مثلما يستعد ويتهيّأ لأداء طقوس الزيارة في كل عام، ها هو يستعد للذهاب الى مدينة كربلاء المقدسة، كي يشارك في مراسيم إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، ارتدى السواد ووضع على رأسه قطعة قماش سوداء وحمل معه نقودا كافية ولم ينس جهاز الموبايل الحديث، واتصل بحمايته كي يرافقه عدد منهم الى الزيارة، وطلب منهم تحديد اسم الموكب الحسيني الذي سيشارك فيه، في الحقيقة وفي أعماق نفسه هو يحب الإمام الحسين عليه السلام، فقد نبت هذا الحب في تربة روحه ونفسه وعقله وهو صغير السن، حيث تربّى في كنف عائلة فلاحية ملتزمة ومتمسكة بحب أهل البيت عليهم السلام، وأبوه الذي يعد من وجوه القرية كان يقيم في بيتهم مجلسا سنويا للإمام الحسين طوال أيام عاشوراء، ولا تزال ذاكرته محملة بتلك الأجواء العاشورائية التي تسود منطقتهم السكنية، وها هو يتذكر الآن كيف كان يشترك مع شباب الحي في موكب يقدم الطعام والشراب ويقيم المجالس الحسينية، إنها مراسيم وأفعال مغروسة في القلب والنفس والذاكرة، ها هو يستعيدها من جديد وهو يستعد للذهاب الى مدينة الطهر والقداسة والفداء.
وصل أفراد حمايته الى باب الدار، خرج لهم بلباسه الحسيني المفعم بالسواد، لاحظ أحد أفراد حمايته يرتدي قميصا ملونا، فطلب منه تغيير هذا القميص، ونادى على احد أولاده فجلب قميصا أسود وأمر رجل الحماية أن يلبسه بدلا من قميصه الملون، لاحظ أفراد الحماية اهتمام مسؤولهم بهذا الأمر وهم يعرفون ذلك جيدا فقد رافقوه الى مراسيم هذه الزيارة في سنوات سابقة، وهو أحد مسؤولي الدولة ويشغل اليوم مركزا حساسا في الحكومة وهو ينتمي الى أحد الأحزاب المهمة.
صفقات مشبوهة
انطلقت بهم السيارة الحديثة الى مدينة كربلاء المقدسة، في الطريق كان يتابع المسؤول ما يحدث في طريق (المشاية)، وكان يلاحظ الشباب وهم يقومون بخدمات جليلة للزوار، كان يلمس حرصا كبيرا منهم على رعاية الزوار، وكان يرى الوجوه المتعبة للزوار العراقيين الذين يحثون الخطى مشيا الى مرقد أبي عبد الله عليه السلام، كي يواسونه في هذا المصاب الجلل، كانت السيارة تسير على مهل بين حشود السائرين من الزوار، وكان يرى الوجوه المنهكة للشيوخ والعجائز وبعض الأطفال الذين يحملهم آباؤهم أو أمهاتهم، وهناك من ذوي الاحتياجات الخاصة على كراسي هرمة بعجلات معطوبة يدفعهم أخوتهم او ذووهم، فالقلوب كلها تتوجه اليوم الى أبي الأحرار باكية متألمة نادبة مواسية لما جرى على آل الرسول محمد (ص) من ظلم ومن مجزرة طالت الصغير والكبير وأساءت لبنات الرسول وأسباطه، ارتكبها السلاطين الظالمون.
كان المسؤول يشعر بشيء من تأنيب الضمير، فقد ارتكب خلال السنوات الماضية ما يعتقد أنها أعمال تلحق الضرر بهؤلاء الفقراء المتوجهين الى أبي عبد الله، إنه في الحقيقة شارك في صفقات مشبوهة وهو يقر ويعترف لنفسه أنه اختلس من أموال هؤلاء بطرق مخادعة وحجج واهية، لم يكن قادرا على ردع نفسه وهي تطالبه بالمزيد من تكديس الثروة وزيادة النفوذ وتعظيم القوة السياسية والاجتماعية وغيرها، نعم لقد صار قويا بما فيه الكفاية كما يظن، فهو الآن يحتل منصبا حساسا، ويمتلك من النفوذ ما يجعله قادرا على تحقيق أي هدف يخطط له ويرغب به، كما أنه يمتلك من الثروات والعقارات الكثير والكبير داخل البلاد وخارجها، إنه لم يستطع ردع نفسه عن القيام بمثل هذه الأفعال، لكنه يعرف تمام المعرفة أنها خاطئة وأنه ارتكب ذنوبا كبيرة كي يحقق أهدافه هذه.
