قد يكون خفياً على كثيرين تصدي السيدة البتول سلام الله عليها لأول محاولة تحقيب للتأريخ تتقاطع مع مفهوم الامتداد القرآني الأمر الذي يؤثر سلباً لولا التصدي المذكور في متانة العلاقة بين المجتمعات الإسلامية والإسلام كدين وثقافة وهوية تلك العلاقة التي كانت مثاراً لاستغراب دعاة الفصل...
بقلم: عبد الله الفريجي
قد يكون خفياً على كثيرين تصدي السيدة البتول سلام الله عليها لأول محاولة تحقيب للتأريخ تتقاطع مع مفهوم الامتداد القرآني الأمر الذي يؤثر سلباً لولا التصدي المذكور في متانة العلاقة بين المجتمعات الإسلامية والإسلام كدين وثقافة وهوية تلك العلاقة التي كانت مثاراً لاستغراب دعاة الفصل الثقافي أو القطيعة المعرفية بين ثقافة الماضي (الإسلامية) وبين ثقافة الحاضر، وهو أمر لا شك يعني سلخ الشعوب عن هوياتها وعقائدها وثقافاتها الموروثة.
لقد علق بعض المعاصرين حين لمس بيديه فشل كل المحاولات الآنفة الذكر قائلا ما معناه كيف يمكن لنا إنجاز قطيعة معرفية مع الماضي على غرار القطيعة المعرفية في أوربا في عصر النهضة إذا كان عليٌّ (عليه السلام) وخصومه لا يزالون يعيشون معنا في كل مكان وكل لحظة.
وهنا برز لهذا الرجل كما ظهر لسواه أثر التصدي الفاطمي لجذر المحاولات التحقيبية البكر بعيد وفاة الرسول مباشرة حيث ادعى جهاز الخلافة فكرة (الرسالة الحالة غير القابلة للامتداد) بالاستفادة من فكرة (الرسالة غير قابلة للتكرار).
ولعلنا ندرك اليوم بوضوح أهمية ذلك التصدي الذي عطل مرور أول تحقيب وإلا لكن شهدنا اليوم مرور مشروع (الإسلام حقيقة تأريخية عظيمة جميلة زاهرة) لكنها تنتمي إلى حقبة مضت ولا نرتبط بها إلا كذكرى والفرق طبعاً بين الإثنين فقط في ضيق الدائرة وسعتها.
لقد أدركت البتول خطورة الفعل والفكرة وتصدت له وإعادة الربط الجدلي بين الإسلام الذي يرفض أي تحقيب في الزمن بين البعثة والقيامة ويراه زمناً واحداً بالدقة وبين المجتمعات الإسلامية.
لقد كان فعل السيدة البتول يهدف إلى إشباع الحاجة التي كان العقل السائد آنذاك ينوء تحتها وهي إلفات النظر إلى الأبعاد المستقبلية والنتائج المترتبة على المواقف بينما كان ذاك العقل بالكاد يهضم الأبعاد العامة للرسالة وهذا أيضاً لم يأت إلا بعد جهود مضنية بذلها الرسول(صلى الله عليه وآله).
لقد سعى الرسول (صلى الله عليه وآله) جاهداً لإقناع الجميع بالإحالة إليه كنموذج تطبيقي للقرآن مرسل من قبل الله ومنصب من السماء ولا يملك أي فرد خياراً إزاء هذه النموذجية رفضاً أو قبولاً وهكذا كانت الزهراء تكرر تجربة أبيها الفذ وتسعى لإجلاء الغموض عن حقائق الرسالة وأنها حالة ممتدة في العترة وهي أولهم.
فالإسلام أصلاً هو القرآن وحده وهو معد لاستيعاب فترة ممتدة من البعثة المباركة وحتى يوم القيامة الموعود وخلال هذه الفاصلة لا يمكن أن تعيش المجتمعات حالة سكونية بل لابد أنها تتطور والتطور يقتضي وجود فسح في الثابت الذي أعد سلفاً والقرآن كقوانين وتشريعات طبعاً لا بد أن يكون في عين ثباته مستوعباً للتطورات وعليه لابد من وجود نماذج تطبيقية قادرة على تطبيق النصوص على الحالات أو بالعكس. وإن إنساناً من هذا النوع لا بد أن يكون بكيفية خاصة مهيمنة على حركة التأريخ ومدركه لأبعاد النص.
