بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(1) صدق الله العلي العظيم.
قبل أن ندخل في صلب الموضوع لا بأس أن نلقي بعض الأضواء على هذه الآية المباركة..
انتصار الفئة القليلة
هنالك فئة قليلة من ناحية الكمّ، فهي عبارة عن جماعة معدودة الأفراد، وضعيفة من ناحية القدرة متشتتة ومتفرقة وتعيش دائماً حالة الخوف والرعب والقلق، وفي الوقت نفسه تعيش هذه الفئة في خضم فئة قوية قاهرة ومقتدرة، لأنها فئة بيدها السيف والسوط والسجون، كذلك بيدها المال والقوة، فهل يمكن للفئة القليلة أن تحافظ على كيانها في واقع كهذا؟
إن الفئة القليلة هي مجموعة من الشباب كما جاء في القرآن الكريم، حيث يقول المفسرون: إن المعني من مفردة (ذرية) هي مجموعة من الشباب، ليس كباراً ولا وجهاء ولا كهولاً، بل هم مجموعة شباب، فهل يمكن لهذه الفئة الضعيفة أن تحافظ على كيانها وهل هذا معقول؟
وكيف تنتصر هذه الفئة القليلة على تلك الفئة القوية وتتغلب عليها؟، إن هذه الفئة لا تستطيع أن تحافظ على ذاتها وكيانها فكيف يمكن أن تنتصر وتتغلب وتهزم تلك الفئة القوية المقتدرة، هنا يأتي الوحي (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ) ويتضمن هذا الوحي ثلاثة بنود:
البند الأول:
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ) ــ المقصود به هارون ــ (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً) بمعنى اتخذوا بيوتاً، لأن الأسباط كانوا يعيشون في بيوت الأقباط، فلم ألحظ في التفاسير لماذا كان الأسباط يعيشون في بيوت الأقباط، ربما كانوا خدماً لأنهم فئة مستضعفة أو جماعة ضعيفة، وكانوا لا يملكون شيئاً فيعيشون مستأجَرين مثلاً أو لأي علة من العلل الأخرى، كذلك كانت الأمة الإسرائيلية تعيش في بيوت الفراعنة، يقول الله تعالى لموسى وهارون 3: (أَنْ تَبَوَّآ) بمعنى اتخذا لقومكما بمصر بيوتا.
إذن كيف تحافظ هذه الأمة على ذاتها وكيانها وهي تعيش في الأجواء المنحرفة، وكيف يحافظ الإنسان الذي يعيش في جو منحرف على نفسه، وهنا نتساءل كيف يحافظ الشباب الذين يذهبون إلى البلدان الغربية على أنفسهم وهم يعيشون في بيوت الأجانب ويعيشون في جو ملوث غير إسلامي؟
نعم؛ يمكن أن يتعلم الشاب اللغة ولكنه قد يفقد دينه، إلاّ إذا كان إيمانه قويّاً جدّاً، حيث ينبغي أن يعيش الشاب في أجواء نظيفة، وإلاّ سيفقد دينه وإيمانه وكيانه، فالآية الكريمة تقول: (أَنْ تَبَوَّآ) بمعنى إتخذا لقومكما بمصر بيوتا، أي بيوت مستقلة، وذلك لينفصلوا عن الأقباط وينفصلوا عن الفراعنة.
البند الثاني:
(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)، بمعنى أن لاتكون هذه البيوت متشتتة، بحيث يكون واحد في أقصى الشرق والآخر في أقصى الغرب، إنما أن يقابل بعضها البعض الآخر، أو يكون بعضها في مواجهة البعض الآخر وقريبة من بعضها كي تشكل تجمعاً؛ لأنَّ التَّجمع فيه خير وبركة وفيه فوائد، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً).
البند الثالث:
إقامة الارتباط بالقوة التي هي مصدر كل القوى الأخرى، والتي لا توجد فوقها قوة، وهي قوة الله سبحانه وتعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ) صلاة الارتباط بالله سبحانه وتعالى. هذه هي البنود الثلاثة؛ (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ) وما هي العاقبة، أو النتيجة؟ تقول الآية الكريمة: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم سوف ينتصرون ويغلبون.
فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل للأسباط هذا النوع من التجمع والاجتماع: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) فقد جعل لنا سبحانه نحن المؤمنين عدة أنواع من التجمع، ربما نكون غافلين عن بركات هذا التجمع أو هذه الأنواع من التجمعات ولكن يوجد فيها كل الخير والبركة ومنها:
صلاة الجماعة
النوع الأول: صلاة الجماعة، لعله لاتوجد أمة ثانية عندها هذا النوع من أنواع التجمع، يقول صاحب العروة (رحمة الله عليه) في الحديث الذي يرويه: إن جبرئيل (عليه السلام) نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: (إن ربك يقرئك السلام وأهدى إليك هديتين)(2) ربما يكون معنى هذه الكلمة أن ما جاء في هذه الآية الكريمة من مختصات هذه الأمة، وأن صلاة الجماعة هي إحدى هاتين الهديتين من لدن الله تعالى.
الحج
النوع الثاني: الحج.. وأظن أن أية أمة من الأمم ليس لها هذا النوع من التجمع، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (3).
زيارة العتبات المقدسة
النوع الثالث: زيارة العتبات المقدسة.. الموجودة في مشهد وفي كربلاء وفي النجف وفي الكاظمية وفي المدينة، وهذه الأماكن المقدسة من المنح التي أعطاها الله تعالى لهذه الأمة.
المجالس الحسينية
النوع الرابع: المجالس الحسينية، إن مجالس أبي عبد الله (صلوات الله عليه) فيها كل الخير والبركة لهذه الأمة، يمكن ملاحظة الأفراد الذين أقاموا المجالس في بيوتهم أو في حسينياتهم أو في ديوانياتهم، فأنا شخصيّاً لم أرَ فرداً واحداً منهم ندم على ذلك، ربما يبدأ الفرد وهو متردد في ذلك، ويقول: قد أتمكن أو لا، أو لا أتحمل هذا العناء، ولكن بعد ذلك بدأ يلمس بيديه خيرات هذه المجالس وبركاتها.
ولذلك ترى أحدهم مستمرّاً لمدة عشرين عاماً وآخر أربعين عاماً وآخر ستين عاماً في إقامة المجالس الحسينية، ولم أر شخصاً بدأ في ذلك وترك إقامة هذه المجالس لضرر وما أشبه، بل يزداد إيماناً وقناعة بها، لأنه يرى الآثار الدنيوية والآثار الإلهية، ويرى الخير والبركة في حياته وفي عائلته وذريته وأولاده وأمواله. إن هذه نعمة يجب أن نشكر الله سبحانه وتعالى عليها، فقد ذكر بعض الكتّاب والمؤلفين كلاماً جميلاً يقول: إن من آثار نهضة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) ــ ولها آثار وبركات كثيرة ــ هو سقوط الدولة الأموية، وسقوط الظالمين على مر التاريخ.. إلى آخر هذه البركات.
إن المجالس الحسينية تُعدّ من جملة آثار نهضة الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، فإن لم تكن هذه النهضة المباركة، ما كانت هذه المجالس، فهي من آثار النهضة المقدسة المباركة، وهنا نشير إلى بعض بركات المجالس وهي كثيرة ومتعددة:
الدعوة إلى الإيمان
الأثر الأول: الدعوة إلى الله تعالى وإلى التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد.
إننا لا نحتاج إلى كلمة الكاتب ــ الذي سيرد ذكره ــ لأننا نرى الأثر بأبصارنا، ولكن لنرَ كيف ينظر من هو خارج هذه المنظومة؟.
نحن الآن وسط هذه المنظومة ونعني بها إقامة المجالس الحسينية وقد لا يلمس بعضنا آثار هذه المجالس، ولكن الإنسان الذي هو خارج المنظومة سيرى الآثار من بعيد. فهنالك كاتب لا يؤمن بالإسلام ولايؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو كاتب غربي لاحظوا ماذا يقول؟ أقتطف هنا كلمات مما قاله هذا الكاتب: (ويقيم الشيعة المآتم ويبكون فيها على الحسين، فأثرت هذه المآتم إلى حد أنه لم يمر عليها زمن طويل حتى بلغت الأوج في الشرق ــ ويعني هذه الطائفة ــ ودخل في هذه الطائفة بعض الوزراء وكثير من الملوك والخلفاء، فبعضهم أخفى ذلك تقية، وبعضهم أظهره جهاراً) (4).
ليس الناس العاديون فقط هم الذين دخلوا في هذه الطائفة، إنما الملوك والرؤساء وكبار الشخصيات أيضاً، لأن هذه المجالس تبين حقانية أهل البيت (عليهم السلام) وحقانية الإسلام وحقانية التشيع، فالناس غالباً ما يكون لديهم تعصب وغالباً ما يبحثون عن الحق، وهذه المجالس تبين الحق وتبين كلمة الله تعالى، ولذلك كلما توسعت هذه المجالس توسعت حركة الدعوة إلى الله تعالى.
ويمكن القول بأن هذا نوعاً من التنبؤ ولكنه تنبؤ تدل عليه الحقائق التاريخية، فيمكن القول إنه لا يمضي قرن أو قرنان حتى يتزايد عدد الشيعة على عدد سائر فرق المسلمين، إنه حق (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(5).
وهذه هي طبيعة الحق، فإذا عُرض الحق على الناس سيأخذون به.
نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) كشفت الزيف
ومن بركات نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أنها كشفت كل التاريخ الماضي، حتى لو كان فيه غموض أو إبهام، فإن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) كشفت كل ذلك الزيغ، لأنه مَن الذي قتل الإمامَ الحسين(عليه السلام)؟ إنه يزيد، ولكن من أنجب يزيد؟ إنه معاوية، لذلك فيزيد هو سيئة من سيئات معاوية، ولكن من أنجب معاوية؟ ومن الذي جاء به ونصبه؟ ارجع إلى التاريخ، فقضية الإمام الحسين (عليه السلام) كشفت كل التاريخ، وإذا عُرضت هذه القضية على الناس، بطبيعة الحال سيقبلون الحق ولذلك ترون أن كلمة أهل البيت (عليهم السلام) التي هي كلمة الله تعالى في عُلُوّ كُلّ يوم، فلا يزداد أمره إلاّ علواً، ولا بأس أن نقرأ كلمة أخرى لهذا الكاتب: حيث يقول:
لقد رأيت في ميناء (كذا...) في أحد البلدان الأجنبية شخصاً عربيّاً شيعيّاً في الفندق، وهو من أهل البحرين ــ ينبغي أن تكون فينا هذه الروحية دائماً وليس فقط في أيام العشرة ــ رأيته يقيم المأتم منفرداً في ذلك البلد وكان جالساً على الكرسي وبيده كتاب المقتل، يقرأ ويبكي، وكان قد أعد مائدة من الطعام ووزّعها على الفقراء.
إذن حتى لو كان الموالي شخصاً واحداً فهو يُعدّ داعية إلى الله سبحانه وتعالى وإلى التوحيد وداعية إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وإلى أهل البيت (صلوات الله عليهم).
الموعظة
الأثر الثاني: الموعظة، وكلنا نحتاج إليها، يقول أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه): (أحي قلبك بالموعظة) (6) بمعنى أن هذا القلب يموت من دون الموعظة، وجاء في الآية الكريمة (كَلاَ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (7) والرين هو: طبقة من الصدأ تغلف القلب، فما الذي يزيل هذا الرين؟ إنها المجالس الحسينية التي تعتبر من أهم العوامل في إزالة الرين والصدأ عن القلوب.
إن هذه الكلمات التي يقولها الخطباء الحسينيون فوق المنابر مؤثرة جدّاً، فحين يشعر الإنسان بأن قلبه قد (مات)، ويذهب إلى أحد المجالس، سيحصل على موعظة أو نصيحة فيشعر أن قلبه قد احتيا، وهذا ما تعنيه (أحيي قلبك بالموعظة).
لذا في الحقيقةً، فإن هؤلاء الخطباء لهم حق علينا جميعاً، وهذه المجالس أيضاً لها حق على جميع الشيعة وعلى جميع المؤمنين بل على جميع المسلمين، فالموعظة كلمة مؤثرة، فبأي شيء تغيّر بشر الحافي؟ إنه تغير بكلمة من الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) حين قال لتلك الجارية: مولاك هذا حر أم عبد؟ ثم قال: لو كان عبداً لأطاع مولاه(8)، إنها كلمة غيرّت حياته، فأصبح قبرُه اليوم مزاراً.
