q

ما أن تلوح بوادر الحزن الحسيني في مثل هذه الأيام العاشورائية، حتى تبدأ القلوب بالنبض والخفقان حبا بإمامهم سيد الشهداء الذي أعلن على رؤوس الأشهاد بأنه لم يخرج (أشر ولا بطرا، وإنما لإصلاح أمة جدي)، فالهدف الأول لخروج الحسين (ع) من الحجاز الى الكوفة في العراق، هو إعلان الثورة على الحكم الأموي المنحرف وإعادة الإسلام الى الجادة الصواب بعد الزلل الدنيوي المادي الخطير الذي ألمَّ به.

رافقت ذلك جملة من المبادئ التي يتوجب الالتزام بها، وبالفعل في مثل هذه الأيام في شهريّ (محرم وصفر)، حيث يتوحد المسلمون ويتقارب العراقيون وتتضح بوادر ومظاهر هذه الوحدة في الأنشطة المختلفة التي يباشر بها الشباب الحسيني وأهالي المدن العراقية فيستقبلون حشود الزوار من الداخل ومن بلدان العالم كافة، وهم يتوجهون الى كربلاء المقدسة نحو ضريح الإمام الحسين، لإحياء مراسيم زيارة العاشر من محرم، وهو اليوم الذي استشهد فيه أبو الأحرار وسيد شباب أهل الجنة.

لذلك فإن الأهداف الحسينية على الرغم من وضوحها من حيث المضمون والهدف، إلا أن هناك من لا يزال يطرح التساؤلات وبعضها قد يتلفع بالشك، منها هل هناك أهداف محددة لثورة الإمام الحسين وما الذي كان يريده الإمام من الأجيال اللاحقة، ما هي المبادئ التي دعا لها، وما هي التعاليم الحسينية التي ينبغي علينا التمسك بها؟ هذا السؤال يبدو بسيطا وواضحا، وقد يجيب عنه أحدنا على الفور، إن ما يريده الإمام الحسين عليه، هو رفع الظلم وفضح الطغيان، ونشر روح المحبة والتسامح بين الناس من دون استثناء، كل هذا كلام واضح ودقيق، ولا أحد يعترض عليه استنادا الى مرجعياته الدينية أو العقائدية أو حتى الفكرية بصورة عامة، نعم هذه هي مطالب الإمام، ولكن ثمة سؤال آخر يعقب السؤال الأول، هل التزم المسلمون والحسينيون (الذين يعلنون إتباعهم لأئمة أهل البيت (ع) بما يرده الإمام حين قدم أغلى ما يملك دمه ونفسه وذويه وصحبه قربانا للإسلام والمسلمين؟.

البون الشاسع بين القول والعمل

في الحقيقة هناك بون واضح بين القول بالإيمان بالحسين وبين التطبيق على الأرض، فالواقع أن الجميع يعترف سواء آمن بذلك أم لم يؤمن، بأن سبط الرسول الكريم، دعا إلى إصلاح الإنسان قولا وعملا، وقدم دمه ونفسه وذويه قربانا من أجل تحقيق هذا الهدف، ولكن يبقى السؤال قائما، ماذا يريد الإمام الحسين عليه السلام من إنسان العصر الراهن، أو ماذا ينتظر من المسلمين تحديدا ومن الأتباع الشيعة على وجه أكثر خصوصية؟ إذن ثمة أسئلة كثيرة يتم طرحها ومن الواجب توضيحها والإجابة عنها من مختصين فقهاء لهم القدرة على ذلك.

لقد خرج الإمام للإصلاح، وقام بهذه المهمة بالتمام والكمال، وترك دروسا عظيمة للأجيال اللاحقة، فهل تم الالتزام بها؟، إن جميع الوقائع تشير الى أن المسلمين ظلوا متأخرين عن اللحاق بالركب الإنساني المتقدم، وما زالوا حتى اللحظة كذلك، وجميع القرائن والأسباب تؤكد أن منهج حياة المسلمين يتبنى الأخطاء عن عمد، ويزيغ عن الصواب، والدلائل كثيرة في هذا المضمار، فردية وجماعية، أولها المنهج السياسي المتسلط للأنظمة السياسية التي حكمت ولا تزال دول المسلمين، عربية كانت أو غيرها، ول وتحدثنا عن مسؤولي العراق فهنا تكمن الطامة الكبرى مع حجم الفساد والظلم وغياب العدالة في إدارة السلطة من أشخاص يدّعون الانتماء الى مبادئ الحسين (ع).

ومن يتابع حركة الواقع سوف يكتشف بسهولة تخلي الأتباع من المسؤولين عن مبادئ الحسين (ع)، خصوصا عندما نلاحظ ذلك اللهاث المحموم وراء المال والجاه والكبرياء الجوفاء، ولا يقتصر هذا على الجماعات والفئات، بل حتى الأفراد، أي حتى الفرد في حالة عدم انتمائه الى جهة فكرية او عقائدية معينة، تراه تعلّم اللهاث وراء المال والجاه الفارغ، واعتاد هذا المسار منذ نعومة أظفاره، وهذا ما يتناقض مع نهضة الحسين (ع) الإصلاحية التي تطالب من يعلن انتماءه للفكر الحسيني بالسلوك الصحيح، خصوصا ما يتعلق بحفظ حقوق الآخرين.

من المؤسف حقا أن تختلف أقوال الإنسان مع أفعاله، ثم يعلن أنه من أتباع الإمام الحسين (ع) ولعلنا نقف إزاء الكثير من الأسباب الأخرى كما نلاحظ ذلك في غياب روح التعاون بين الناس، وانتفاء حالة الإيثار تماما، وغياب التفكير بالآخر على نحو شبه مطلق، ولعل هذه الأسباب مجتمعة وربما ثمة غيرها الكثير، هي التي وضعت العصي في دواليب تقدمنا الى أمام، ولا احد يمكنه إنكار هذه الحالات التي تشكل منهج حياة خاطئ لمعظم المسلمين. والمشكلة أنهم بارعون في الكلام والوعظ، فهم يقولون أجمل الكلام وأفضله، في الوقت الذي يرتكبون أسوأ الأعمال وأكثرها انحطاطا، وهذه الازدواجية الخطيرة بين القول والفعل، تم تأشيرها منذ أوائل صدر الرسالة النبوية، حين نزلت الآية الكريمة على المسلمين لتقول لهم (يا أيها المؤمنون لمَ تقولون ما لا تفعلون* كبرَ مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) - سورة الصف-، ولعل المشكلة الأكبر تكمن في وجود مثل هؤلاء الأشخاص في مناصب حساسة تمنحهم نفوذا كبيرا وصلاحيات كبيرة، فهؤلاء هم أخطر الناس على الأمة.

الضعف والانحدار المادي الخطير

إذن هي ظاهرة قديمة جديدة متأصلة في الذات المسلمة، ولعلها أسهمت ولا زالت تُسهم مع غيرها من الأخطاء الفادحة، على إبقاء المسلمين يراوحون في مكانهم، دوناً عن الأمم التي كانت تخطو وراءهم، فأصبحت تتقدمهم بمسافات علمية وثقافية كبيرة، وهنا سوف تتبين لنا بجلاء جميع القيم والأهداف التي ثار من أجلها الإمام الحسين لمصلحة المسلمين والإنسانية جمعاء؟.

إن مظاهر وحالات الانحراف التي تتخلل الواقع، ما كان لها أن تحدث لو لا الخلل والزلل الذي ألمَّ بالذات المسلمة وأزاحها عن الطريق السوي، لهذا انزلقت الدولة الإسلامية الى الضعف والانحدار المادي الخطير، بعد أن كانت تتحلى في عهد الرسول الكريم (ص) بعمق روحي يتجلى في كل شيء، وفي كل عمل او قول، يفعله أو ينطقه فرد أو جماعة، لقد كانت الروح النظيفة هي التي تقود أمة المسلمين، وليس النفس الباحثة عن السلطة والمال والجاه بسيف الظلم والطغيان، لهذا كانت أمتنا تتفوق على نفسها وتوصف بالتضحية والإيثار، وكل الخصال النبيلة التي يتحلى بها الإنسان السليم، وما عليها إلا العودة الى الجذور الحسينية الإصلاحية التي خرج من أجلها سيد الشهداء ثائرا مضحيا بالغالي والنفيس في سبيل الإسلام الحق وتصحيح المسيرة التي قادها الأمويون الى الملذات الدنيوية المقيتة.

خلاصة القول أن الجميع ممن يعلن تمسكه بالفكر الحسيني، يعرف ما هي مضامين تلك المبادئ، وماذا يريد الإمام الحسين عليه السلام؟، هنا علينا أن نسعى الى استعادة الروح النظيفة وأن تزدهر حالة التضحية والإيثار مثلما كانت تتسيد أخلاق المسلمين في عهد الرسول الكريم، وأن يتجنب الجميع خطر السلطة وسحرها، فرداً كان أو حكومة، وأن يتآخى المسلمون كأعضاء الجسد الواحد، ولابد أن يتذكر (المسؤولون) ممن يعلن انتماءه للحسين أهمية الالتزام بثورة الإصلاح التي قدم الإمام (ع) نفسه ودماءه من أجلها، كل هذا كي تبقى مسيرة الإسلام الحق ماضيا في المسار الصحيح.

اضف تعليق