إذن فالإسلام ينطوي على جدلية خاصة توائم بين الثابت الذي يراد بقاءه وبين المتحرك الذي يتغير تبعاً للظروف والتطورات وهذا يقتضي استمرار النموذج التطبيقي خلال كل فترة استمرار النص وهذا ليس فقط استنتاج بل أن حديث حلال محمد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة يفيد استمرارية النص وإن حديث العترة (عليه السلام)(1) يفيد ضرورة استمرار النماذج التطبيقية المحددة إلى يوم القيامة ولعلّ جميع المسلمون يعترفون استمرار باستمرار النص ويعترفون بالنموذج الأول الذي هو الرسول الأكرم ويعترفون كذلك بالمهدي آخر الزمان ويختلفون في النماذج الوسط.
لقد هدفت الزهراء في تحركها إلى فرض القبول بها وبزوجها وبنيها تبعاً للأدلة القرآنية والأحاديث الثابتة لدى الخصوم كنماذج تخلف الرسول في أداء الرسالة وفي حماية استمراريتها فسجلت الصدمة الأولى في النزاع فقد كان دورها رئيسياً في التصدي لما هوجم بيت النبوة وكما أنها لم تسكت على اغتصاب الخلافة من الإمام علي (عليه السلام) (2).
غير أن تصديها الواسع برز في قضية فدك(3) وفي هذا الأمر دلالة خاصة أوسع من كون فدك ملكية لها ورثتها من أبيها بل لأنها تحمل دلالة أكثر عمقاً، فقد كان ممكناً للائمة لعب دوراً رئيسياً في التوجيه والإرشاد حتى لو لم تكن لهم سلطة ولكن معها يكون الأداء أكمل لكن بعد فدك اتضح أن الخلافة تريد فصم العرى بين الأئمة والأمة وهذا يعني ضرب لصلب المهمة الإلهية ولهذا فإن السكوت هنا غير ممكن إطلاقاً، كما أن بداية السيطرة لم تكن تحتاج إلى أطروحة فكرية من نوع ما لأنها كانت «عثرة وقى الله شرها»(4)، لأن المحفل الذي تم فيه التنصيب كان خالياً من أي أطروحة فكرية بل حكم فيه السيف القرشي وانطوى لواء الحزب الأنصاري تحت الخلاف القبلي بين الأوس والخزرج وبالتالي حسم الأمر لصالح قريش.
لكن الشيء الذي لم يفطن إليه أولئك هو حقيقة أهل البيت (عليهم السلام) وأعلميتهم وهم طرف لم يدخل في نزاع السقيفة لذا فإنه سرعان ما يدخل ولهذا حينما فطن الخليفة إلى لوازم البقاء في السلطة رأى أن عليه أن يفرض البيعة على علي (عليه السلام) وبنفس الطريقة المباغتة وتم إنجاز الأمر كذلك لكن سرعان ما التفت إلى أن البيعة ليست كافية لإبعاد منافسين من هذا النوع ولهذا تقرر نزع فدك فجاء الأمر موجهاً مباشرة إلى فاطمة (عليها السلام).
وبدأت معركة فدك التي هي في الحقيقة معركة التحقيب الأولى في التأريخ الإسلامي وهنا يبرز لأول مرة إدعاء أن الرسالة حقبة بذاتها ولا يوجد لها امتداد وهذا يعني القول بامتداد النص ولكن بدون نموذج مفترض وعند انعدام التعيين فإن الاختيار هو البديل فالناس أحرار في تولية من يرضونه لكن اختيار الناس ما كان ليمنح الخليفة القدرة على توجيه الأمور لذا لزم الأخذ بنموذج آخر هو الصحابي وطرحت فكرة «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»(5)، وهنا شرط واحد هو كون الرجل صحابياً وما دام صحابياً فإنه نموذج صحيح ومقبول.
وهكذا نرى أن السيطرة على الخلافة صارت تجر معها لوازم متتابعة وكانت الزهراء(عليها السلام) عالمة بالمآل(6)، وكذلك اختارت التصدي وعلى العكس مما أثاره الخليفة من أن تحرك الزهراء إنما كان بتحريض من الإمام كانت الزهراء عازمة على التصدي وكل ما في الأمر أن الإمام استشارها وسألها عن عزمها فقال لها:
«- فاطمة لو أشرت عليك بالسكوت، أتفعلين؟
- والله يا أبا الحسن لو أنت أمرتني بالسكوت وكان يحق لي ذلك ولك السكوت لفعلت وما ترددت أبداً وأنت إمامي على كل حال، فمرني بأمرك امتثل.
- لا والله يا فاطمة ما كنت لآمرك بما لا يجوز ولا يليق بابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فيم تشير يا أبا الحسن؟
- أمض يا ابنة رسول الله إلى أبي بكر فطالبيه بحقك فمثلك لا يسكت عن الحق ولا يرضى عن باطل وإن كنت أعلم أنهم قد أجمعوا أمرهم على ظلمك وهضمك حقك كما أجمعوا أمرهم على ظلمي وهضمي حقي».