وها هي صور الذنوب تكبر أمام عينه وفي ذهنه، فهو كلما رأى وجها متعبا من زوار الحسين (ع) يعتصره قلبه ويشعر بألم شديد يجتاح صدره، ولا يشعر إلا والدموع تتساقط بصمت من عينيه تجري على خدوده جريان الماء في النهر، لم تكن عبراته مسموعة، كان نحيبه صامتا، وكانت عيونه ملتفتة الى شارع الزوار (المشاية)، وكان يعيش معاناتهم، وأشد ما أحزنه وأخافه، تلك الأحزان التي سكنت وجوه الزوار المتعبة، وتلك العيون الحزينة التي كانت تنظر الى نقطة واحدة أمامها، هي ضريح الحسين الشهيد ومتى ترى أنواره متى تصل إليه كي تشكو همومها له وما فعله بهم بعض قادتهم الذين فضلوا أنفسهم وعوائلهم على الآخرين، تفضيلا ليس فيه إنصاف ولا عدل ولا رحمة ولا مساواة، إنهم سوف يصلون الى مرقد الحسين عليه السلام لمواساته في هذا اليوم الجلل، وسوف يبكون عند ضريحه ويتألمون ويصرخون مواساة لألم الحسين وذويه وصحبه أولا، ثم تسيل دموعهم وهم يستغيثون بالإمام من الآلام والظلم الذي يلحق بهم.
خدمات المواكب الحسينية
وصلت السيارة الى كربلاء المقدسة، نزل أفراد الحماية، تبعهم المسؤول بالنزول، لاحظ جمع من الزوار السيارة الفارهة، وضخامة الأجساد، فابتعدوا خشية أو احتراما، كانت آثار دموع المسؤول لا تزال واضحة للعيان، استغرب أفراد الحماية ملامح البكاء لكنهم تأكدوا بأن المسؤول موجوع القلب في هذا اليوم العظيم، دخل المسؤول أحد المواكب، جلس على الفراش منهكا، شعر بنفسه دائخا، لا يرى الأشياء والأشخاص بشكل جيد، الرؤية لديه مشوشة، سرعان ما جاء أحد خدمة الحسين للمسؤول ومعيته بالشاي الساخن، وقدمه للمسؤول، تفضلوا هذا شاي أبو علي، أخذه المسؤول بيمينه ممتنا شاكرا خادم الحسين، بدا المسؤول يحتسي الشاي بلهفة ورغبة وسرعان ما طلب استكان شاي آخر، وفي لحظات كان عنده، وبدا يشربه بهدوء وامتنان، صحت عيناه، انه الآن يرى كل الأشياء بوضوح، واخذ يتابع خلية النحل في الموكب وهي تقدم خدماتها للزوار الكرام، الطعام والشراب والشاي والكعك والخبز الحار، وداخل الموكب توجد عشرات الأفرشة والأغطية والوسادات لمن يحتاج الى النوم والراحة من الزوار.
وبعد أن شعر بأنه استعاد صحته ونباهته وتوازنه، نهض المسؤول خارجا من الموكب بعد أن شكر القائمين عليه، وتوجه الى مرقد أبي عبد الله، حيث المنائر المشعة والأضواء الخافتة وألوان الحزن التي تسود كل شيء، وما أن دخل المسؤول الحرم وبات في قبال الضريح، دهمته موجة نحيب عال، وراح يعتذر من الحسين، ويستغيث به ويطلب المغفرة والرحمة، فيما انتقلت هذه الموجة الرحمانية الى الاشخاص الذين رافقوه في هذه الزيارة، شعر الجميع وأولهم المسؤول بأنهم يغتسلون الآن من معاصيهم وذنوبهم التي ارتكبوها، وسمعوا المسؤول وهو يردد بكلمات مسموعة، وينطلق كلمات العهد للإمام بتصحيح المسار، ومساندة الفقراء والمظلومين، كما فعل سيد الشهداء في وقوفه ضد الظلم.
في أعماقه شعر المسؤول لأول مرة منذ سنوات بأنه أصبح (نظيفا) مقبولا عند الله والنبي وأهل بيته، ومن الناس جميعا، إنه منذ اللحظة عاهد إمامه على أداء عمله بما يرضي الله ورسوله والأئمة من نسله وذريته، وهو بالفعل شعر بأنه يولد من جديد، وعزم عزم الصالحين الأوفياء على تعويض كل ما قام به بالصحيح المناسب، وكم كان سعيدا وهو يرى نظرات القبول والرضا في عيون الناس وهي ترمقه بمحبة وامتنان عندما ترى ملامح الخشوع في وجهه وتلمح آثار الدموع وأحيانا تسمع كلمات الدعاء والاعتذار، وهكذا كانت البداية الجديدة والولادة الحق، إنه سوف يبدأ من جديد ليسير فيما يريده الله تعالى، هكذا عاهد إمامه عهد الرجال الصادقين.
اضف تعليق