لم يكن من الممكن لروّاد النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر الميلادي أن يكسروا قيود الجهل والتخلف، ما لم يقضوا بشكل حاسم ونهائي على الحلف (غير المقدس) بين الملوك والكنيسة، ومن هنا كان تسجيل التاريخ لذلك الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية (اشنقوا آخر الملوك بأمعاء آخر القساوسة).
وكان من أول نتائج هذه الثورة إقصاء الدين عن الحياة نهائياً في الغرب كله، وحذف مفاهيمه وقيمه من القلوب والعقول، وخاصة عندما بدأت تظهر للوجود - بشكل واضح - تباشير النور، وانزياح جيوش الظلام المتمثل بالجهل والتخلف والتعصب الذي كانت ترعاه الكنيسة في الغرب.
إن فصل الدين عن الدولة والمجتمع في الغرب، أدى إلى إحلال الرابطة القومية محل الرابطة الدينية، وإلى تفكيك الروابط الأسرية، وروابط القربى والنسب والدم - فيما بعد - لصالح المجتمع من طرف، ولصالح النزعة الفردية والمصلحة الشخصية - فيما سمي بالحرية - من طرف آخر، وإلى انحسار سلطة الكنيسة على العلم والفكر، وفتح الطريق لنقد الفكر القديم القائم على المثالية والإيمان، والسعي لتشكيل منهج جديد قائم على الحس والعقل.. ذلك المنهج الذي انتهى إلى المادية الحالية..
نحن لا نريد أن نبرر لرجال النهضة الأوربيين نبذهم للدين بسبب تصرفات ومواقف الكنيسة، لكننا لا يمكن أن نغفل - في المقابل - عن الأصفاد والأغلال الثقيلة التي كانت الكنيسة تغل بها العلم والعقل باسم الدين، تلك القيود التي اعتبرت الكابوس البشع الذي كان جاثماً على صدر الفكر والعقل، مما دفع إلى التمرّد وإعلان النفير ضد كل المفاهيم والقيم الدينية التي نشرتها الكنيسة، كما لا نريد أن نبخس الجهود التي بذلت - بعد ذلك - في التنوير وإقامة المنهج العقلي في الغرب، واحترام الفكر الإنساني ودفع العلم إلى أقصى مدياته المتاحة.
إنما نريد أن نسجل هنا الفارق الكبير بين موقف الكنيسة الغربية وموقف علماء الإسلام من العقل والعلم، وأن نوجه اللوم إلى مثقفينا ورجال الفكر لدينا الذين اتبعوا - دون روية - كل خطوات الأوربيين في نبذ الدين وقيمه وإقصائه عن الحياة وفصله عن المجتمع والدولة، رغم تباين مواقف الدينين من العلم والعقل، غير مترددين ولا غافلين عن أن نسجل هنا كذلك أن بعض المتظاهرين بزي رجال الدين في العالم الإسلامي كانوا - فعلاً وواقعاً - يشكلون مع السلاطين حلفاً يشابه في بعض جوانبه حلف الملوك والكنيسة في الغرب، وقد بدأ هذا الحلف بالانحراف عن الإسلام في موقفه من العلم والعقل، متأولين بعض النصوص الدينية فيما يخدم أهدافهم ومصالحهم، لكن ذلك لم يشكل الظاهرة العامة والدائمة التي تبرر لمثقفينا ورجال الفكر لدينا السعي إلى الإطاحة بالإسلام وقيمه ومفاهيمه السامية كما حصل في الغرب.
الحداثة في الفكر والأدب
في الحقيقة والواقع، يكاد يكون لكل قديم حديث، بحيث أن كل حديث سيصبح في يوم ما قديماً. إنها سنة إلهية في الكون لا تتخلف، فكل مرحلة لاحقة من مراحل البشرية تعتبر حديثة بالنسبة إلى مرحلة سابقة، وإن مرحلتنا اليوم ستصبح قديمة في يوم من الأيام، عندما يطرأ على الحياة الاجتماعية للبشرية تحول مهم جديد، ذلك أن كل مرحلة سُلّم للتي تليها.
وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم أن (الحداثة هي المشاركة والمساهمة في التحول الكبير الذي تشهده الإنسانية)(1) بين كل مرحلتين متتابعتين.
وقد أطلقت الحداثة - في عصرنا - على التحولات الفكرية التي حصلت في العصر الذي تلا النهضة الأوربية بعد الثورة الفرنسية، وسمي بالعصر الحديث.
فالحداثة إذن ليست مذهباً أدبياً فقط، ينحصر في الكتابة والقصة والشعر خصوصاً، أو في الفن عموماً، وإنما هي مدرسة عريضة تشمل كل مجالات الحياة، فكراً وعقيدة، وثقافة وأدباً وفناً، وسلوكاً وسيرة، وقيماً ومفاهيم.
وليس في وسع أحد أن يماري في المنشأ الغربي لمذهب الحداثة - الشائع لدينا - ولادة وحضانة وتصديراً، بحيث لم يكن لمفكرينا ومثقفينا وفنانينا وأدبائنا من دور، سوى التلقي والقبول، والتبني والترويج، الأمر الذي يعترف به الحداثويون العرب أنفسهم.
(يؤكد محمد برادة أن الحداثة مفهوم مرتبط أساساً بالحضارة الغربية وبسياقاتها التاريخية، وما أفرزته تجاربها في مجالات مختلفة، ويصل في النهاية إلى أن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنوات التواصل بين الثقافتين)(2).
الحداثة في الفكر العربي:
إذن؛ الحداثة - كالتنوير - وليدة ثورة الغرب على الدين عموماً بسبب تصرفات الكنيسة الغربية خصوصاً، وتمحورت نظريتها حول رفض الدين، واعتماد العقل وحده طريقاً للمعرفة.
فالحداثة على هذا نظرية فكرية وثقافية، تستند إلى خلفية سياسية، نجمت عن الجمود الفكري للكنيسة الغربية من طرف، وتحالف رجال الكنيسة مع رجال السلطة السياسية في المجتمعات الغربية ضد شرائح الشعب الأخرى من طرف آخر.
وملاحظتنا الأولى: إن نقل نظرية الحداثة الغربية - كما هي - إلى المجتمعات العربية والإسلامية هو تعسف كبير لسببين:
الأول: لأن الإسلام ليس غيبياً محضاً كالأديان الأخرى، ولا يقوم على أسس نظرية وخيالية ومثالية، إنما هو دين عقلي واقعي يتسم بتشريعات عملية تشمل كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والروحية والاقتصادية بتوازن وانسجام وواقعية.
الثاني: لأن علماء الإسلام، أو إن شئت فقل رجال الدين الإسلامي - كما شاع القول مؤخراً - لم يكونوا في الماضي، وليسوا الآن، ولا يمكن أن يكونوا في المستقبل في حلف مع السلطة السياسية في المجتمع إذا انحرفت عن مفاهيم الإسلام وتشريعاته العملية، وأقول ذلك غير غافل عن انحراف البعض، ومحاولاتهم لأن يكونوا كذلك.
إن للعقل في الإسلام دوراً فريداً في المحور الأساسي للدين، وهو التعرف على الله الخالق وتوحيده، وكذلك الدلالة على ضرورة اللطف الإلهي في إرسال الأنبياء وبعث الرسل، ليكونوا الأدلاء على توحيد الله سبحانه، والوسطاء لتلقي المنهج الفطري والعقلي والواقعي لطريق السعادة الإنسانية.
وبالتالي فإن الإسلام - كما هو واضح ومعروف - هو دين العقل، كما هو دين الفطرة وكما هو دين الوحي.
ولذلك فإن نظرية الحداثة - بمفهومها الغربي - لا محل لها في المجتمعات الإسلامية، وإن كانت حاضرة على الدوام بمفهوم إسلامي بحت، لم يغب عن الساحة الإسلامية، ألا وهو التجديد، الذي هو مضمون قول الرسول الأعظم(ص) - في بعض الروايات -:
(يبعث الله لهذه الأمة، على رأس كل قرن، من يجدد لها أمور دينها).
وهذا المفهوم - التجديد - هو أحد أهم وظائف الإمامة لدى مدرسة أهل البيت(ع) التي استمر عطاؤها المتواصل أثناء غيبة الإمام(ع).
فالتجديد أمر مستمر مدى العصور، لا يختص بعصر دون آخر، وليس له مدى زمني يتوقف عنده، ما دامت الأحكام يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان، ضمن ما سمي بالثابت والمتغير في الأحكام.
والتجديد هو - بمعنى من المعاني - تحديث؛ لكنه مضبوط بموازين شرعية قررتها الأحكام الثابتة ورعاتها من الأئمة والفقهاء.
والملاحظة الثانية: أن مشروع التحديث بالمفهوم الغربي طرح سلطوي تروّج له السلطة السياسية، وقد فشل تماماً في كل المجالات التي طرح فيها، رغم الوسائل الضخمة التي وضعت تحت تصرفه، والجهاز الكبير - من المثقفين - الذي تهيأ لحمله، والأموال الطائلة التي رصدت له.. ويعود سبب فشل هذا المشروع في العالمين العربي والإسلامي إلى عاملين:
الأول: ارتباطه بالمشروع الاستعماري.
الثاني: تناقضه مع المشروع الإسلامي للتجديد والإحياء.
والشعوب الإسلامية عامة تتعاطف وتتجاوب مع المشروع الإسلامي، وتنفر من المشروع الاستعماري وتعارضه ولا تتجاوب معه.