ومَن الذي غيَّر إبراهيم بن الأدهم(9) ؟ إنها كلمة لذلك الدرويش حين قال: أليس هذا خاناً؟ فطلبه وأثرت فيه هذه الكلمة بحيث ترك الملك وترك الدنيا، وقال: إني ذاهب إلى ربي(10)، فكم من الناس كانوا لا يُصَلُّونَ وقد صلَّوا ببركة هذه المجالس الحسينية؟ وكم من الناس كانوا ملوثين بالغيبة والتهمة والنميمة، وتغيروا بموعظة من الخطيب؟ وكم من الناس كانوا لا يؤدون حقوق الله ولا يؤدون حقوق الناس ولكنهم تغيروا ببركة هذه المجالس؟ إن ذكر أهل البيت (عليهم السلام) بركة كما أن موعظة الخطيب مؤثرة.
يقول أحدهم حول العلامة السيد محمد كاظم القزويني(11) (رحمة الله عليه وأعلى الله في جنان الخلد مقامه): خرج في ليلة من ليالي شهر رمضان من أحد المجالس متجها إلى مجلس آخر ولاحظت أنه مريض، منهك ومتعب، فقلت له: سيدنا لاداعي أن تكلفوا نفسكم فوق ما تستطيعون، إنك الآن مريض ومنهك وقادم من مجلس، اعتذر من أصحاب المجلس الثاني. فقال لي السيد محمد كاظم: أذكر لك قصة حدثت البارحة أو قبل أيام: جاءني رجل وقال لي، عندي جار يملك قوة وقدرة ــ لعله كان مرتبطاً في الحكومة الظالمة ــ جاء وغصب مني بيتي، فأصبحت بلا بيت وبلا مأوى، وهذا الجار الغاصب يأتي إلى مجلسكم، فإذا تكلمت أنت حول بيتي فوق المنبر، لعل كلمتك تؤثر فيه. ويواصل السيد محمد كاظم: صعدت فوق المنبر وتكلمت حول الاعتداء على حقوق الناس وحقوق الآخرين والعذاب العظيم الذي ينتظر الذين لا يؤدون حقوق الناس. وقد يقول أحدهم: إنني سأستغفر الله تعالى وينتهي الأمر، كلا... إن الله تعالى لايتجاوز عن حق الناس.
ويواصل السيد قائلاً: تكلمت حول هذا المطلب الخاص بحقوق الناس، فجاءني صاحب البيت المغصوب في اليوم التالي وقال لي: جزاك الله خيراً، فقد جاء جاري الذي غصب بيتي في نفس اليوم بمجرد ما خرج من المجلس وردَّ لي بيتي، بمعنى أن التأثير كان فوريّاً لهذه الكلمة والموعظة، وأضاف السيد محمد كاظم القزويني (رحمة الله عليه): فإذا كان للموعظة والكلام هذا التأثير فيجب أن نتحمل العناء من أجل إرشاد الناس وهدايتهم.
البركات الغيبية
الأثر الثالث: البركات الغيبية، إن البركات الغيبية للمقامات العظيمة في الآخرة، متمثلة بشفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والزهراء (صلوات الله عليهم) وهذه المجالس وسائل للشفاعة، فلماذا يحرم الإنسان نفسه من هذا الخير؟ فالرجل الذي عنده ديوانية ويقيم مجلساً، هذا فيه خير وبركة، وسيرى بنفسه آثار أعماله هذه وخاصة في الآخرة. أنقل هذه القضية وأختم الموضوع، وإن كانت القضايا كثيرة جدّاً في هذا المجال، يوجد في أحد الكتب ــ وقد سمعت هذا من بعض العلماء أيضا ــ عن المرجع العظيم الشيخ الأنصاري (رحمة الله عليه)(12): أن جماعة من طهران جاءوا وطلبوا منه وكيلاً أو ممثلاً له، وكان يوجد رجل متدين وهو عالم من أهالي طهران، فقال له الشيخ الأنصاري (رحمة الله عليه): اذهب أنت معهم لأنك وصلت إلى مقامات عالية من العلم والتقوى. فقال العالم: حسناً سأفعل.