فثبت للإمام أنها ترفض الظلم وما كان الإمام وهو إمام أن ينهى عن مقارعة الظلم وليس وجهة الظلم الشخصي بل أطروحة ولعلنا نرى أن البعد الاجتماعي والبعد المستقبلي يبرز في خطبة الزهراء (عليها السلام) من خلال إثبات تجاوز الخلاف على شخصها المقدس وعلى القوانين الإسلامية.
ولقد اختارت الزهراء المواقف الواضحة التي لا يستطيع الخصم التملّص منها فالقضية هي قضية ملكية ومسائل الملك لا يشوبها خلاف كقضية الخلافة وما يتصل بها بل هذه قضية ارض بيد أصحابها أستولى عليها الحاكم وعندما انتهت القضية أعادتها بصورة أخرى هي صورة الإرث وإن الطرف هو فاطمة المقدسة التي لا يستطيع الخصم إنكار قداستها لذلك نراه يقف مواقف متناقضة فهو يقر بالقداسة لكنه يرفض الأقوال ومرة يقر بالإرث من جهة الحكمة والبيان ولكنه يرفضه من ناحية الدرهم والدينار(7) والنتيجة التي ترتب على ذلك هي نشوء ما نسميه بوادر وعي لدى فئة من الأمة يبدأ بالاتساع والعمق تدريجياً.
لقد حاول الخليفة أن يوجّه الطعن إلى ابنة رسول الله فيطالبها بالبينة: «ما بينتك ومن شهد لك»، فتقول «أمن بنت رسول الله تطلب بينة وعلى كلامها تريد شهود» «ما يميزك عن بقية الناس من أمة أبيك يا ابنة سيد الرسل والأنبياء» ولعل هذا المقطع بالذات يدور حول صلب النزاع فقد نزعت البتول إلى دفعه بالإقرار بأنها نموذج يحتذى وأنها ليست ككل الناس فرفض ذلك متجاهلاً له وتساءل السؤال السابق فردت عليه «أتجعل علمك جهلاً يا أبا بكر ألست تعلم مايميزني؟ يميزني كتاب الله تبارك وتعالى الذي تتلوه ليل نهار، أفما تجد فيه قول ربك: ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجل أهل البيت) »(8).
فالزهراء (عليها السلام) تمثل امتداد لا ينكره أحد للرسالة من ناحية الإرث التربوي وهو أمر طبيعي والإرث القانوني وتحدده قوانين الإرث في الإسلام فضلاً عن وراثة الصفات الطبيعية ولهذا فإن القوم الذين حضروا المجلس حينما رأوها تتقدم إلى المجلس أجهشوا بالبكاء لأنهم تذكروا مشية رسول الله (9) بمشيتها وثبت ذلك بالرواية المعروفة.
ومع كل ذلك فإن الفريق الخصم رفض هذا الامتداد وأقر بالتحقيب فهي ابنته ولكن لا يورثها ردهماً ولا ديناراً وهي ليست مقتدى مع أنها كما جاء في قول أبي بكر أنه يورثها حكمه لكنها لا تصل إلى درجة النموذج.
وهكذا يتوضح أن محور النزاع قائم على أساس فرضيتين: الأولى تقول بامتداد الرسالة من خلال العترة وأولهم الزهراء وزوجها علي (عليه السلام) ثم إلى ذريتهما موصولاً بالقيامة وأطروحة أخرى تقول بأن النبوة غير قابلة للامتداد لا عند الآل ولا عند الصحابة فالجميع هم أخيار ومقربون وبالتالي فإن الإرث الوحيد للرسالة يأتي عن طريق الاصطحاب والاستماع إلى الرسول والى علمه، غير أن الزهراء البتول تصدّت إلى هذا الطرح وأكدت تناقض الأسس التي يركن إليها ثم حركة التأريخ والتحولات التي حدثت فيما بعد أكدت النبوات التي وردت في خطبتها إذ سرعان ما حل السيف واستولى بني أمية على الأمور بالانتفاع من نظرية التحقيب ولم يتمكن من التصدي لهم إلا أهل البيت (عليهم السلام) نفسهم ولعل الكثير ممن سكت على هذه الأطروحة في بداية نشوئها التفت إلى ذلك فيما بعد وسعى إلى التصدي ولكن بعد فوات الأوان وضياع الفرصة وصار الشرخ يتسع تدريجياً ويتقدم لردمة أبناء الأمة حتى لم يعد يكفيه ردم حتى رأينا شكله المعاصر الذي يدعوا إلى اعتبار الإسلام برمته حقبة مرت وانتهت وعلينا أن نضعه إلى جانب الذكريات العزيزة.
سلام على البتول يوم ولدت ويوم تصدت ويوم استشهدت في سبيل الله وعلى بعلها وأبيها وبنيها (عليهم السلام).
اضف تعليق