لقد انصبت جهود مثقفي الحداثة الغربية على الهجوم على الدين، وتفكيك العادات والأواصر الاجتماعية، وكسر الرموز التراثية - السلبية منها والإيجابية على السواء - وقد ذهبت كل هذه الجهود أدراج الرياح، وإن خلفت بعض الغبار المتراكم في كثير من الزوايا والمناحي، وأفسدت كثيراً من العقول والقلوب والنفوس.
فقد فشلت الدعوة إلى الكتابة بالخط اللاتيني، وتبخرت جهود الداعين إلى كتابة الأحرف العربية كما تلفظ، خرقاً لقواعد اللغة العربية في النحو والإملاء والخط، وانتكست كل محاولات إعادة صياغة قواعد النحو والصرف، وإلباس الألفاظ معاني جديدة غير معهودة في اللغة، وارتكست كل محاولات الهجوم على القرآن الكريم واعتباره بشرياً من صياغة الرسول، وانهزمت كل محاولات قراءته قراءات عصرية مبنية على مفاهيم الحداثة الغربية. إن كل هذه المحاولات لم تلق صدىً يذكر في عقول وقلوب الجماهير المسلمة، وإن كانت قد خلفت بعض الغيوم القاتمة في أجواء بعض المثقفين الماضين على خطى الحداثة الغربية.
أما المجالات البسيطة التي تبدى للمثقفين الحداثويين أن الحداثة الغربية قد نجحت بها، فإن الفضل في ذلك لا يعود للحداثة ولا للحداثويين، وإنما هي من طبائع الأمور في المجالات المرنة التي تقبل التطور والتقولب وفق المقتضيات الحياتية المتسارعة التي لا تتوقف، ووفق المعارف والعلوم والتقنيات التي تتلاحق وتتكشف يوماً بعد يوم.
والإسلام دين العلم والمعرفة، ودين التقنية والحضارة والمدنية، لا يعاديها ولا يجافيها ولا يقف في طريقها، بل يحث عليها ويعاضدها ويساندها إلى آخر مدى.
الملاحظة الثالثة: أن الحداثة الغربية - التي يعتضدها حداثويونا - قد استنفذت أغراضها وفقدت كل مبررات وجودها، حتى أن الغرب نفسه قد ملّها وسئمها، وبدأ يتحرك للثورة عليها بعد أن اكتشف عوارها ومقتلها، وأحس بالنفق المظلم الذي أدخلته فيه، فراح يتلمس طريقه إلى ما سمي بـ(ما بعد الحداثة).
وما بعد الحداثة هذا، ليس تطويراً للحداثة ولا تجديداً لها ولا منبثقاً عنها، وإنما هو نقيضها وضدها، المناضل لوأدها والتخلص منها ومن آثارها الفاسدة.
(ما بعد الحداثة) ثورة ضد تفرد العقل والعلم، ومحاولة للعودة إلى الإيمان، فلقد انهار - في الغرب - الاعتقاد بسيادة العقل وحده، وخاب أمل الغربيين بالوعد الأولي للحداثة، المتمثل بتحرير البشر من الطبيعة، وبإنهاء الاستغلال والسيطرة، وبنقل البشرية إلى جنة أرضية موعودة.. ولقد ذهب بعض الغربيين بعيداً في هذا المجال، حتى قال البيئيون: (إننا في سعينا للتحكم بالطبيعة إنما نقوم بتدميرها وتدمير مستقبلنا كجنس بشري في الوقت نفسه)(3).
(إن تيار ما بعد الحداثة - في الغرب - ينذر بأن العقل لا يستطيع - في التحليل الأخير - أن يتحكم بالطبيعة، بل إن الطبيعة هي التي تنتقم منا، ويعني ذلك أن هناك - في النهاية - قوة أخرى أقوى من العقل البشري)(4)، أليس هذا بالضبط ما كان يقوله الدين على الدوام؟!.
(إن البرجوازية والرأسمالية المسيطرتين في الغرب، دفعتا الجنس البشري إلى الأمام ليحرر نفسه من سلاسل الطبيعة، ولقد رافق ذلك استبدال الإيمان بقوة عظمى بالاحتمالات غير المحددة الناتجة من المخيلة الإنسانية، والآن وبعد إدراك حدود القدرة الإنسانية على التحكم بالطبيعة، استعاد الإيمان بقوة عظمى زخمه)(5)، وقد توازى ذلك مع انهيار الإيمان بقدرة الإنسان على حل المشاكل الاجتماعية.
يقول أليكس كالينيكوس: (يجب فهم ما بعد الحداثة - بوجه رئيسي - كاستجابة لفشل التحول الكبير في الفترة ما بين 1968 - 1976م في الوفاء بالوعود الثورية التي أطلقها، فما الذي يمكن أن يكون أكثر تطميناً لجيل انجذب نحو الماركسية، ثم ابتعد عنها بفعل ما شهده العقدان الماضيان من صعود وهبوط سياسيين)(6).
ويقول ستيفن سيرمان: (لقد ترافق صعود الحداثة مع تحول أبستيمولوجي من الميتافيزيقا إلى الوضعية، وحل محل الإيمان بوجود حقيقة مطلقة لا يستطيع الإنسان استيعابها، البحث عن المعرفة الجزئية التي يمكن تجميعها والتأكد من صحتها بوساطة الأساليب العلمية، وكان ذلك عبارة عن تحول من الإيمان بالحقيقة المطلقة التي تتحكم بالحياة البشرية، إلى الإيمان بحقائق علمية جزئية يستطيع الإنسان استخدامها للسيطرة على الطبيعة، وهكذا بات الهدف النهائي للعقلانية العلمية اكتشاف سر الكون والحصول على المعرفة الشمولية الكبرى، إلا أن الدين ينكر إمكان إنجاز مثل هذه المهمة لاعتقاده بوجود حقيقة مطلقة لا يمكن اكتشافها، وهذا ما تقول به نظرية ما بعد الحداثة، وإن عبر طريق مختلف، فهي ترفض السعي للأنساق الفكرية المغلقة، وتنكر إمكان اكتساب المعرفة التامة عبر الطرائق العلمية، إذ ترى أن العقل ليس مصدراً موثوقاً به للمعرفة، فهو نفسه جزء من مشروع الهيمنة، والحقيقة المطلقة لا يمكن التوصل إليها، لأن لكل فرد حقيقته الخاصة، وفي غياب الحقيقة المعروفة موضوعياً، لا يبقى سوى المعتقدات الذاتية، وهذا ما يعود بنا إلى الإيمان)(7).
إذا كان هذا هو ما آلت إليه الحداثة في الغرب، فهل لحداثويينا المعاصرين أن يفيئوا إلى هذه الحقيقة ولو من باب التقليد للغرب أيضاً؟!.
الحداثة في الأدب العربي
إن الحداثة في الأدب ما هي إلا فرع عن الحداثة في الفكر، وهي مثلها مستمدة من الغرب ولادة وحضانة وتصديراً.
يعتبر الأدب (الشعر - القصة - الرواية - المسرحية.. الخ) أحد أهم قنوات التحديث ووسائله، من حيث هو وسيلة التواصل بين الأفراد والمجتمعات للتعبير عن الأفكار والهواجس والدوافع والرغائب والمطامع والمطامح، وكل ما يدور في خلد الإنسان وفكره.
وبكسر طوق الكنيسة في الغرب، والتحرر من المفاهيم والقيم الدينية، برزت كثير من النظريات الفلسفية المرتكزة على المادية والإلحاد.
وفي هذا الجو الفكري تتابعت المذاهب الأدبية الغربية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية، أفضت إلى الرمزية ومنها إلى ما سمي بالحداثة، ثم نقلت إلى العالم العربي دون أي تغيير أو تبديل، فسادت في أدبنا العربي الحديث المصطلحات الغربية وأساليب الكتابة الغربية، ومناهج النقد الأدبي الغربية، وحتى الكلمات وهي تكتب بالحرف العربي لم تعد ذات مضامين ومعانٍ عربية.
تقول الكاتبة الحداثوية خالدة سعيد في بحث لها عنوانه (الملامح الفكرية للحداثة): (إن التوجهات الأساسية لمفكري العشرينات تقدم خطوطاً عريضة تسمح بالقول إن البداية الحقيقية للحداثة من حيث هي حركة فكرية شاملة قد انطلقت يومذاك، فقد مثل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة، وأقام مرجعين بديلين: العقل والواقع التاريخي، وكلاهما إنساني ومن ثَمّ تطوري. فالحقيقة عند رائد كجبران أو طه حسين لا تلتمس بالنقل، بل تلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين)(8).
وحتى لا يلتبس الأمر على أحد فيظن أن ذلك النهج إنما ينطبق على الدين كما صورته الكنيسة فقط، أنقل فقرة أخرى للباحثة نفسها تقول فيها:
(عندما كان طه حسين وعلي عبد الرازق يخوضان معركة زعزعة النموذج (الإسلام) بإسقاط صفة الأصلية فيه، وردّه إلى حدود الموروث التاريخي، فيؤكدان أن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر فيما اكتسب صفة القداسة، وحق نزع الأسطورة من المقدس، وحق طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة)(9).
