توجد عوامل كثيرة تُسهم بطريقة أو أخرى في زيادة تقوية الروابط الاجتماعية بين أمة أو شعب ما، وقد يكون بعض هذه العوامل مختلَق، وهناك عوامل أصيلة تنبع من ثوابت الشعب والقضايا المصيرية التي تربط بين مكوناته، وحين نتطرق الى هذا الموضوع، فيما يخص الشعب العراقي، فإن هنالك جملة من الروابط المهمة التي تزيد من عمق الترابط المجتمعي، وتضاعف من الوشائج التي تقرّب بين مكونات المجتمع.
ولن نغالي أو نتكلم فوق الواقع عندما نقول بأن (زيارة الأربعين) تعد عاملا فعالا، بل مصيريا يقرّب العراقيين والمسلمين من بعضهم البعض، لاسيما أن هذه الفعالية الدينية ذات الطابع الجمعي، تتعلق بالإمام الحسين (ع) سبط الرسول الكريم (ص)، وتستعيد كل سنة في مثل هذه الأيام، ما تعرّض له الإمام وذويه وأطفاله ونسائه وصحبه، من تجاوزات وانتهاكات لا يجرؤ على فعلها، إلا من فقد رشده وعقله وحكمته ودينه، إذ كيف يمكن أن يقوم حاكم (إسلامي) يعلن انتماءه الى دين محمد (ص) ثم ينتهك (آل النبي) شر انتهاك!!.
إن فداحة هذا التجاوز الإجرامي البشع، خصوصا أنه حصل بحق (أهل الرسول الأكرم)، من أئمة أهل البيت عليهم السلام، بقدر ما ينطوي عليه من سوء، فإنه بالمقابل صار مع مرور التاريخ، واحدا من أهم وأقوى الروابط الجامعة بين العراقيين، حيث يشترك العراق من أقصاه الى أقصاه بالمشاركة في إحياء مراسيم هذه الزيارة المليونية السنوية المقدسة، لذا تعد هذه الزيارة عاملا مساعدا بل أساسيا لزيادة اللحمة بين مكونات الشعب العراقي.
ومما يمكن لمسه لمس اليد ورؤيته رؤية العين الثاقبة، تلك الوقائع التي تدل على عمق المشتركات الجامعة بين العراقيين وجعله نسيجا مجتمعيا متماسكا، ويؤيد المختصون بأن ثمة مشتركات كبيرة أهمها زيارة الأربعين تدعم وتقوّي النسيج العراقي، شعبا وأرضا وتأريخا، على الرغم من تعدد المكونات والأعراق التي تشترك في تكوين المجتمع، لدرجة أن المراقبين والمعنيين بالشأن العراقي أطلقوا مفردة وصفة الفسيفساء على الشعب العراقي، بسبب تنوع وتعدد مكوناته وأثنياته، وقد أسهم ذلك في وحدة العراقيين، مع تميز هذه المرحلة بحرية ممارسة الطقوس الدينية من دون مضايقات ومطاردات وملاحقات، كما كانت تفعل الحكومات السابقة.
الفرصة لا تزال مواتية للتقدم
لكن الحال تغيّر بصورة كبيرة، فبعد المنع والاعتقال وتكميم الأفواه، تغيّر الحال كليّا مع بداية التحولات التي حدثت في العراق بعد نيسان 2003، لاسيما في الجانب السياسي وحرية الرأي والإعلام واحترام الحقوق الفردية وما شابه، وكلنا عشنا الأوقات العصيبة التي بدأت فيها الهجمة الشرسة لأعداء العراقيين لتمزيق وحدتهم وإشغالهم بالطائفية والتعصب، الأمر الذي تطلب من الجميع التماسك والتقارب أكثر فأكثر، من أجل درء خطر التشتت واشتعال الاحتراب بين أبناء الشعب الواحد، وهذا ما يبتغيه الأعداء بالضبط، لكن العراقيين الأشاوس وعوا هذه المخططات الخبيثة وتماسكوا وتوحدوا لمواجهة هذه المخاطر، فصارت (زيارة الأربعين) من أهم تقارب العراقيين وزيادة لحمتهم وتقوية وحدتهم.
ومن الأمور المسلّم بها، أن العراقيين بحاجة الى الوحدة ورص الصفوف، أكثر من أي وقت مضى، والسبب أن أبناء العراق يعيشون اليوم فرصة ذهبية لكي ينطلقوا الى الأمام وليصبحوا من الدول المتقدمة، فالعراق الغني بالموارد البشرية والعلمية والمهنية والطبيعية، بات قاب قوسين أو أدنى من العبور الى الركب العالمي المتقدم، وهكذا تأتي زيارة أربعينية الأمام الحسين (عليه السلام المليونية)، لتضع أمام العراقيين جميعا خيارا كبيرا ومهما لترسيخ الوحدة وتعميق الروابط بين أبناء البلد الواحد.