فذهب مع هؤلاء الجماعة إلى طهران في ذلك الوقت، قبل مائة وخمسين سنة تقريباً، ولكن بعد فترة قصيرة وإذا بهذا العالم يعود إلى النجف، فاستغرب الشيخ الأنصاري حين رآه وسأله: لماذا رجعت، ألم تذهب مع الجماعة؟ فقال: في الواقع ذهبت معهم ولكنني رأيت رؤيا في أثناء الطريق، وسأبقى في النجف إلى يوم الجمعة، فإن كانت الرؤيا صادقة سأبقى وإذا كانت غير صادقة سأرجع إلى طهران، فسأله الشيخ الأنصاري (رحمة الله عليه): ما هي تلك الرؤيا؟ فقال له: رأيت العالم الآخر ورأيت هنالك قصراً عظيماً، فسألت: لمن هذا القصر؟. فقالوا لي: إن هذا القصر لك أنت.
ويواصل السيد الطهراني الذي رأى هذه الرؤيا: أردت أن أدخل إلى القصر، فقالوا: كلا، ليس لك حق بالدخول الآن. فقلت لهم: ومتى إذن؟ قالوا لي: يوم الجمعة لك الحق أن تدخل في هذا القصر. لذلك أنا فسرت هذه الرؤيا بأن وفاتي ستكون يوم الجمعة فرجعت ولم أذهب معهم، وإذا مت يوم الجمعة فأُدفن هنا بجوار أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وإن لم أمت سوف أذهب إلى طهران.
ويواصل السيد الطهراني: ثم مشيت ــ في عالم الرؤيا ــ فرأيتُ قصراً أعظم وأكبر، سألت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: هذا القصر للشيخ مرتضى الأنصاري؛ نعم إنه أستاذنا وأعلم وأتقى منا، فأمر طبيعي أن يكون قصره أضخم وأعظم، ويضيف: ثم مشيت في عالم الرؤيا ورأيت قصراً أعظم من القصر الثاني، وسألت: وهذا القصر لمن؟ فقالوا: هذا القصر للشيخ الدربندي (13)، فاستغربت من ذلك، لأن الشيخ الأنصاري في عالم الدنيا أعظم من الشيخ الدربندي وأكثر شهرة، وسألت: لماذا قصر الدربندي أعظم من قصر الشيخ الأنصاري؟. فقالوا: إن هذا عطاء الحسين (عليه السلام).
فانتظر الشيخ الأنصاري إلى يوم الجمعة وإذا ببعض الناس يأتون ويقولون: إن هذا السيد مات في نفس يوم الجمعة، فذهب الشيخ وصلى عليه ودفنه، وتبين أن هذه الرؤيا كانت رؤيا صادقة.
وكان كلام الشيخ الأنصاري في هذه الرؤيا، حول الشيء الذي يملكه الشيخ الدربندي وأنا لا املكه؟، فقال الشيخ الأنصاري: أنا فكرت بأن الشيخ الدربندي عالم وأنا عالم، وهو مدرس وأنا مدرس، وهو مؤلف وأنا مؤلف، فما الشيء الذي يملكه الشيخ الدربندي وأنا لا املكه؟ ثم فكرت بأن الشيخ الدربندي كان أحد خطباء الحسين (عليه السلام) وكان يصعد فوق المنبر ويقرأ ويخدم سيد الشهداء (صلوات الله عليه) فوق المنبر، أما أنا فلا أعرف أن أقرأ، ولكن من يوم غد قبل الدرس سنطلب أحدا لكي يقرأ لنا مصيبة سيد الشهداء (عليه السلام) لدقائق، ثم بعد ذلك أبدأ بدرسي.
إذن فالشيء الذي كان عند الشيخ الدربندي هو خدمته لسيد الشهداء (عليه السلام) أكثر، وسنأتي نحن في يوم القيامة فننظر إلى أحدهم كما ننظر إلى النجم، فقد ورد في بعض الروايات أن بعض الناس ينظرون إلى بعضهم كما ينظر أحدنا إلى النجم، لماذا؟ لأنه كان أكثر من غيره خدمة لسيد الشهداء (عليه السلام)، ولأنه كان يملك ديوانية وأنا كذلك، لكنه كان يقرأ لسيد الشهداء (عليه السلام) وأنا لم أكن أفعل ذلك.
إذن ينبغي على الإنسان أن يحاول الاستفادة من هذه الفرصة، فهذه المجالس لا تخص فقط الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، بل يجب أن تكون موجودة على مدار السنة، لأن فيها دعوة إلى الله تعالى، وفيها موعظة، وفيها آثار غيبية كبيرة وبركات كثيرة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتبنا من الذين نصروا سيد الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه). وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق