هل لدينا نماذج نستلّها من واقعنا تقف إلى جانب ما نذهب إليه، لنأخذ على سبيل المثال ما يجري على مستوى المسؤولين خصوصا من ذوي الدرجات العالية، ألا نلاحظ أنهم يسعون إلى التنصل من مسؤولياتهم المختلفة، ثم ألم نلحظ هذه الظاهرة ثقافة التهرب من المسؤولية...
قد تكون الثقافة بمعناها المتعارف بعيدة عن مفردة التهرب، وقريبة من المسؤولية، حين نأخذ الثقافة من منظور إيجابي، ولكن الثقافة لا تختص بالأمور والأفكار والأفعال الجيدة فحسب، لأن هنالك ثقافات تنتمي للشر والأفكار والأفعال المسيئة، ويعرف العلماء المختصون الثقافة بأنها سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية، وتعدُّ مفهوما مركزيا في الانثروبولوجيا، يشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلم الاجتماعي في المجتمعات البشرية، ومفهوم الثقافة المادية يغطي التعبيرات المادية للثقافة، مثل التكنولوجيا، والهندسة المعمارية والفن، في حين أن الجوانب غير المادية للثقافة مثل مبادئ التنظيم الاجتماعي، الأساطير، الفلسفة، الأدب، والعلم تتكون من التراث الثقافي غير المادي للمجتمع.
ويُنظَر إلى الثقافة على أنها نتاج فكر ينعكس على السلوك، ولا يُشترط به أن يكون حسناً، فقد كان الشعور بالثقافة بصفتها سمة للفرد هو الدرجة التي يحققون من خلالها مستوى معين من التطور في الفنون أو العلوم أو التعليم أو الأخلاق، كما يُنظر أحيانا إلى مستوى التطور الثقافي على أنه يميز الحضارات عن المجتمعات الأقل تعقيدا، وتوجد أيضا وجهات نظر هرمية حول الثقافة في التمييز الطبقي بين الثقافة الرفيعة للنخبة الاجتماعية وبين الثقافة المتدنية أو الثقافة الشعبية أو الثقافة الفلكلورية للطبقات الدنيا ذات المستويات الركيكة من الوعي والتحليل والتبصّر.
أما الربط بين الثقافة والمسؤولية فهو نمط مقبول ومعمول به لأن الثقافة في لبِّها مسؤولية وتعني التزام المرء بقوانين المجتمع ونظمه وتقاليده، ولدينا المسؤولية الأخلاقية وهي حالة تمنح المرء القدرة على تحمل تبعات أعماله وآثارها، ومصدرها الضمير، وكل مسؤولية قبلناها، وارتضينا الالتزام بها فهي مسؤولية أخلاقية، والمسؤولية حال أَو صفة من يُسْأَل عن أَمْر تقع عليه تبعَتُه، فيُقال: "أنا بريء من مسؤولية هذا العمل"، وتطلق أَخلاقيا على: "التزام الشخص بما يصدر عنه قولاً أَو عملا"، وتطلق قانونياً على: "الالتزام بإِصلاح الخطأ الواقع على الغير طبقًا للقانون" وقيل: المسؤولية حالة يكون فيها الإنسان ملزَما بتبعاتها المختلفة، فالتهرب من تحمل مسؤولية الخطأ تنصل لا أخلاقي مرفوض لا تقبله القوانين ولا الأحكام السارية كونه يمنح البشر الخطّاء فرصاً كي يمرر أخطاءهُ بصيغ الخداع ويلقي بها على غيره .
هذه المقدمة تقودنا إلى ثقافة سلوكية نجدها موجودة في المجتمع العراقي، ونحن هنا لا نعمّم الحالة، لكننا لا يمكن أن نرفضها، أو ندير لها ظهورنا، فمن لا تعبأ به لا يعبأ بك، وإنْ تركنا الخطأ دونما علاج سوف ينمو ويكبر ويتعملق، وما نتطرق إليه في هذه المقالة محاولة لنسف ركائز التهرّب من المسؤولية، لأننا كعراقيين اليوم نحتاج إلى من يتحمل نتائج ما يقول وما يفعل، ونرغب أن نؤسس لثقافة بديلة هي ثقافة تحمّل المسؤولية والاعتراف بما يتسربل منها من صحيح وخاطئ.
هل لدينا نماذج نستلّها من واقعنا تقف إلى جانب ما نذهب إليه، لنأخذ على سبيل المثال ما يجري على مستوى المسؤولين خصوصا من ذوي الدرجات العالية، ألا نلاحظ أنهم يسعون إلى التنصل من مسؤولياتهم المختلفة عما وصل إليه حال البلد، ثم ألم نلحظ هذه الظاهرة " ثقافة التهرب من المسؤولية" منتشرة وتتسع لتشمل نسبة كبيرة من المسؤولين، حتى أخذ الإعلام وحتى المواطن البسيط يردد بصوت عالٍ بأننا نفتقد لثقافة تحمل المسؤولية، ونادرا ما يقدم مسؤول على الاعتراف بمسؤوليته وفشله من خلال إعلان استقالته مثلا؟.
قبل أيام أجريتْ مباراة بكرة القدم بين الفريق العراقي والفريق القطري ضمن نهائيات كأس آسيا التي تقام حاليا في الإمارات، وقد أقصيَ العراق من هذه البطولة بقدم لاعب عراقي مجنّس قطريا أو حاصل على الجنسية القطرية حين هز شباك حارس مرمى العراق من ضربة حرة، وبدلا من أن يعلن القائمون على المنتخب العراقي مسؤوليتهم عن هذه الخسارة الناتجة عن خلل في (إدارة المباراة فنيا وقلة اللياقة البدنية والمهارية بالإضافة إلى الأخطاء الإدارية الفادحة للذين يقودون الوفد العراقي وهم إتحاد الكرة العراقي)، تم صب غضب الجماهير على اللاعب المجنس قطريا لأنه سجل هدفا على بلده الأم العراق، وقد اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي سخطا ونقمة على اللاعب بسام الراوي الذي لم يولد في العراق ولم يعشْ فيه، بدلا من أن يتحمل مسؤولية الهزيمة إتحاد كرة القدم والطاقم التدريبي الفني، فماذا يمكن أن نفسر هذا النوع من التهرب؟، إنه لا ريب تهرب صارخ من تحمل المسؤولية، ليس هذا فحسب، ومحاولة إلقائها على طرف آخر لا يمكن أن نحمله مسؤولية الخسارة إذا أردنا البحث الدقيق عن المسبب الرئيس.
هكذا وصلت الأمور بمن يتصدى لقيادة الرياضة والشباب، فما بالك حين تتعلق المسؤولية بأخطاء سياسية أو اقتصادية أو تعليمية أو صحية أو إدارية وغيرها، هل يمكن أن نتوقع من المسؤولين أن يعلنوا تحملهم الأخطاء التي تقع في هذا المدار أو ذاك؟، وإذا كانت مردودات الخسارة الرياضية معنوية ونفسية فقط، فإن الأخطاء السياسية والاقتصادية وإدارة المال العام ستكون مادية ومعنوية في نفس الوقت، فهي ستنعكس على الناس ماديا حين تفرط بثرواتهم وفرصهم المختلفة، وتُلحق بهم خسائر مادية جسيمة، كما يجري في العراق.
ولدينا أمثلة كثيرة عن طرائق التهرب من المسؤولية، ما يجعلنا نصفها بثقافة السلوك الخاطئ الذي ينتشر في البنية المجتمعية ويتسرب منها إلى السياسية والإدارية في جوانب الحياة العراقية كافة، وها ما يدعونا إلى نشر وتسيير ثقافة مضادة تماما، وهي ثقافة تحمّل المسؤولية، وعدم الإلقاء بها على عواتق من لا علاقة لهم بها، وهذا بالإضافة إلى كونه قضية أخلاقية، فإنه يؤسس لمجتمع يرفض التدليس ويقاوم الزيف ويتحلى بالشجاعة، ويتعلم يوم بعد آخر عدم الخوف من مواجهة المصاعب أيا كان نوعها أو حجمها، إنها في الحقيقة ليست مسألة مقاضاة وتحديد مسؤولية فقط، بقدر ما تصبح ثقافة سلوكية يتحلى بها العراقيون في مواجهة مسؤولياتهم بشجاعة، فمن تكون له القدرة على الاعتراف بالخطأ ستكون لديه القدرة على تحمل المسؤولية مهما ثقلت موازينها.
اضف تعليق