراء ذلك الانتشار هو الإمام الحسين بن علي (صلوات الله عليه)، فطلبوا من وكلائهم في البلاد أن يأتوا لهم بكل الكتب التي تدور حول الحسين بن علي (عليه السلام) لكي يستفيدوا من قضية عاشوراء في نشر ظلامة السيد المسيح (عليه السلام) كما يقولون في العالم.
ولذلك يجب علينا أن نرفع علم سيد الشهداء (عليه السلام) في كل مكان بكل ما لنا من قدرة.
كان السيد الرجائي (حفظه الله) يذكر لنا: أن هناك رجلا ذا دخل بسيط كان يقيم مأتماً ضخماً لسيد الشهداء (عليه السلام) ويطعم الناس في ذلك المأتم، فتبيّن فيما بعد أنه كان يقوم ببعض العبادات الاستئجارية، وهي عملية شاقة جداً حيث يأخذ لقاءها مالاً، ثم يصرفه في قضية سيد الشهداء (عليه السلام)، وأنا أعرف مجموعة من المؤمنين يقترضون مالاً للمساهمة في هذه القضية، لذلك على كل واحد منا أن يحاول المساهمة في قضية الإمام الحسين (عليه السلام)، فإن (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا من هذا الفيض العظيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق