q

 

شبكة النبأ: إنها لفرصة تاريخية حقاً؛ فالمسير نحو كربلاء الحسين، مشحون حتى هذه الساعات بجموع السائرين على الاقدام من مختلف بلاد العالم، وكانت الحظوة هذه المرة للزائرين من ايران، حيث بات العدد بالملايين، وليس بالآلاف كما هو الحال مع الزائرين من الخليج ولبنان والهند وباكستان وغيرها، وربما يمكن القول؛ أن الاجتماع البشري لزيارة الامام الحسين، عليه السلام، في اربعينة، فاق في العدد والحماس والاندفاع الذاتي الباهر، ما نشاهده كل عام في موسم الحج. فاذا يُقال عن فرصة الالتقاء بين المسلمين مع بعضهم، وتذكيرهم بالأخوة الاسلامية، فان في كربلاء تذكيرٌ، ليس فقط بالأخوة، إنما بكل المفاهيم الانسانية والقيم الاخلاقية، والفارق أن في الحج، هنالك فريضة يؤديها الانسان، ومن خلالها يكسب بعض المزايا والخصال، بينما في كربلاء الحسين، لا فريضة ولا واجب يدفع الانسان، إنما الاندفاع الذاتي والحماس المنبعث من أعماق الضمير والوجدان، يدفع به لأن يترك بيته ووطنه ويقطع مسافات بعيدة، راكباً ثم ماشياً، ثم يدخل مدينة صغيرة بالكاد تكفي لمليون انسان، بينما نسمع اليوم بوجود حوالي اربعة الى خمسة ملايين زائر يتواجد في اليوم الواحد في هذه المدينة.

هذه الاجواء الاستثنائية للتعارف والتلاقي بين ابناء  الشعوب المختلفة، توفر فرصة نادرة للتغيير الذاتي، بل وفي نجاح هذا التغيير، بعد ان نجح الانسان في كسر كل الحواجز النفسية والمادية واندمج وسط الجموع المليونية.

أهم وأبرز صفة يمكن ان يكتسبها الزائر في زيارة الاربعين، هي صفة "العطاء". هذا المفهوم العام، الذي تتفرع منه خصال اخلاقية وانسانية عظيمة، مثل الكرم والجود والإيثار ثم التكافل الاجتماعي، وهي خصال تقف على النقيض من حالات نفسية ربما تراود الكثير من الناس، مثل الإمساك والأنانية والحب المفرط للذات.

والحديث عن العطاء، وفي مناسبة هكذه، ربما بحاجة الى دراسة موسعة تشمل البعد النفسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي العام. بيد أن المهم الأبرز في هذه الزيارة المليونية، مسألة سكن الزائرين وإطعامهم، فقد شهدت كربلاء المقدسة، ما لم تشهده ربما في تاريخها الحديث ولا القديم، فقد انتشر الزائرون على الحسينيات ومراكز الإيواء والمبيت الكبيرة، ثم توسعوا نحو البيوت ليجدوا الابواب المفتوحة امامهم. اضافة الى مسألة الطعام والشراب، الذي نلاحظه مبذولاً كل عام، وفي هذه السنة اكثر بكثير.

كل هذا وغيره كثير، يجعل الارضية النفسية للانسان على درجة من الخصوبة والاستعداد للتغيير نحو الاحسن والأسمى، وهذا بحاجة الى عوامل مساعدة تنظم عملية التغيير وترفدها نحو اهداف حضارية كبيرة، طالما حلم بها المفكرون والمصلحون مثل الأخوة والتكافل والتعايش.

 وهذا ما يمكن ان نجده في اهتمام سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في سياق اهتماماته الكبيرة والواسعة بالثقافة الحسينية، وإحياء المناسبة في شهري محرم وصفر، ففي كتابه "الاستفادة من عاشوراء" نلاحظ تركيزه على الجانب الانساني، بموازاة الجانب العاطفي والمعنوي. فيحثّ على الاهتمام بالشباب والنساء والعجزة والاطفال.

هذه الفئات العمرية، لا تحتويها الاعمال العفوية هنا وهناك، ولا يمكن ان تستفيد بشيء من مبادرات فردية مهما كانت دوافعها، إنما المطلوب عمل منظم ومعد له سلفاً في الإطار المؤسساتي. وهذا ما يؤكد عليه سماحته دائماً في جميع المشاريع والاعمال التي يدعو اليها على الصعد كافة، فالجموع الزاحفة لزيارة الاربعين، ربما تكون بحاجة الى المواكب الخدمية لتوفير السكن والطعام والشراب والخدمةالطبية وغيرها، بيد أنها بحاجة ايضاً الى العمل المؤسسي المنظم الذي يجعل هذه الجموع في صف نحو هدف واحد وهو إحياء قيم النهضة الحسينية. لذا فانه – قدس سره- نلاحظه يدعو بالاسم "المجالس الحسينية والمواكب العزائية الاهتمام بالشباب والنساء والعجزة والأطفال".

ويتحدث سماحته عن كل فئة عمرية والدافع للاهتمام بهم؛ فالشباب "هم عماد المستقبل، والغفلة عنهم توجب انحرافهم عن المنهج السليم والأفكار الصحيحة، وانزلاقهم مع التيارات السقيمة، ووقوعهم في شبكات الإلحاد والفساد والإفساد، فتتحول الطاقات الشبابية الخيرة إلى معاول للهدم. أما النساء؛ فلكونهنّ عاطفيات، فإنهنّ معرّضات للاستغلال من قبل المفسدين في الأمور المحرّمة والمنافية للعفّة الاجتماعية، فتكون أنوثتهنّ سلعة لاستدرار المال للمنحرفين، ومن الضروري تزويج النساء لئلا يتركن عوانس... ومن الضروري توجيههنّ ـ وتوجيه آبائهنّ وأزواجهنّ أيضاً ـ لكي يكون التعامل بين الزوجين إنسانياً وفقاً للضوابط الإســـلامية التي تكفل حقوقهنّ المشروعة وتوفّر للطرفين الحياة السعيدة. أمّا العجزة؛ فإنهم أولى بالرحم، ثم أليس الشاب مرشحاً لأن يكون من العجزة في المستقبل فإذا لم يحترم العجزة، فمعناه: أنه لم يحترم نفسه. أمّا الأطفال: فإن الشعوب التي تبحث عن سعادتها، لا بدّ لها أن تهتمّ بجيلها المستقبلي، بأن يكون صحيح الجسم، خالياً من العقد النفسية. فالأطفال عون للآباء والأمّهات، فما يأخذونه من قبل آبائهم ومجتمعهم يُسترجع عبرهم بعد سنوات".

إن وجود الحركة النشطة والاحتكاك المتزايد في هكذا مناسبة كفيل بأن يوفر فرصة النجاح للعمل المؤسسي والمنظم والمدروس الذي يكرّس الثقافة الأصيلة التي توافق فطرة الانسان وتتطابق مع حاجاته المادية والمعنوية. بحيث عندما ينتهي يوم الزيارة ويعود الجميع الى بيوتهم يشعرون انهم اكتسبوا الكثير من الثقافة والمعرفة والسلوك الحسن، وهم بواسطة هذه الاجواء تمكنوا من إعادة النظر في عديد القضايا العالقة في نفوسهم وفكرهم.

نعم؛ هذه هي إثار النهضة الحسينية في الواقع الانساني، وقد ثبت بالدليل الملموس في ارض الواقع أنها تدخلت حتى جميع نواحي حياة الانسان، من إخلاق وفكر وسلوك ومنهج عام في الحياة، لأن ببساطة؛ الحرية والكرامة والإيثار والوفاء وغيرها... من الامور التي يعيشها الانسان يومياً في حياته.

اضف تعليق