كان فردريك نيتشة وبلاشك من أكثر الفلاسفة تأثيرا واثارة للجدل في القرنين التاسع عشر والعشرين. من بين اعماله الجديرة بالاهتمام كان (مولد التراجيديا، عام 1872) الذي نال اهتماما خاصا من النقد الفني، لأن الفيلسوف الالماني ادخل هنا فكرة وجود قوتين متضادتين اثنين (Apollonian and Dionysian) باعتبارهما الدافع في خلق جميع الفنون. الانقسام الذي اقترحه نيتشة هنا هو محاولة لتفسير العالم بطريقتين وايضا اشارة الى وجود مفهومين اثنين مختلفين للحقيقة والاخلاق وهما: المطلق والنسبي.
كُتب نيتشة جرى عرضها والتعليق عليها من كتاب مشهورين وفلاسفة وفنانين. وبشكل خاص الرسام الاسباني السريالي سالفادور دالي الشهير بأعماله الرائعة. في قراءة دالي للعبقري نستطيع رؤية انه عرف جيدا محتوى (مولد الترجيديا). ان اشارة دالي المتكررة لفلسفة نيتشة عموما ولمفهوم الفن بالذات يكشف ان الفنان تأثر بكثافة بأفكار نيتشة. سنحاول اماطة اللثام عن هذا التأثير في هذا المقال.
ازدواجية الفن لدى نيتشة
"التطور المستمر للفن مرتبط بإحكام بالثنائية الابولونية والداينوسية بنفس الطريقة التي يعتمد بها التناسل على وجود جنسين"(مولد التراجيديا، صفحة 14).
طبقا لنيتشة في مولد التراجيديا، الفن هو نتاج للصراع الديناميكي بين عنصرين في عمل الثقافة: الدايونيسي والابولوني. هو يشتق هذين المصطلحين من اسمي اثنان من الآلهة اليونانية. تجدر الاشارة انه في التقاليد اليونانية، ديناسوس وابولو لم يُصنّفا كعدوين او قوتين متضادتين. لكن نيتشة تصّور وجود طبيعة متضادة فيهما والتي تبدو معقولة لأن هذين الالهين جسّدا نوعين من شخصيتين متضادتين. ابولو كان اله الشعر والفن والموسيقى والطب والضوء والنظام، وعموما، اله الانسجام في العالم. هو اُعتبر رمزا للجمال التام والسيطرة الذاتية والتقدم والتوازن والسلام والعقلانية والتفكير المنطقي والاعتدال والسلوك طبقا للقواعد المتعارف عليها. الموقف الابولي يُعبّر عنه باقوال ونصائح معبد ابولو: "اطع القانون" "فكّر كشخص معرّض للفناء" "سيطر على نفسك" "سيطر على الغضب" تمسّك بالانضباط" "سيطر على العين" "اعمل باستمرار في انسجام". بالمقابل، دايونسين كان اله الطبيعة الخارجية، حارس الفحولة وقوى الخصوبة، رمزا لاسلوب الحياة الخليعة، الخمر، النشوة الدينية، الحماقة، العواطف، الانفعال، الحيوية، الغرائز، واللاعقلانية. طبقا لنيتشة هو يمثل القوة الديناميكية لإعطاء الحياة، قوة تنتهك جميع العوائق والقيود التي يضعها القانون، وتحطم كل اشكال الانسجام.
اشار نيتشة الى ذلك بانه عبر اتّباع التيار الابولي في الفن، فان الفنان يستسلم للمبادئ الفنية المقبولة بشكل عام – اي، انه يسعى لتوضيح الجمال والتميز من خلال معايير الثقافة، وبهذه الطريقة، يحاول الفنان تجميل او إعلاء الواقع. لاشك ان نيتشة كان يرى ان الفنان يختار مثل هذا الموقف الطائع، فيرحل عن الطبيعة الحقيقية، وحتى يعارض الواقع: وان المنظور الابولي ليس فقط ضد الطبيعة وانما ضد الحياة وجميع تجسيداتها الحقيقية. طبقا لنيتشة، استمرار حالة التوازن، الاعتدال، البساطة، النظام، هي رؤية مضللة وخيالية للعالم. هو يرى ان مبادئ الانسجام والنظام والتناسق التام لن تسيطر ابدا على الطبيعة، التي هي دائما فوضوية وغير منظمة ومتغيرة. الرغبة بالانسجام الدائم تأتي من الضعف والخوف من الحياة الحقيقية.
مفهوم نيتشة للفن مرتبط بإحكام بفلسفته عن الحياة. نيتشة يؤكد دائما على ان حياة الانسان ذاتها هي الخير الأعلى. وهي بالاضافة الى ذلك حقيقة بايولوجية، لأن الانسان كائن جسدي. الحياة الروحية هي فقط فرع من حياة جسدية، والروحانية "اللاجسدية" هي مجرد ملاذ للضعفاء. الناس الضعفاء بحاجة الى اخلاق، كوابح، وقوانين لأنهم ليسو بالقوة الكافية ليعيشوا حياة ممتلئة.
ومن جهة اخرى، لاحظ نيتشة ان الذهن الانساني غير قادر على ادراك تام للواقع المتغير دائما، لأن الواقع ليس نظاما. لذا فان الانسان يحاول فرض اطار على الواقع لكي ينظم ويعمم ويبسّط ويكبح الطبيعة. هذه الافعال تنتج صورة للواقع يمكن ادارتها لكنها نوعا ما مشوهة.
بناءاً على ذلك اعتقد نيتشة ان الفنان يجب ان لا يخشى من تدمير هذا المشروع التنظيمي. بل يجب ان يتجاوز الى ما وراء القيود والمشاريع الاخلاقية، يرفض الرغبة بالهروب نحو المُثل، ويجب ان يفتح ذاته لقوة وديناميكية الحياة. نيتشة باستمرار يؤكد على ان الجوهر الحقيقي للحياة هو خالي من القواعد والقيود، وانه الحقيقة الاولى والمطلقة للوجود (بدلا من اي اخلاق او مصدر اخلاقي). وهكذا فان الموقف الدايونسيني يبدو منسجما مع مفهوم نيتشة للطبيعة. الفهم الدايونسيني هو ان العالم " وراء التعريف، او الحدود". المؤمنون المغرمون بدايونسيس هم متحدون مع الطاقة المضطربة لدفق الحياة. الفنان الذي يتبع المسار الدايونسيني، والذي يتميز بالابداعية اللامقيدة، سوف لن يخشى من دفع حدود الاخلاق او العقائد الثقافية، وسوف يتبع بدلا من ذلك صوت طبيعته وحوافزه التي ترفض القواعد السائدة والقوانين والاعراف. الفن الدايونسيني هو بطبيعته مهيمن، لاعقلاني، ومليء بالدينامية والتوترات الداخلية. انه يؤكد قيمة الدوافع الطبيعية الخام. هو لا يرى العالم بنظرة التفاؤل الساذجة. بل، انه يقبل شكل الحياة كما هي ويوافق على الالتزام بمصير لا معروف. الافتنان بالحياة، الاحساس بروعة الحياة، وسخريتها، هو ايضا اساسي ويوجّه الحاجة لتكون متوافقة مع عشوائية المحن ومع هشاشة وقصر فترة الحياة الانسانية. نستطيع القول ان طبيعة الفن الدايونسيني يمكنها حقا التحدث بصوت الحياة. او انها كما يصفها احد المهتمين ببيكاسو"تمثل الحقيقة غير المصفاة في قلب الوجود: "العاصفة" التي تحطم جميع الاقطاب والاضداد وتكشف الوحدة الفطرية في قلب الوجود الارضي".
بالتأكيد ان نيتشة ادرك ديناميكية الحياة. هو اعتقد ان الفرد يجب ان يعرف ليس فقط كيفية الحياة وانما ايضا كيف يتطور فيها. هو شجع موقف التأكيد الواعي، كسر مقاومة العالم، وتحسس النمو في قوة المرء. بالنسبة له يجب على الفرد القبول بالواقع كما هو في اللحظة الراهنة، وممارسته بافضل ما يستطيع. هو ايضا ليس لديه شك بان الفن يمكنه التأثير على مصير الناس. انه يرفع من قيمتهم، يمكنه ان يكون علاجا او راحة مؤقتة لمنغصات الحياة، حيث يساعد المرء في التوافق مع درامية الوجود الانساني ومع مصيره. عبر ممارسة الفن نستطيع تحويل العالم او المشاركة في عملية اعادة خلقه. بهذا المعنى، يصبح للفن تأثيرا حتميا سواء على حياتنا او على تاريخ العالم.
هذا في الواقع ممكن في كلا الطريقتين الدايونسينية والابولية. لكي نختار المسار الابولي يعني ان نغرس الرغبة بخلق العالم التام بأشكال مثالية وجمال كلاسيكي. ولكي نختار المسار الدايونيسي هو ان نرسخ التأكيد المنتصر بالحياة كما هي، نعترف ونقبل كل الحياة بما فيها الرعب ومظاهره الاكثر عتمة. رغم ان نيتشة منح تقييما خاصا للشعور الدايوسيني، ملاحظا فيه مصدرا لكل شيء مؤثر وخلاق، لكنه ادّعى ان أعلى نتاج في المجتمع هو العبقري الخلاق الذي يربط بطريقة رائعة بين القيم الدايونسينية والابولية. لذا، بالرغم مما يبدو من تعارض بين الروح الابولية والدايونسينية، لكن التعاون بينهما ممكن. على سبيل المثال، هو لاحظ ان اليونانيين احبوا الجمال واعجبوا بكمال الاشكال، ولكن في هذا الحب هناك ايضا الانغماس، تيار بلا شكل من الغرائز والحوافز والعواطف. وطبقا لنيتشة، الروحان الابولونية والدايونيسية كانتا مشتركتين في النموذج الأصلي للفن الرائع في التراجيديا الاثنية.
يرى نيتشة ان العبقري او الفنان الاستثنائي سيرتفع فوق ما هو مألوف عبر اتّباع قوة الحياة، بالاضافة الى استعمال افكار الانسجام والجمال. الفنان سوف لن يخشى كسر النماذج القائمة ولن يخشى من خطورة ذلك على الثقافة القائمة.
سلفادور دالي العبقري النيتشوي
"دايونسينية نيتشة رافقتني في كل مكان كمربي الأطفال الصبور"(مفكرة العبقري ص 21).
في عالم الفلسفة كان نيتشة اعتُبر متحررا، وانتهى مأساويا بمرض نفسي. كذلك في عالم الفن، سلفادور دالي نُظر اليه كفنان مثير للجدل وغير عادي.
يشير دالي باستمرار الى اعمال نيتشة في (مفكرة العبقري). لاشك كل قارئ للمفكرة سيحصل على انطباع ان الفنان الاسباني سُحر بفلسفة نيتشة وبشخصيته. هو ايضا ربى شاربه ليبين ارتباطه بالفيلسوف الالماني.
في مفكرته، يؤكد دالي بان نيتشة في عمله (هكذا تكلم زرادشت 1881) قاده الى عدم الايمان ورفض الفضائل المسيحية، وساهم بتطوير موهبته اللااجتماعية وفقدان الشعور العائلي. ظاهرا، كان دالي يرى فترة الاربع سنوات قبل نفيه من عائلته تمثل حالة مفرطة من التدمير الروحي: "بالنسبة لي كانت تلك السنوات حقا نيتشوية"(صفحة 18). اعجاب دالي بفلسفة نيتشة كان عظيما لدرجة سمى نفسه "نيتشة اللاعقلاني". كذلك تجدر ملاحظة ان عنوان مفكرته يشير الى ان الفنان لم يكن متحفزا فقط ليكون عبقريا طبقا لتعريف نيتشة، وانما شعر انه حقا كان عبقريا: "يوم ما... سيُجبر الناس على الاهتمام بأعمالي (ص 43).
غير انه من الصعب التعرف بدقة على ما اراده دالي من الادّعاء بالارتباط مع نيتشة. هل هو اراد الاعلاء من شأن فلسفة نيتشة؟ ام انه تصرف بشذوذ لأنه اراد الاثارة والشهرة الواسعة؟.
