تعتبر غزوة بدر الكبرى، أولى المعارك الفاصلة في الإسلام، وبداية المواجهات الحاسمة بين المسلمين -أنصاراً ومهاجرين- وبين المشركين من أهل مكة.
وقد وقعت هذه المعركة الحاسمة يوم الجمعة في السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة النبوية (الموافق لشهر آذار من سنة 624 ميلادية).
كان رسول الله (ص)، قد ندب أصحابه -ولم يعزم عليهم- أن يهبوا معه، لاعتراض قافلة تجارية لقريش، يقودها رأس الكفر أبو سفيان، ويحرسها رجال لا يزيدون عن أربعين فارساً، فخرج مع رسول الله (ص) من المهاجرين والأنصار ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً بلا عدّة ولا استعداد، وإذا بهم يقفون وجهاً لوجه أمام ما يقرب من ألف رجل من صناديد قريش، مدججين بالسلاح، غاطسين في الحديد، محاطين بكل وسائل الرفاهية والخيلاء، تحف بهم النساء، وتعزف لهم القيان، وتقرع أمامهم الدفوف والطبول، وتقدم لهم أنواع الأطعمة وأصناف الشراب. أما القافلة فقد راغ بها أبو سفيان عن الطريق، ومال بها عن أن تقع غنيمة في أيدي المسلمين.
نجت العير، وأقبل عوضاً عنها النفير، وأي نفير!!. وكانت المعركة الفاصلة، التي خلدها الله سبحانه وتعالى في كتابه الخالد، وتركها آيات تتلى أبد الدهر:
(لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين) آل عمران: 123 - 127.
(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) الأنفال: 5 - 8.
ولسنا نريد هنا أن ندخل في تفاصيل أحداث غزوة بدر ومجرياتها، وإنما نكتفي فقط بالإشارة إلى بعض القضايا المهمة:
القضية الأولى
تروي كتب السيرة التي بين أيدينا اليوم -قديمها وحديثها- أن رسول الله (ص)، حينما جمع أصحابه وطلب مشورتهم ورأيهم في قتال المشركين، لم يترددوا في الاختيار، وأجمعوا على المواجهة، لم ترهبهم عدة المشركين ولا عددهم، أو على الأقل هكذا يفهم من روايات تلك الكتب.
وهذا في الحقيقة مخالف تماماً لما ورد في آيات القرآن الكريم عن تلك الغزوة، ومخالف أيضاً للنزعة البشرية في مثل هذا الموقف.
ونحن إذا أعدنا تلاوة الآيات التي تتحدث عن أحداث غزوة بدر، وأمعنا النظر فيها، تتضح لنا حقيقة مواقف المهاجرين والأنصار، ما خفي منها في ضمائرهم، وما ظهر على ألسنتهم.
لقد كان فريق من المؤمنين كارهين للقتال كرهاً شديداً، ولقد جادلوا النبي (ص) -كما يقول القرآن- جدالاً غير قصير، مظهرين خوفهم من قريش وقوتها، وعدم استعدادهم -لا عسكرياً ولا نفسياً- للقتال والمواجهة، مدافعين عن وجهة نظرهم بقوة، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
ولقد بين لهم الرسول (ص)، أن الله تعالى قد وعده إحدى الطائفتين - إما الفوز بالعير وما تحمل على ظهورها من بضائع وأموال، وإما النصر على النفير وما ينتج عن ذلك من رفع معنويات المؤمنين، وكسر جبروت المشركين - وإذ فاتتهم العير ونجا أبو سفيان بالقافلة، فلا بد إذن أن الوعد الإلهي منصب على النصر في المواجهة مع الذين نفروا من قريش لاستنقاذ القافلة، فلما علموا بنجاتها أصروا على التحدي، وصمموا على مواجهة المؤمنين، في حرب كل الظواهر السطحية تؤكد أن الغلبة فيها ستكون لهم، وكان يقود هؤلاء القطب الثاني للشرك وهو أبو جهل عمرو بن هشام.
لكن أصحاب رسول الله (ص) -أو البعض منهم على الأصح- كانوا يؤثرون السلامة، ويودون الفوز بغير ذات الشوكة، أي بالعير التي تحمل الأموال والتجارة، والتي لم يكن معها قوة مرهوبة قادرة على حمايتها، ولقد أصر هؤلاء على موقفهم وعدم رغبتهم بقتال أصحاب الشوكة.
