المسرح المغاربي والعربي مازال يقتات من مائدة المسرح الغربي دون تمييز في أساليبها وصلاحيتها لسلوكنا الثقافي المغاربي والعربي، رغم أنّ عدداً من الأكاديميين العرب الذين درسوا الإخراج المسرحي سواء في أوروبا الغربية أو الشرقية إلا أن التشخيص العربي مازال يبحث عن الشكل الذي يتناغم مع النص...
يحيي العالم في السابع والعشرين من مارس من كل عام، يوم المسرح العالمي إيماناً بأهمية هذا الإبداع الفكري الذي أبدعه الإنسان، وللتأكيد على الدور الكبير الذي يقوم به المسرح في رقي المجتمعات والشعوب، فكان التطوير والتجديد ليعاصر تاريخ البشرية ومراحل الحياة الكبرى. والاحتفاء بيوم المسرح العالمي، أحقاً هو تتويج لإنجازات الحركة المسرحية وعروضها كل عام...؟ أم أن علينا أن نقتنع أن الأمر كالعادة احتفاء بذكرى كل شيء كاد ينقرض ويذهب إلى غير رجعة، ولم يبقَ منه إلا أطلاله أو ذكرى...؟
كلمات كثيرة قيلت وستقال بمناسبة اليوم العالمي للمسرح وصفت حالته... تحدثت عن أهميته... وكثيرا ما اقترحت حلولا لمشكلاته... ورغم صدق وأهمية تلك الأصوات في عالم المسرح... الا أن حالته تزداد سوءا... الممثل المسرحي جذبته الأضواء... والكاتب فر إلى عالم الدراما... وبقي عالم المسرح فارغاً إلا من قلة يحركها تحد مختلف قد تدفع ثمنه فيما بعد... مشكلة المسرح ليست فقط في الهجمة التكنولوجية عليه... بل في كونه دائما كان يطرح الثقافة البديلة... في اتجاهه الدائم نحو الجدل وإثارة الإشكاليات... في إمكانية خوضه في قضايا عميقة... قد تتعب المتفرج الباحث فقط عن تسلية عابرة...
عروض كثيرة اشتغل عليها بعناية قد لا تحظى بالنجاح المفترض... لأنها قدمت في غير أوانها... وعروض أخرى قد لا يكتشف مدى تأثيرها بمجرد انتهائها... تحتاج إلى وقت... حينها ستدرك إن كان العرض مؤثرا أم لا... بعض العروض التي يتمكن صانعوها منك لا تفارقك أبداً... تحتل مساحة في ذاكرتك... تسترجعها بخاصة حين تحضر عروضاً أخرى لتعقد مقارنات... قد تبدو في بعض الأحيان صحيحة... لكنها حين تكون خارج شرطها الفني والفكري قد تبدو ظالمة بخاصة لأولئك الذين بذلوا جهوداً مضنية لإنجاح عرض ما ومع ذلك أخفقوا...
منذ سنوات والجميع يتحدثون عن أزمة في المسرح المغاربي وربما العربي... أزمة نص أم إخراج أم أزمة من هجر المسرح والتحق بموكب الدراما أم أزمة مال؟ ما هو موقع أو مكانة المسرح من الثقافة المغاربية والعربية السائدة وهل استطاع أن يأخذ دوره الحقيقي على ساحة الإبداع العربي؟! هذه الحالة التي تلقى الاستغراب والاستهجان من قبل المختصين والنقاد بالشأن المسرحي لم يخرج بنتيجة، فمازالت الأسئلة نفسها تسأل، والهم المشترك لكل الباحثين لم يعط أي نتيجة، ولاشك أن كل هذه الأزمات موجودة قبل كورونا ومستنسخاتها؟! إنكفاء المسرح المغاربي والعربي... والحقيقة أن المسرح مازال يناضل من أجل الحصول على مكانة ثقافية لها دورها الفاعل... والمسرح في تكوينه يستند إلى الأدب أولاً والقدرات البشرية ثانياً التي تقوم بالتشخيص أو بتمثيل الأدوار يضاف إلى ذلك الموسيقى والرسم وغيره... فالمسرح ليس فناً ذاتياً فقط أو موهبة وإنما هو صنعة لها أصولها ومدارسها.
وأما الانحطاط الذي أصاب بعض النصوص المسرحية المغاربية والعربية، فيعود سببه إلى الجهل بأصول المسرح الغربي أو عدم الالتزام بقواعده، وكذلك نرى أن عدم ارتباط المسرح المغاربي والعربي بالأصول والينابيع العالمية ساهم في تأخره أو ضعف وتيرة أدائه. كما أنّ جغرافيتنا وما أصابها من اعتداءات قد صبغ أدبنا المسرحي بصبغة سياسية أضعفت الدراما فيه لكنها جعلته أكثر التصاقاً بالواقع والحياة المعاشة، كما أيقظت التاريخ في الوجدان المغاربي والعربي المعاصر وبات المسرح ساحة لتجريب البحث عن الذات.