ومن محاسن النتائج الذي يحصل عليها العراقيون في مثل هذه الأيام، زيادة العلاقات الاجتماعية وانطلاق حملات التعاون والتكافل وتعميق القيم التربوية الإنسانية الدينية التي تصقل المجتمع كله، إذ أن الزائرين القادمين من مدن وقصبات ونواحي وقرى العراق كافة، يصبحون في هذه الزيارة عائلة واحدة كبيرة، متحابة متعاونة متقاربة، هدفها هو إحياء الشعائر الحسينية والتعاطي الجاد مع الفكر الحسيني الخالد، مما يسهم بصورة فعالة بتوحيد جهود وتوجهات أبناء الوطن الواحد، وتأتي إحياء مراسيم الأربعين كدافع ومحفّز للسياسيين وغيرهم من اجل المضي قدما لترسيخ هذه الوحدة الشعبية، ومن ثم تحقيق متطلبات العيش الكريم للعراقيين بلا استثناء.
ومن الأحداث والمشاهد والدلائل على زيادة وحدة العراقيين في زيارة الأربعين، زيادة التواصل والتقارب بين العائلات العراقية، فالعائلات التي تأتي من أقصى العراق شمالا أو جنوبا أو شرقا وغربا، تحتاج الى خدمات كثيرة أثناء مسيرها الى المراقد المقدسة، ما يجعلها تدخل في بيوت وتجمعات لا تربطها علاقات اجتماعية في السابق، وهذا يزيد من قوة النسيج العراقي وتقوية العلاقات من خلال عقد الصداقات والتي يصل بعضها الى الزواج في كثير من الأحيان، وهذه الأمور وإن بدت بسيطة لكنها قوية من حيث الجانب الاجتماعي ووحدة الشعب.
الإصرار على تحدي الإرهاب
علما أن كثيرا من أهالي المدن التي يمر بها الزوار يعرضون خدمات الطعام والشراب والمبيت في البيوت لآلاف الزوار الذين يمرون بمناطقهم، لهذا أعطت هذه الزيارة المليونية مؤشرا واضحا للجميع على حيوية العراقيين وتوحدهم، وقدرتهم دائما على النهوض مجددا بعد أية كبوة يتعرضون لها، لكنهم يواجهون المشكلات ولا يستسلمون للنكبات او الويلات مهما اشتدّ خطبها.
وقد لاحظ العالم أجمع كيف يواجه الزوار الأعمال الإرهابية والمفخخات أو المخططات العدوانية المقيتة التي تستهدف لحمة الشعب ووحدته، وتصب في المسارات التي يخطط لها أعداء العراق لجعله بلدا ضعيفا ممزقا، لكن زيارة الأربعين المليونية، أعطت درسا للأعداء الخبثاء، وجعلتهم على معرفة تامة بتصميم هذا الشعب على تجاوز المحن، وإفشال المخططات التي تستهدف وحدته وحاضره ومستقبله، بالإضافة الى توعية القادة السياسيين وحثهم على العمل السياسي البناء، خصوصا ما يتعلق بإجراءات الإصلاح وتعويض الشعب عمّا عاناه من ظلم وحرمان وجوع في ظل الحكومات الفردية العسكرية.
ومع أن جميع المحافظات والمدن العراقية ساهمت بشكل فعال في التعاون مع الزوار الكرام وخدمتهم، وهي جهود مباركة سيجزون عليها خير جزاء، إلا أننا لابد أن نستذكر دائما تلك الجهود الاستثنائية والكبيرة التي يبذلها أهالي كربلاء المقدسة بكل عناوينهم ومسمياتهم وانتماءاتهم، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، فقد أصبح الجميع خلايا نحل متكاملة قدمت ولا تزال تقدم كل ما يمكنها للزوار الكرام، ولكي تبقى كربلاء المقدسة عنوانا لوحدة العراقيين وتبقى زيارة الأربعين ومراسيم إحيائها عاملا مستمرا لوحدة العراق، لابد من دعم هذه المدينة المعطاء ماديا ومعنويا.
ذلك أن ملايين الزوار يحتاجون الى خدمات خاصة وبنى تحتية عملاقة، وهذه مهمة كل من يستطيع تقديم العون لجعل كربلاء المقدسة قادرة على أداء واجبها تجاه الزوار الكرام بأفضل حال ممكن، حتى تبقى هذه المدينة المقدسة عنوانا صادقا لوحدة العراقيين وتقاربهم وجعلهم نسيجا موحدا ينسجم مع الظروف السياسية والاجتماعية والدينية التي استجدت مع جدية وحداثة المرحلة الجديدة للعراق الجديد.
اضف تعليق