عديدة هي الأسباب التي تجعل الانبهار بالمشهد الأربعيني، في أكثر من تفصيل، لا ينحصر بالشيعة، بل حالة الاندهاش اليوم موجودة عند مختلف الناس من شعوب شتى، ومن انتماءات شتى، كما أن استثنائية الحدث الأربعيني لا تنحصر في إطار الزمن الحاضر، بل كانت حاضرة منذ التاريخ القديم، فكما تحدثت صحف إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) عن النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) وظهور المخلص (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من بعده، كانت استثنائية الإمام الحسين (صلوات الله عليه) حاضرة في الكتب الأولى.
الباحثة في اللاهوت (إيزابيل بنيامين ماما آشوري)، إثر متابعتها مجريات زيارة الأربعين وانعكاساتها العالمية، على مدى عدة سنوات، أشارت الى أن "النصوص الموجودة في الكتاب المقدس والتي تمتدح زحفاً بشرياً سنوياً، باتجاه قبر شخص واحد فقط، تخبرنا بأن هذه الأرتال البشرية، لا تأتي من ذاتها، بل إن الرب هو الذي جمعها، وأتى بها من أطراف الأرض، من الشمال والجنوب والشرق والغرب".
إشارة الى ما جاء في (سفر إرميا 31: 8) من أن الرعاية الإلهية هي التي تأتي بالسائرين إلى قبر الحسين (عليه السلام): "ها أنا ذا آتي بهم من أرض الشمال، وأجمعهم من أطراف الأرض، بينهم الأعمى والأعرج، الحبلى والماخض معاً، جمع عظيم يرجع إلى هنا بالبكاء يأتون، وبالتضرعات أقودهم، أسيرهم إلى أنهار ماء في طريق مستقيمة لا يعثرون فيها".
وترى الباحثة آشوري استثنائية قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، من جهة بقائه معلماً شامخاً وضريحاً زاهراً، فكتبت أنه "لم نر في أي زمن أرتالاً من البشر تتقاطر على قبر من قبور الأنبياء، الموجودة في العراق والشام وفلسطين وإيران، ولا في أي يوم من أيام السنة".
وكما أن الزيارة الأربعينية كانت (قبل أن تقع) حاضرة في روايات عن عدد من الأنبياء، فإن سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وعد، وهو الصادق الأمين، بخلود الحضور الحسيني (ومنه زيارة الأربعين) أبد الدهر، فعنه (صلى الله عليه وآله) روت مولاتنا زينب (عليها السلام) للإمام زين العابدين (عليه السلام): «وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء، لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً، وأمره إلا علواً».
وفي كل عام، تبين الوقائع إن لزيارة الأربعين قوة معنوية هائلة في تحشيد الناس، وتحثهم على الارتقاء تقى وخلقاً، وفعل الخير وصنع المعروف. لذلك، ولكي يكون الحدث الأربعيني عاملاً إصلاحياً فاعلاً بشكل أوسع وأكبر في المستقبل، لابد من عمل بتنظيم، ومثابرة بنزاهة، لاسيما أن رسم المستقبل علم له قوانينه ورجاله.
فإن علم المستقبل يُعد اليوم من العلوم المهمة، لما يوفره من رؤية شاملة تضع في حسابها معطيات التاريخ وتجارب ناجحة وحقائق علمية، كما تبين آليات تغيير الحاضر للوصول إلى مستقبل واعد، يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن: "يشهد العالم حركة قوية وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة تفرض تغيراً شديداً، فيجب أن نكيِّف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل، خصوصاً إذا كان مضمون المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا، وإن مواكبة المستقبل تتم عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم، والقرارات الصائبة التي يتّخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف اختصاصات الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً من حيث تكوينه".
فإن العمل بلا تخطيط عبث يهدر الوقت والمال والطاقات، لأنه سيكون عملاً لا يُقصد منه إلا ذاته، وإذا لم يكن العمل ضمن خطّة مستقبلية، فإنه يتحول إلى فوضى، وسيكون تحت طائلة أحداث غير متوقعة، كما يجعله رهينة ما يكيده الأعداء.
ورغم أهمية استشراف المستقبل كمقوّم رئيسي لإحداث تغيير أو صناعة نهضة، وأنه لا يمكن لأي مصلح أن يساهم في تحقيق هدف، إلا إذا كان يملك رؤية مستقبلية، رغم ذلك لا يُلاحظ وجود إستراتيجية مستقبلية فيما يتعلق بالزيارة الأربعينية، بل لم يتضح وجود عمل يهدف بناء الحاضر برؤية مستقبلية، فإضافة إلى محدودية العمل التبليغي الذي يرتقي بالزائر ورعاً وفقهاً وخلقاً، يكفي التذكير هنا بأزمات الخدمات الحياتية في مدينة كربلاء والمحافظات المجاورة لها بل في عموم العراق، إضافة الى معوقات العمل السياحي والاستثماري والمصرفي، ومشاكل الصحة والبيئة، كما الواقع الأمني الذي يحتاج إلى إصلاح وتنمية وتطوير، والحديث عن احتياجات مدينة زيارة الأربعين وعراق أهل البيت، حديث مرير ويطول.
اضف تعليق