علينا أن نعترف، أنّ المسرح المغاربي والعربي مازال يقتات من مائدة المسرح الغربي دون تمييز في أساليبها وصلاحيتها لسلوكنا الثقافي المغاربي والعربي، رغم أنّ عدداً من الأكاديميين العرب الذين درسوا الإخراج المسرحي سواء في أوروبا الغربية أو الشرقية إلا أن التشخيص العربي مازال يبحث عن الشكل الذي يتناغم مع النص، والمسرح له علاقة بالمجتمع ويحتاج إلى قبول وتذوق من الجمهور لكنه بالمقابل ليس بحاجة إلى التنازل عن قيمه الفنية من أجل هذا القبول، كما أن المسرح إذا أراد أن يحقق النجاح فهناك شروط أخرى غير التأليف والتشخيص يحتاج إليها ومن أهمها الموسيقى والإضاءة والديكور والمكياج والملابس فهذه الشروط تشكل جزءاً من جماليات المسرح...
وهذه العناصر المساعدة لها شأن كبير في الثقافات العالمية لكنها مازالت ثانوية في المسرح المغاربي والعربي، وكثيراً ما شاهدنا ونشاهد عروضاً مسرحية ترافقها موسيقى أو مقطوعات موسيقية غربية لا تمت إلى جوهر العرض المسرحي بصلة، بينما نشأت في العالم موسيقى لها طابع درامي لاستكمال العرض المسرحي وهكذا نرى أنّ الموسيقى في المسرح المغاربي والعربي لا شأن لها بفعل الدراما.
وبما أن المسرح اكتساب إنساني عالمي فإن تأصيله في المشهد الثقافي العربي أمر بالغ الصعوبة ولكنه ضروري ويحتاج إلى إمكانات كثيرة وواسعة لتحقيقه ومعرفة تأصيله يجعل أو بالأحرى يعطي الثقافة المعاصرة غنى وثراء، كما أنّ العوامل المكونة للمسرح ومعرفتها هو الذي يقود إلى تقصي السلبيات والإيجابيات. إن ما يجعل المسرح جزءاً أصيلاً في الثقافة المغاربية والعربية المعاصرة لا ظاهرة مستوردة هو ربطه بالحركة التاريخية لثقافات المنطقة العربية القديمة والحديثة وأن يكون ابناً شرعياً لها وملتصقاً بواقعها ليعبر عن مسارها الفكري والحياتي بدلاً من أن يكون كما في النصوص المترجمة يعبر عن آمال وأحلام لا تمت إلى واقعنا بصلة... نحن نريد من المسرح أن يكون كالشعر العربي أصيلاً وكالرواية التي أخذت طريقها إلى التأصيل... نحن نريده أن يعبر عن همومنا وآلامنا بعيداً عن أي هدف تجاري... أي لا نريد مسرحاً تجارياً وإنما مسرحاً حقيقياً بأهدافه وطموحاته وكل مكوناته التي تجذب الجمهور وتستحوذ على احترامه.
ربما اليوم ونحن نتذكر المسرح بدولنا المغاربية والعربية ونحتفي به، بأطلاله، ببقاياه علينا أن نتذكر أن الإبداع الحقيقي سيبقى ومسرحنا أصيل وراسخ في تاريخنا، ولن نذهب في البحث عن جذوره في ثقافتنا وحضارتنا، فقد فعل ذلك باحثون بذلوا جهوداً متميزة أتت أكلها وأثبتت أن المسرح ابن هذه الحضارة، ولكننا لم نكن لننتبه إلى هذه الجذور التي أرادوا طمسها...
ومن هنا... لا بأس أن نعتبر يوم الذكرى هذا جرساً يقرع لشد انتباهنا جميعاً لهذا الإرث الحضاري الكبير، ولنقف ولنسأل من جديد: كيف نُطورُ المسرحَ في بلداننا المغاربية والعربية، ونرسخُ أساساتِه؟ العوامل عديدة، منها الجمهور ـ وهو حاضر ـ لكنه يريد مسرحاً لصيقاً بتطلُّعاته، من دون تعقيد.
مسرحٌ يستحضِر أحداثَه من واقعِ المجتمع، شريطةَ ألا يُحاصِرَها الشرطي الكامنِ في عقليةِ الرقيب. وهناك قاعات المسرحِ المتواضعة، والكاتب المسرحي والنصُّ المسرحي والممثلُ المسرحي. وهذه كلُّها، غائبة حاضرة في آن. فالمسرحُ لا يمكن ـ في وضعه الحالي ـ أن يغطي تكاليف حياة الممثل وسواه... فالنهضة المسرحية في بلداننا، ليست مُستحيلةً، وإن ظهرت صعوبات هنا أو هناك.
فتوفيرُ تكاليفِ العملِ المسرحي بعناصرِه كافة، يُمكن أن تبعثَ المسرحَ بعثاً حقيقياً، مع إنعاشِ المهرجاناتِ المسرحية... التي غابت اليوم! إنّ فرسان المسرح لا يزالون يسطرون بأقلامهم التحديات التي تواجه مسيرتهم، وبانتظار أن تلقى آذاناً صاغية في تعزيز ودعم المسارح وبناء المزيد منها والوقوف إلى جانب المسرحي في مهماته الجليلة في زمن نحن أحوج ما نكون للمسرح لأنه باق في النهاية مثل أي عجوز لا يريد أن يموت، مثل شخصية همنغواي في "الشيخ والبحر" مثل الحلم، ربما يموت أصحاب الحلم لكن الأحلام لن تموت رغم أن المسرح فن خُلق ووجد كي يموت في ذات اللحظة لانتهاء العرض وهذا ربما سر المسرح وسر خلوده.
اضف تعليق