بصرف النظر عن كيفية الاجابة على تلك الاسئلة، افكار نيتشة تبدو فعلا تتناسب جيدا مع الافكار الاساسية للسريالية، الحركة الفنية التي انتمى لها واحبها الفنان الاسباني. احدى الافكار الرئيسية للسريالية هي التعبير المرئي عن الانطباعات الداخلية. الفنانون من هذا الطراز يحاولون ايضا خلق رموز تعكر المعنى المنطقي للواقع. طالما هم يعبرون الخط الفاصل بين الوعي والحلم، الفنتازيا او الوهم، فان رؤيتهم عادة ما تكون شاذة وارتحال تام عن العقلانية.
عند النظر الى لوحات ومنحوتات دالي، نستطيع رؤية اننا نشارك في التجارب الفكرية مع الفنان. اعماله الغريبة تتعارض بوضوح مع الواقعية، ومليئة بالمناظر المفعمة بالحلم والتشويه. هناك الاثارة الجنسية والرغبات الجامحة. في اعماله تجد الشيطنة: التدمير، القبح والتشوه. هناك افكار الثورة، القسوة، العنف، الشذوذ الجنسي. لاشك ان فن دالي يبتعد عن الفكرة الكلاسيكية للجمال. بهذا المعنى، نستطيع القول ان دالي انتقل بعيدا عن الفن الاكاديمي الذي يتجذر عادة في المعسكر الابولوني. كتب دالي "انه درس عظيم علّمه الاغريق القدماء، انه اول درس كُشف لنا بواسطة نيتشة. لأنه اذا كان صحيحا ان الروح الابولونية لدى الاغريق وصلت اعلى مستوى عالمي، فانه صحيح ايضا ان الروح الدايونيسية تجاوزت كل الافراط وكل الرعب" ص 102. بالتأكيد كان دالي استاذا للسريالية وتابعا للموقف الدايونسيني: "قبل ان تصبح حياتي على ما هي عليه الان، عبر التقشف والفضيلة اردت التمسك بسرياليتي المضللة ذات التشويه المتعدد الاشكال، حتى لو لثلاث دقائق فقط، كالنائم الذي يصارع للاحتفاظ بآخر جزء من حلم دايونيسني"(ص 21).
استطاع دالي تطوير طريقته المتميزة في تصور العالم الذي وصفه "كثورة حاسمة لجنون العظمة". كانت هذه كما يرى طريقة تلقائية في توليد معرفة لاعقلانية مرتكزة على الارتباط التفسيري للظاهرة الملتبسة. غير ان هذه الطريقة تشير الى كل من الافكار الرئيسية للسريالية والى مفهوم نيتشة عن الفن الداينوسيني. ولكن على الرغم من اعجاب دالي الواضح بافكار نيتشة، لكننا لا يمكننا الافتراض بانه قبل دون نقد بجميع افكار الفيلسوف الالماني. يجب الانتباه الى ان دالي ربى شاربا ليكون مشابها لنيتشة، لكنه لكي يكون متميزا عنه جعل شاربه بشكل مختلف: "الشيء المهم ان شاربي المضاد لنيتشة لايزال يشير للسماء مثل ابراج كاتدرائية بورغوس"(ص43).
كان دالي مدركا بان ضعف افكار نيتشة تعود لمرضه النفسي. الفنان ايضا بدا قلقا انه ايضا عرضة للشك بمرض ذهني. كما نعلم، الخط بين المرض العقلي والابداع الفني نحيف جدا.
من خلال فنه اوضح دالي ان الفوضى والتوتر في الداينوسيس كان دائما يغزو عقل ونظام ابولو، اي ان الجمال يمكن ان يفسد باللاتناسب، وان الفهم العقلاني للعواطف يمكن ان يفسد بالموهبة وحتى بالجنون. بهذه الطريقة، يجسد دالي عقيدة نيتشة بان أعلى انجاز بالفن يوجد في مركّب او على الاقل في مواجهة بين عنصريه الابولوني والدايونسيني.
اضف تعليق