سمات الحداثة الغربية:
أ) رواد الحداثة الأدبية في الغرب:
(كان إدغار آلان بو - الأمريكي - من رموز المدرسة الرمزية التي تمخضت عنها الحداثة في جانبها الأدبي على الأقل، وقد تأثر به كثير من الرموز التاريخية للحداثة مثل مالارميه وفاليري وموبوسان، وكان المؤثر الأول في فكر وشعر بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان.
وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفاً عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق)(10).
إدغار هذا؛ كانت حياته وسلوكه مجافيين للحق والأخلاق والجمال على السواء، وكذلك كان شعره وأدبه (لقد كان سلوكه مشيناً جداً، وكانت حياته موزعة بين الفشل الدراسي والقمار والخمور والعلاقات الفاسدة، وتوّجت بمحاولة الانتحار بالأفيون)(11).
أما بودلير - أستاذ الحداثيين في كل مكان، والذي كان عميد الرمزية بعد إدغار، والخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل - فقد نادى بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق كما يقول إحسان عباس وغالي شكري(12).
(لقد قام المذهب الرمزي الذي أراده بودلير، على تغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية جديدة، تشير إلى مواضيع لم تعهدها من قبل، وكان يطمح أيضاً إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغة الشعرية، ولذا لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهود في الشعر الرمزي)(13).
ومن الطبيعي جداً أن يسلك هذا المسلك في الأدب والشعر من كانت مراحل حياته منذ الطفولة نموذجاً للضياع والشذوذ، وقضى شطراً من شبابه في الحي اللاتيني بباريس، حيث الفسوق والانحلال والتبذل والعلاقات الشاذة ثم لاذ في المرحلة الأخيرة من عمره بالمخدرات والشراب.
هكذا كان بودلير، وكان إلى ذلك مصاباً بانفصام الشخصية وبالنرجسية، فكان يحب تعذيب الآخرين ويتلذذ به كما يقول إبراهيم ناجي مترجم ديوان بودلير (أزهار الشر) ومصطفى السحرتي مقدم هذه الترجمة.
على أن الطريف أنه (حتى فرنسا على ما فيها من انحلال وميوعة ومجون وفساد منعت نشر بعض قصائده، عندما طبع ديوانه في باريس سنة 1957م، ويقول عنه كاتب أوربي (إن بودلير شيطان من طراز خاص) ويقول عنه آخر (إنك لا تشم في شعره رائحة الأدب والفن، وإنما تشم رائحة الأفيون))(14).
وعلى خطى بودلير مشى رامبو الذي (دعا إلى هدم عقلاني لكل الحواس، وإلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى، وسماع ما لا يسمع، وفي رأيه أن الشاعر لابد أن يتمرد على التراث وعلى الماضي، ويقطع أي صلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية.. وتميز شعره فنياً بغموضه وتغييره لبنية التركيب والصياغة اللغوية عما وضعت له، وتميز أيضاً بالصور المتباعدة المتناقضة الممزقة)(15).
وعلى آثار بودلير ورامبو جاء مالارميه وبول فاليري وغيرهما ووصلت الحداثة في الغرب إلى شكلها النهائي على يد الأمريكي اليهودي عازرا باوند والإنكليزي توماس إليوت.
وبهؤلاء جميعاً تأثرت الموجات الأولى من الحداثيين العرب مثل: السياب ونازك الملائكة والبياتي وخليل حاوي وأدونيس.. وغيرهم(16)، وتعتبر قصيدة (الأرض الخراب) لإليوت معلقة الحداثيين العرب (بما حوته من غموض ورمزية، حولت الأدب إلى كيان مغلق، تتبدى في ثناياه الرموز والأساطير واللغة الركيكة العامية إلى آخر ما نراه اليوم من مظاهر الأدب اليومي للحداثيين العرب)(17).
وقد يدافع الغامدي عن المنشأ الغربي للحداثة العربية مبررا ذلك بالشمول الإنساني والصياغة العالمية فيقول: (ومهما يقال أن تلك المصطلحات منقولة من الغرب، حيث كانت صدى لما كان عليه القرن التاسع عشر، إلا أن لها شمولها الإنساني وصياغتها العالمية التي تناسب كل لغة، ومن هذه المصطلحات على سبيل المثال (الداروينية) التي تعتبر كشفاً لتطور بعض جوانب الكائن الإنساني، وكذلك (الميثولوجية) التي تعد كشفاً لأصول العقائد، وهذه المصطلحات في جملتها تفصح عن منهج جديد ومحدد يستلهم العقل والتجربة في ربط المقدمات بالنتائج والعلة بالمعلول)(18).
ونحن بالطبع نوافق بل ندعو إلى استلهام العقل والتجربة وإلى ربط المقدمات بالنتائج والعلة بالمعلول باعتباره المنهج العقلي للاستنباط، لكن ما نرفضه هو النتائج المبتسرة والمفتعلة أو المتسرعة التي يُدّعى انتماؤها لذلك المنهج، تلك النتائج التي سقطت في الغرب نفسه بعدما أفسدت فكر وسلوك أجيال بكاملها في الغرب والشرق بنسب متفاوتة.
