ولأن الإسلام هو دين الحق وحجته أقوى الحجج فانه لا يهاب النقاش، وانما الضعيف الحجة هو الخائف من الحوار، لأنه في خضم الجدال يتضح الحق من الباطل، فلا داعي لاتخاذ أسلوب أصعب واشق مع توفر الاسهل. وأما مقولة أن الإسلام انتشر بالسيف، فلا تمت إلى...
الكون كله يسير نحو الكمال وما هذه الدنيا إلا مرحلة من مراحل الكمال، وكل مرحلة يمرّ بها فإنها خطوة نحو ذلك الهدف المنشود. وأكثر الخطوات خارجة عن اختيار الإنسان وإرادته، ولكن جعل له هامش حرية، ليكد ويكدح لذلك، مع اعطائه الادوات الكافية والكاملة.
والعقل هو اهم تلك الادوات التي ميزت الإنسان عن غيره، من سائر الموجودات.
والانسان في طريقه يحاول أن يختار افضل الطرق وأقصرها واقلها مؤونة وجهداً، فهو يبحث عن ذلك، ولو توصل إليه لاتبعه، وحينما تطرح مجموعة كثيرة من الأفكار والرؤى فلو أراد اختيار اصحها واحسنها يلزم عليه أن يستمع اليها جميعاً ثمّ يقلب الوجوه والآراء ويختار الافضل، ولكنه إذا اغلق عقله وفكره على كل جديد وكل رأي، فانه سيتوقف في مكانه وينتج من ذلك الجمود والتخلف وفي الحديث الشريف (من لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان اقرب)(1). بالإضافة إلى الضعف الذي يصيب الفكر المنغلق وعدم مقاومته أي تيار فكري آخر، فالجسم السليم هو الذي يلقح بالجراثيم ـ في عمليات التلقيح ـ ليتعود على مقاومتها وطردها، في حين أن الجسم غير الملقح لا يقاوم ويكون عرضة لمختلف الأمراض والاخطار.
ومن هذا المنطلق امر الله تعالى الاستماع إلى القول واتباع أحسنه (الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه) (2)، ومن معاناة المصلحين هي أن مجموعة من العوامل الاجتماعية كاتباع الآباء ومصالح الملاء والخوف من التغيير، كانت تغلق أفكار الأقوام عادة فهم (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها) (3)، فتكون درجة هؤلاء دون درجة الانعام، لأنها تستفيد من كل القوى التي أعطيت، في حين أن هؤلاء عطلوا أهم شيء حبوا به.
والآيات المتعددة التي تذكر حجج المبطلين ثم تفنيدها، ما هي إلاّ طريقة مدروسة للإرشاد ولفتح عقول الإنسانية على تحري حالة الحوار والجدال السليم، والأنبياء عليهم السلام حتى وهم في أوج القدرة والسلطة لم يحاولوا أن يستفيدوا منها لإخضاع الآخرين لتعاليم السماء، بل استمروا في النقاش والحوار، وتاريخ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومحاوراته مع اليهود والنصارى والمشركين شاهد على ما ذكرناه، قال تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) (4).
ولأن الإسلام هو دين الحق وحجته أقوى الحجج فانه لا يهاب النقاش، وانما الضعيف الحجة هو الخائف من الحوار، لأنه في خضم الجدال يتضح الحق من الباطل، فلا داعي لاتخاذ أسلوب أصعب واشق مع توفر الاسهل.
وأما مقولة أن الإسلام انتشر بالسيف، فلا تمت إلى الحقيقة بصلة، لأن القوة لا تغير القناعات بل تظهر القناعة بمجرد أن يرفع السيف.
وما اجتياح المفعول وعدم ثبات شريعتهم إلاّ تأييد لعدم تغيير السيف للقناعات.
والصحيح أن المسلمين لم يجبروا أحداً للدخول إلى الإسلام في أيّ بلد من البلاد المفتوحة، بل اكتفوا بأخذ الجزية من الكفار وهي الضريبة مقابل حمايتهم والدفاع عنهم، كما تؤخذ الزكاة والخمس من المسلمين، وانما تلك الشعوب دخلت إلى الإسلام طواعية بعد أن رأت أنّ الإسلام هو دين الخلاص وأنه الحق.
ويشهد له وجود الاقليات الدينية على طول تاريخ المسلمين في بلاد الإسلام، بل يذكر المؤرخون أن الكثيرين دخلوا الإسلام إبان ضعف الدولة الإسلامية وانهيارها.
والفتوحات الإسلامية وإن حصلت بالسيف لكنها لم تسلط السيف على رقاب البلاد المفتوحة لتغيير عقيدتها. وحينما انحرف حكام المسلمين عن الطريق القويم، ولم يحاولوا اقناع الناس بالإسلام واكتفوا بالفتوح بالقوة ومعاملة أهالي البلاد المفتوحة بالعنف، نرى أن الإسلام لم ينتشر في تلك الربوع وانكفأ وتراجع، وكمثال على ذلك الفتوحات العثمانية في البلقان لم تغيير من معتقدات سكان تلك المناطق، بل زادتهم تمسكا بهويتهم ودينهم، مع أن العثمانيين من أكثر السلطات دموية وحكومتهم دامت في البلقان أكثر من اربعمائة سنة، لأنهم تعاملوا مع الناس من منطلق السيف دون المنطق السليم وحينما وصلت الحكومة العثمانية إلى نهاية منحنى النزول استعادت تلك الشعوب هويتها واستقلّت متمسكة بعقائدها الباطلة.
بل إن بعض تلك القوميات حاولت الانتقام لما لحقها من ذل وهوان وظلم، فكلما سنحت لها فرصة نكلت بالمسلمين الابرياء واضطهدتهم، مع أن هؤلاء المسلمين لا دخل لهم بالظلم الذي لحق بـــهؤلاء، وانما الظلم نشأ من الحكومة العثمانية المنتحلة للإسلام.
اضف إلى ذلك انحراف كثير من المسلمين عن الطريق القويم والانجراف في تيارات الشرق والغرب والاحزاب الملحدة، ظناً منهم أن التأخر نشأ من الإسلام ذاته غافلين عن حقيقة جوهرية وهي أن المسلمين حينما عملوا بالإسلام تحولوا من جماعات متخلفة إلى سادة العالم وحينما تركوه اصابهم ما اصابهم.
والقرآن الكريم حينما يذكر أي حكم أو واقعة، يبين سبب ذلك، ليكون الائتمار أو الانتهاء عن قناعة ومن محفز داخلي و حقيقي فحينما ينهى عن شرب الخمر يقول (انما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) (5)، وحينما يأمر بالصلاة يقول (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (6)، وحينما ينهى عن الشرك، وعبادة الاصنام، والتطفيف في الكيل والميزان والظلم والبغي والقتل و... يعقبه بذكر قصص الأقوام الذين ارتكبوا هذه الأعمال وغيرها والعاقبة السيئة الطبيعية التي اصابتهم، وما ذلك إلاّ لما ذكرناه من أن الإسلام دين المنطق لا دين السيف.
وفي الصراعات الدائرة وفي الجولة النهائية ينتصر المنطق السليم كما يقول الله تعالى (هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (7)، وهذه الآية الشريفة وإن كان فيها اشارة إلى ظهور الامام المهدي، حيث إن الاظهار في القرآن بمعنى الغلبة العسكرية أو السيطرة، لكن فيها اشارة أيضاً إلى أن الهدى والحق ـ المتمثل في الإسلام ـ هو الذي ينتصر في نهاية المطاف على جميع الطرق والاديان الاخرى.
وحتى في ظهور الإمام المهدي توجد عوامل الاقناع للناس أكثر من العوامل الغيبية ـ على كثرتها ـ، فهذا نزول عيسى وصلاته خلف المهدي الذي تواترت روايات الفريقين فيه(8).
ولعل اختيار عيسى لهذه المهمة من بين جميع الأنبياء، لأجل اقناع اليهود والنصارى بحقيقة الإسلام وخليفة الله في الأرض وهو المهدي، لأن اليهود ينتظرون عيسى والنصارى يؤمنون به.
وهذا امر يسهل دخول الناس في دين الحق بلا اكراه ولا استنزاف قوى.
ولو تصفحنا تاريخ الثورات نرى أن التي قامت منها على اساس الفكر والحوار هي التي وصلت إلى اهدافها واستمرت في العطاء في حين أن التي قامت على خلفية اللامنطق انحرفت عن مسيرها وكثيراً ما زالت بثورات اخرى.
مثلاً الحركة الاصلاحية في الهند التي قادها غاندي قامت على اساس الفكر والمنطق، ورغم أن الاديان واللغات والعادات مختلفة ومتباينة اشد البون، ورغم ما خلفه الاستعمار من تجهيل، والذي يهيئ الارضية المناسبة للانحراف، فإن حجر الاساس لتلك الحركة هو منطق اللاعنف والذي جعل تلك الحركة تنجح وتستمر إلى يومنا هذا رغم مضي أكثر من خمسين عاماً.
ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة حيث لم يجبر احداً على الدخول في الاسلام، امتثالاً لقوله تعالى (لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (9) فإن تبين الرشد من الغي هو بالمنطق السليم والمنطق الصحيح، فلا حاجة إلى اكراه احدٍ في الدين، بل من له عقل سليم يتبع الرشد، ومن لا عقل له لا فائدة من اسلامه حتى يكره عليه، فإنهم (اجدر ألا يعلموا حدود ما انزل الله على رسوله)(10).
وكذلك لنا اسوة حسنة بأمير المؤمنين حيث لم يبدأ الخوارج بقتال بل استمر في الاحتجاج إليهم واقنع كثيراً منهم فرجعوا إلى الصواب، ومن تبقى منهم معانداً لم يتعرض عليهم حتى بدأوا هم بالقتال فقاتلهم دفاعاً، كما أنه لم يقاتل معاوية إلا بعد أن ارسل إليهم جرير وحاججه.
وعلى كل حال فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها تجعل من الإنسان يميل إلى الصحيح مهما كان، شرط أن يتضح له الأمر، والحوار والنقاش هو الأساس في ذلك حيث يتبين فيه الخيط الاسود من الخيط الابيض قال تعالى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي احسن الا الذين ظلموا منهم) (11) والمقصود من الذين ظلموا منهم، الذين لا تنفعهم الحجج واغلقوا فكرهم وعقولهم بل عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وجردوا السلاح امام الرسول والحق فانه لا ينفعهم المنطق لينتهوا عن غيّهم بل يجب الدفاع عن النفس في مقابلتهم بنفس الطريقة التي اتبعوها.
وختاماً: فإن الدعوة إلى الحوار والنقاش ليس معناها التنازل عن المبادئ الإسلامية استمالة لجهة من الجهات فإن هذا مرفوض ويعتبر من المداهنة المنهي عنها، كما أن الحوار ليس معناه الدخول فيه لمجرد الحوار من دون هدف متوخى في الامر بل لمجرد النقاش، فإن مضار ذلك كثيرة منها إثارة الفتنة، والتشكيك من دون مبرر، خاصة وان هناك هجمة استعمارية على الإسلام و التشكيك في معتقداته وذلك لطرح افكار وضعية بديلة عن الاسلام، فطرح المسائل مبهمة ومن دون تحقيق وتمحيص ومن دون أخذ قاعدة ثابتة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، انزلاق في ذلك المطلب.
والصحيح هو أن ندفع بالتي هي احسن وأن نطرح المسائل من قاعدة ثابتة وبعد تحقيق وإجابة عن الشبهات، دون ترك الشبهة بلا اجابة حتى تتفاعل مع بعض السذج فينحرفوا عن الجادة المستقيمة.
اضف تعليق