ويخطو الرسول الحكيم (ص) مع أصحابه هؤلاء خطوة أخرى، فيخبرهم بوعد الله بمدد ملائكي، ويسألهم: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف أو حتى خمسة آلاف من الملائكة؟! ويبين لهم النبي تبعاً للقرآن الكريم، أن ذلك ليس إلا بشرى لهم بالنصر، وتطميناً لقلوبهم بهزيمة الكفر، لينشطوا من عقال الخوف والهلع، ويتحرروا من ربقة الرعب والفزع، فيهبوا إلى القتال، ويدخلوا المعركة بقلوب مطمئنة، وزنود قوية ثابتة، ليقطع الله بهم دابر الكافرين، أو على الأقل، يكبتهم ويخيب آمالهم بالنصر، وظنونهم بالغلبة، وبذلك يحق الله الحق ويبطل الباطل.
لقد كنت -في الحقيقة ولفترة طويلة- أقف حيران أمام هذا التناقض الغريب بين حقائق الآيات وغوامض الروايات، بين ما توحيه آيات القرآن وما تخفيه نصوص كتاب السّير النبوية، حتى وجدت في شرح نهج البلاغة للعلامة المعتزلي عبد الحميد بن أبي الحديد، أن رواية الواقدي في كتابه المغازي، تذكر أن رجلاً من المهاجرين، وقف في ذلك اليوم، يراجع النبي (ص) ويجادله، ويحاول أن يثنيه عن القتال، ويحذر من قوة قريش وخيلائها، وأن المسلمين لم يخرجوا للحرب، ولا اتخذوا لها أهبتها.
وقد ذكر الواقدي طرفاً مما قاله ذلك الرجل: (يا رسول الله إنها قريش وغدرها، والله ما ذلّت منذ عزّت، ولا آمنت منذ كفرت، ووالله لا تُسْلِمُ عزَّها أبداً، ولتقاتلنَّكَ فاتَّهِبْ لذلك أهبته، وأعِدَّ لذلك عدته) (1).
إنه تخويف وتخذيل في إهاب نصح ومشورة!. ومن المؤكد أن رأي ذلك الرجل، يفصح عن آراء معظم المهاجرين، حيث قام منهم رجل آخر فكرر ما قال الأول، وسكت الباقون.
اربدّ وجه رسول الله (ص) من مقالة هذين الرجلين، وأعرض بوجهه عنهما مفسحاً المجال لأصحاب الآراء الأخرى، وهنا انبرى المقداد (رضي الله عنه) يعبر عن قسم آخر من المهاجرين المندفعين لطاعة الله ورسوله في كل الظروف، ومهما كانت الأحوال، قال المقداد بن عمرو: (يا رسول الله، امض لأمر الله، فنحن معك) (2)، وانبرى سعد بن معاذ، فأفصح عن موقف الأنصار، وقال: (امض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر، وخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وإنا لا نكره أن نلقى عدونا غداً، وإنا لصُبُرٌ في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك) (3).
وحقاً قرت عين رسول الله (ص)، وتهلل وجهه الشريف بالبشر لقول المقداد وقول سعد، وأسقط في يدي ذينك الرجلين وأيدي من على شاكلتهما، وصدر الأمر من الرسول، واندفع المسلمون -مهاجرين وأنصاراً- وكانت غزوة بدر الكبرى، وكان النصر المؤزر للمسلمين، والهزيمة الكبرى للمشركين، تماماً كما وعد الله ورسوله.
بهذا تكون الصورة قد وضحت تماماً، وأزيل اللبس، وفهمنا الموقف على حقيقته. ولا يهمنا من هما الرجلان اللذان أراد كتّاب السير -تبعاً لرغبة حكام وملوك أزمانهم- أن يخفوا اسميهما، ولكن يبقى أمامنا أن نقول تعقيباً على ما مر:
إن من الغريب حقاً أن يلجأ كتاب التاريخ، ومؤلفو السير النبوية إلى الإسقاط والزيادة، والتزوير والتحريف، والتقديم والتأخير، باسم التهذيب والتشذيب تارة، والتقويم والتصويب تارة أخرى، والاختصار والإيجاز تارة ثالثة، وفات هؤلاء أن القرآن الكريم المعصوم عن الزيادة والنقص، المحفوظ من التزوير والتحريف، سيكشف سقطتهم ويفضح خطلهم وخطأ منهجهم، وفاتهم -وهو الأهم- أن الأفضل لأجيال المسلمين أن يعرفوا وقائع التاريخ كما هي، وأن من حقهم أن يقرأوا أحداثه بلا تزويق ولا تجميل، لتكون العبرة الكاملة، ويكون الدرس بليغاً ومفيداً، وأنه لا ضير على رجال أن تتملكهم في حال من الأحوال أو ظرف من الظروف نوازع بشرية معينة، فالبشر دائماً هم البشر بجميع دوافعهم ونوازعهم، الظاهرة والمستترة، وأن النصح للأجيال خير وأهم من ستر أحوال الرجال، وتلبيس الحوادث بما يدفع إلى تأويل التنزيل ليتناسب مع المواقف.
إذن، لقد كان موقف بعض أصحاب رسول الله (ص) متخاذلاً مخذلاً، وبصبر رسول الله وحكمته، وبالتشاور والحث والتحريض والتشجيع، واستنطاق آراء الآخرين، تكامل الموقف عند المسلمين الأوائل، واستطاعوا التغلب على بعض مخاوفهم وهواجسهم، ونوازعهم ودوافعهم، وتمكنوا من الاستجابة لأمر الله ورسوله والاندفاع في معركة، ليس فيها - ظاهراً - أي نوع من التكافؤ والتوازن، متسلحين بالإيمان بالله ورسوله، واثقين بالنصر... وكانت معركة بدر التي قضت على كبرياء قريش وخيلائها وعزها الموهوم، ومحت من الأذهان أسطورة القوة المادية الغاشمة، وترادُفِ الرجال وتراكُمِ السلاح، وأفسحت المجال لظاهرة الإمداد الغيبي، وهكذا كانت معركة بدر -رغم تخاذل المتخاذلين وتخذيل المخذلين- منطلقاً لقوة الإيمان الذي أبرز البطولات المعجزة، والتضحيات بلا حدود، وكان لذلك النصر المؤزر أثره الحاسم في كل ما جاء بعد تلك المعركة من غزوات وحروب.
وما أشبه اليوم بالبارحة، والحال هو الحال، والمخذلون والمتخاذلون كثر، وأول الطريق خطوة، ثم يأتي المدد ويكون النصر بإذن الله.
القضية الثانية
قال الواقدي في مغازيه: (ولقد كانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت رؤيا أفزعتها، وعظمت في صدرها، فأرسلت إلى أخيها العباس فقالت: يا أخي لقد والله رأيت رؤيا أفزعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عليَّ ما أحدثك منها. رأيت راكباً أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح(4)، ثم صرخ بأعلى صوته: يا آل غدر انفروا إلى مصارعكم في ثلاث، فصرخ بها ثلاث مرات، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة، فصرخ مثلها ثلاثاً، ثم مثل به بعيره على ظهر أبي قبيس(5) فصرخ بمثلها ثلاثاً، ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارفضَّت(6)، فما بقي بيت من بيوت مكة، ولا دار من دورها إلا دخلته فِلِزَّة منها، فقال العباس: إنها لرؤيا. ثم خرج مغتماً، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة - وكان له صديقاً - فذكرها له واستكتمه، ففشا الحديث في الناس، فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب أما رضيتم بأن تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم؟! زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا وكذا؟ فسنتربص بكم ثلاثاً فإن يكن ما قالت حقاً فسيكون، وإن مضت الثلاث ولم يكن، نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب، فما مضت الثلاث حتى سمع صوت ضمضم بن عمرو -مبعوث أبي سفيان إلى قريش، وهو في بطن الوادي وقد جدع أذني بعيره، وشق قميصه قبلاً ودبراً، وحوّل رحله- يصرخ وينادي: يا معشر قريش، يا آل لؤي بن غالب، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه.. الغوث الغوث، والله ما أرى أن تدركوها... وأشفقت قريش لرؤيا عاتكة، وسرّ بنو هاشم وقال قائلهم: زعمتم أنا كذبنا وكذبت عاتكة؟!)(7).
هذه واحدة، وأما الثانية، فإن المشركين أرادوا أن يزيلوا عن أنفسهم آثار الرعب الذي دخل نفوسهم من رؤيا عاتكة وظهور ضمضم بن عمرو في اليوم الثالث يستنفرهم لنجدة القافلة، فلجأوا -كعادتهم- إلى الاستقسام بالأزلام عند صنمهم هبل، فاستقسم أمية بن خلف وعتبة وشيبة بالآمر والناهي من القداح، وصدف أن خرج لهما الناهي. واستقسم زمعة بن الأسود فصدف أن خرج له الناهي، واستقسم جماعة آخرون فلم يجدوا من قداحهم ما يشجع على الخروج، وكان عليهم حسب معتقداتهم الزائفة أن لا يخرجوا، لكن المتحمسين منهم كأبي جهل وأمثاله أصروا على الخروج، وأكرهوا غيرهم عليه(8).
وهناك ثالثة يرويها الواقدي في مغازيه فيقول:
(قال حكيم بن حزام: ما توجهت وجهاً قط كان أكره إليَّ من مسيري إلى بدر، ولا بان لي في وجه قط ما بان لي في بدر قبل أن أخرج. قدم ضمضم فصاح بالنذير، فاستقسمت بالأزلام كل ذلك يخرج الذي أكره، ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مرَّ الظهران، فنحر ابن الحنظلية جزوراً فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه، فكان هذا بيّنة وهممت أن أرجع، ثم مضيت لوجهي ولم أرجع، فلما بلغنا الثنية البيضاء، إذا عداس جالس عليها والناس يمرون، فلما مرّ به ابنا ربيعة وثب إليهما وإن عينيه لتسيلان دمعاً على خديه، وأخذ بأرجلهما وهو يقول: بأبي أنتما وأمي، والله إنه لرسول الله، وما تساقان إلا إلى مصارعكما، فأردت أن أرجع ثم مضيت لوجهي) (9).
الحديث يطول، فهناك من البينات -غير الثلاث التي ذكرنا- رابعة وخامسة وسادسة، لكن الكفر والشرك كانا قد شحنا بالغيظ صدور القوم، والمصالح المادية والمطامع الدنيوية كانت قد أعمت قلوبهم، وأسدلت الغشاوة على أبصارهم وبصائرهم، فأفقدتهم تلمس الصواب، وحجزتهم عن اتخاذ القرار الأسلم، فخرجوا إلى مصارعهم - غير مبالين برؤيا صادقة من عاتكة، ولا بصدفة عمياء من قداحهم التي كانوا يؤمنون بها ويطيعونها، ولا بتوسلات عداس ودموعه الصادقة - وأصرّوا على الحرب، تقودهم عنهجيتهم، وتسير بهم كبرياؤهم وتعنتهم إلى ما قدر الله سبحانه وتعالى لهم.
والكفر ملة واحدة، والكافرون قديماً وحديثاً هم الكافرون، أبعد ما يكونون عن اتباع الطريق السليم، واتخاذ القرار الصائب، وهم في صراعهم مع الإسلام والحق، إنما يسيرون إلى مصارعهم بأيديهم، وستهلكهم مكائدهم وخططهم (يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) الأنفال: 30.
ولن يكون نصيبهم اليوم وغداً، إلا كما كان بالأمس، الهزيمة المحتومة في الدنيا، والنار في الآخرة، وهم كانوا وما زالوا يمضون إلى قدرهم المؤكد.
(قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم) التوبة: 14 - 15.
(قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون. قل هل تربَّصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بنار من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنَّا معكم متربصون) التوبة: 51 - 52.
(هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) الحشر: 3.
القضية الثالثة
عندما استقر رأي المسلمين على خوض المعركة، طاعة لرسول الله (ص)، وثقة منهم بنصر الله وإنجازه وعده لنبيه، دفع رسول الله رايته إلى ابن عمه وأخيه علي بن أبي طالب (ع)، وأعطى لواء المهاجرين لمصعب بن عمير، ولواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر، ولواء الأوس إلى سعد بن معاذ.
ولما تقابل الفريقان في بدر، برز من المشركين عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فنادوا: يا محمد أخرج لنا أكفاءنا من قومنا. واستجاب رسول الله (ص) لتحدي المشركين، ونظر حوله في المسلمين، ثم قال: قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن أبي طالب، فقاموا جميعاً مسرعين مستبشرين، واتجهوا نحو متحدّيهم من مشركي قريش، بقلوب عامرة بالإيمان، ونفوس طيبة بلقاء الله، تسترخص كل شيء في سبيل إعلاء كلمة الله، وظهور دين الإسلام، أما حمزة فلم يمهل شيبة حتى قتله، وقتل عليّ الوليد بن عتبة، واختلف عبيدة وعتبة ضربتين أثخنت كلاً منهما، وشد حمزة وعلي على عتبة فقتلاه وأجهزا عليه، وعادا بعبيدة إلى رسول الله (ص)، فكانت تلك المبارزة بين بني ربيعة وبني هاشم آية ومفتاحاً لنصر المؤمنين وهزيمة المشركين.
وهكذا فإن للنصر أبداً صانعوه، الذين ارتفعوا عن المادة، وجبلت طينتهم من شعلة الإيمان، وشع في قلوبهم نور اليقين، وبانت في سواعدهم عزائم الصدق، وما النصر إلا من عند الله، يخطه على أيدي أوليائه.
هذه هي أسلحة النصر
إنها قوة الإيمان، وصدق اليقين، ومضاء العزيمة، ورسوخ العزم والإرادة.
ولن يكون النصر أبداً بكثرة العدد، ولا بوفرة السلاح، ولا بأكداس الأموال.
(لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين. وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) التوبة: 26 - 27.
اضف تعليق