أما بعض منظري الحداثة في الأدب العربي فقد نحوا منحى آخر حين مضوا يبحثون عن طريق يمنحهم انعطافة نحو حداثة عربية الجذور، فرجعوا إلى العصر الجاهلي ومنه إلى العصرين الأموي والعباسي، يفتشون هنا وهناك عن بعض النماذج ويلبسونها ثوب الحداثة، فأبرزوا أمرؤ القيس وبشار بن برد وأبا نواس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم ممن سار من الشعراء القدامى على هذا الدرب.
ويوضح أدونيس سبب إعجاب الحداثيين العرب بشعر أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة - على سبيل المثال - فيقول: (إن الانتهاك هو ما يجذبنا في شعرهما)(19).
بل كانت فرحتهم أشد عندما ظفروا ببغيتهم في إيجاد جذور تاريخية عربية للحداثة - كما يدعون - عند بعض المتصوفة كالنّفري والحلاج وذا النون المصري وابن عربي وغيرهم، ولم يتم لهم ذلك إلا بالفهم الخاص والمنحرف لنصوص أمثال هؤلاء الصوفيين الكبار، فاعتبروا أن الرافد الصوفي يصب في دائرة الشعر العربي المعاصر ويلوّنه بلونه الخاص.. وهكذا راحوا يدّعون أن الشعر العربي الجديد يستمد من التراث الصوفي.
يقول عبد الحميد جيدة: (الرافد الصوفي صب في دائرة الشعر العربي المعاصر ولونه بلونه الخاص، إن النّفري والحلاج وذا النون المصري وابن عربي وغيرهم أثروا في أدونيس والسياب ونازك والبياتي وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر، لذلك فإن القيم التي يضيفها الشعر العربي الجديد إنما يستمدها من التراث الصوفي)(20).
لكن هذا لم يكن سوى مجرد ادّعاء لا مصداق له، ينفيه الحداثويون العرب أنفسهم، يقول غالي شكري: (وعندما أقول الشعراء الجدد، وأذكر مفهوم الحداثة عندهم.. أتمثل كبار شعراء الحركة الحديثة من أمثال أدونيس وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي.. عند هؤلاء سوف نعثر على إليوت وعايزرا باوند، وربما على رواسب من رامبو وفاليري، وربما على ملامح من أحدث شعراء العصر في أوربا وأمريكا، ولكنا لن نعثر على التراث العربي)(21).
ويقول الشاعر محمد بنيس: (نحن جميعاً متورطون في الحداثة، وقد أصبحت أثراً من آثار جسدنا.. وحتى لا نتوه في المفارقات والمطابقات نثبت في الحداثة حداثات والمشترك بينها هو أرضية الغرب تقنية وفكراً وإبداعاً)(22).
ويقول جبرا إبراهيم جبرا في كتابه (الرحلة الثامنة): (حركة الشعر الجديد متصلة بحركة الفن الحديث في أوربا، ومن العبث أن نستشهد بالقدامى)(23).
ويقول غالي شكري: (إن محاولة تبرير الشعر الحديث بميراثنا التاريخي من حركات التجديد في الشعر العربي هي محاولة غير مجدية، بل أصبحت ضارة إلى حدٍ ما)(24).
وهكذا كان الحداثويون العرب صدى للحداثة الغربية والمرآة التي نقلتها كما هي إلى مجتمعاتنا العربية، والأوعية التي حملتها بكل تنوّعاتها وتناقضاتها.
ب) تذبذبات الحداثة:
لا أريد أن أدخل لجة التأريخ لأدب الحداثة، وإنما أريد أن أؤكد أن الحداثة في الأدب الأوربي لم تستقر على مفهوم معين (فكثير من الحركات الأدبية كالطبيعية والانطباعية والرمزية والتصويرية والمستقبلية.. الخ متداخلة ومترابطة مع بعضها، وكل واحدة منها هي نتاج حركات أخرى، وليست حركة قائمة بذاتها. وإذا أخذنا الحداثة كحركة من هذه الحركات، أو حركة تضم كل هذه الحركات فهي لا تختلف عنها من حيث كونها تتضمن معاني مضطربة)(25).
تدرجت الحداثة من حداثة مبكرة أولت الشكل اهتماماً كبيراً وانتهت بحداثة جديدة (ما بعد الحداثة) ضربت بالشكل عرض الحائط.. وخلال هذه الرحلة الطويلة مرت بفن اللافن، إلى فن الصدفة، إلى أدب الصمت الذي يقوم على اللامعقول واللاتخطيط، وعلى المحاكاة الهزلية، وعزفت عن الفن التقليدي إلى الفن التجريدي والتجريبي و.. إلى مسميات لا تنتهي لأنها تسير إلى لا هدف، ولو سارت إلى هدف محدد لانتهت هذه الأسماء، وانتهت معها الحداثة. وقد عبر أرفنك هاو عن هذا الواقع حينما قال: (لم تأت الحداثة بأسلوبها الخاص المؤثر، وإذا أتت بذلك تكون قد انتهت كحداثة)(26).
كان هناك دائماً شيء من التذبذب والتأرجح في الأسلوب، بين المستقبلية والعدمية، بين المحافظة والثورية، بين الطبيعية والرمزية والرومانسية وحتى الكلاسيكية، وكان هناك دائماً نوع من المد والجزر بين العقلانية واللاعقلانية، وبين الوعي واللاوعي، وبين الذاتية والموضوعية.
ما أغرب ما كانت تمزج الحداثة بين الترحيب بالتكنولوجيا وبين استهجانها، وتتأرجح بين الإيمان بصدق أشكال التعبير الجديدة عن الزمن وبين اعتبارها هروباً من التاريخ ومن وطأة الزمن.
هذا الخلط بين المتناقضات كان السمة الأساسية للحداثة، هذه السمة التي نسفت كل أنظمة الفكر، وقلبت القواعد التقليدية للغة والفن، وأفسدت العلاقة بين الكلمات والأشياء، وفتحت الباب على مصراعيه أمام الانتقال المفاجئ وغير المنطقي من موضوع لآخر، واعتماد الصور المبهمة الضبابية التي تجمع بين النظام والفوضى، الخلق والتدمير، البناء والهدم، الظلام والنور، الموت والحياة.
ج) أسلوب المغايرة:
لعل أهم ما تشربته الحداثة الأدبية من الحداثة الفكرية هو (أسلوب المغايرة) وهو القاسم المشترك بين الفكر والأدب الحداثويين.
لكن الفارق أن المغايرة في الفكر كانت تسير إلى هدف محدد سلفاً هو الانخلاع عن الماضي برمته بما يعنيه من دين وقيم وأخلاق، بينما المغايرة في الأدب لم تتخذ لها هدفاً محدداً سوى المغايرة في الأسلوب، وإن لم يحمل أي فكر على الإطلاق.
هكذا نفهم قول فلوبير: (كل ما أريد أن أفعله هو أن أنتج كتاباً جميلاً حول لا شيء، وغير مترابط إلا مع نفسه)(27).
ولكي يحقق الأوربيون هذا الهدف (التغاير) أو (التمايز) كان لابد من الانخلاع عن الماضي أولاً، ثم عن الحاضر بعد ذلك - عندما يصبح ماضياً - دون أن يقدموا (نهجاً) للمستقبل.
إن التغيير بحد ذاته هو الهدف وهو المنهج، وهكذا انسلخ الأدباء الحداثيون الأوربيون ليس عن الماضي فقط وإنما عن الحاضر أيضاً، بل وليس عن الواقع فقط وإنما عن الحياة كذلك، وعاشوا في عالم من خيال يسبحون فيه بلا جهة محددة، تتقاذفهم رياحه الهوجاء وأمواجه العاتية حيث تشاء، إنه عالم الضياع في النزوات والشهوات والتيه في الأهواء والنوازع المفرطة في الذاتية، عالم العبثية والفوضى، وهو عالم لا يليق بالإنسان العاقل.
ولابد أن نستدرك بأن هذا (اللامنهج) أو (التغاير اللاهدفي) لم يؤطر كل الأدباء الحداثيين الأوربيين، فإن كثيراً منهم قد وضعوا نصب أعينهم هدفاً محدداً لا يبتعد كثيراً عن هدف الحداثة في الفكر، كإشاعة أدب الانحلال أو الجنس أو فوضى العلاقات عموماً، أو أدب التحرر من الدين والتحلل من القيم والأخلاق.. أو.. أو.. لكن أسلوب التغيير نحو لا هدف معين بقي هو السمة الغالبة على الأدب الأوربي الحديث، وخاصة منه الشعر.
إن أهم ما هدفت إليه الحداثة في الأدب أن يأتي أسلوبها على غير مثال سبق، ليستحقوا بذلك أن يكونوا إبداعيين حقاً.
وحتى الأدباء والشعراء الذين اتخذوا من الهجوم على الدين والأخلاق والقيم محوراً لأدبهم، فلأنهم ربما وجدوا - في ذلك الحين - أن الدين والأخلاق والقيم كانت هي الواقع المعاش، وان الحداثة كان لابد أن تكون في مواجهة هذا الواقع، وأن مركب أسلوب المغايرة كان لابد أن يجري هذا المجرى، وأن يخوض هذا البحر، وربما لاقى ذلك عند كثير منهم هوىً نفسياً - نابعاً من النوازع والأهواء والسلوك الشخصي المنحرف - إضافة إلى الضرورة الإبداعية الأدبية.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن ذلك الواقع المعاش في أوربا - في ذلك الحين - كان يُغطى جوره وظلمه وخنقه لحرية الإنسان، بقشرة هشة رقيقة من الدين المسيحي والأخلاق، مما يجعلنا نعطي مصداقية - إلى حدٍ ما - لبعض الأدباء الحداثيين في الغرب، وضمن هذا الإطار نفهم - على سبيل المثال - قول نيتشه: (على الفنان أن لا يحابي الواقع)(28).
إن أسلوب المغايرة جعل الحداثة في الأدب تتسم بمفهوم غائم وغامض على عكس الحداثة في الفكر، وإن مقولة رامبو: (من الضروري أن نكون محدثين بصورة مطلقة)، لقيت صدىً قوياً في الغرب وفي الشرق على السواء، رغم التأويلات المختلفة التي رافقتها، ورغم تضارب الآراء حول تفاصيل مصطلح الحداثة وطبيعته وتطور مفهومه بتطور الزمن، يقول ليونيل ترلنك: (من جملة المشاكل التي تواجهنا عند دراسة العصر الحديث هي أنه لا توجد كلمة واحدة تحدد سمات هذا العصر، لقد استعملت كلمة (الحداثة) من حين لآخر مرادفة للرومانسية، واستعملت كذلك في وصف الأجواء العامة للأدب الأوربي في القرن العشرين بوجه عام، أما النقاد الماركسيون فيعدونها نوعاً من البرجوازية الجمالية المتأخرة النابعة من الواقعية، لقد استخدم هذا المصطلح ليغطي مجموعة من الحركات التي جاءت لتحطيم الواقعية أو الرومانسية، وكان ديدنها التجريد، حركات مثل الانطباعية، ما بعد الانطباعية، التعبيرية، التكعيبية، المستقبلية، الرمزية، التصويرية، الدوامية، الدادائية والسريالية، مع ذلك ليس هناك ما يوحد هذه الحركات، بل إن بعضها جاء ثورة كاسحة على البعض الآخر)(29).
وهذا طبعاً بسبب أسلوب التغاير اللاهدفي أو التمايز الذي انتهجته الحداثة التي وصفها الناقد سي سي لوس في إحدى محاضراته عام 1955م فقال: (لا أتصور أن هناك عصراً سالفاً أتى بأعمال محيرة ومدمرة كالأعمال التي جاءت بها الدادائية السريالية، وأعتقد جازماً بأن هذا ينطبق على الشعر)(30).
ويقول هربرت ريد: (شهدت الأزمان السالفة كثيراً من الثورات الفنية، فكل جيل جديد جاء بثورة فنية جديدة، إننا نجد أن لكل القرون ثوراتها المتعاقبة.. أما ما يسميه بعضهم بالثورة الفنية المعاصرة، فلا أعتقد أن لفظة ثورة مناسبة لهذا السياق، إنها تحطيم، بل انحلال مأساوي)(31).
د) الغموض والرمز: هنالك من يدّعي أن الانتقال في النص الشعري مما هو منطوق ومسموع إلى ما هو مقروء، قد أحدث تغييراً كلياً في الأدب عموماً وفي الشعر خصوصاً، فلم يعد الصوت الإنساني أساساً وشرطاً لكل الآداب، بعدما أتيح للعين النهمة أن تقرأ بحرية ما يكتب على الصفحات، الأمر الذي سمح للنص الأدبي - والشعر ضمناً - بالانتقال من الإيقاع المتسلسل إلى المعنى الذي تفرضه اللحظة الآنية.
يقول مالارميه: (إن غياب اتجاه العبارة الشخصي المتحمس، مهّد الطريق لظهور فن يدين بالفضل الكبير إلى الأشكال وليس إلى المشاعر، إن الشكل يضاعف المعنى ويحول القصيدة إلى مجموعة من التعابير الموحدة الشاملة)(32).
وهذا يفسر طريقة مالارميه الغريبة في تركيب الجمل، بحيث لا تتضمن فكرة مركزية واحدة، بل تقوم على تحدي قواعد النحو، وتشتمل على مجموعة من الأسماء الغريبة الشاذة، كعبارته مثلاً: (شعلة الشهرة، رغوة دم، ذهب، عاصفة) أو عبارته الأخرى: (ليلٌ، يأسٌ، وأحجار كريمة).
بمعنى آخر: إن ما أتاحه تقدم الطباعة، والكم الهائل من الكتب والمجلات والدوريات.. الخ من تراجع التلقي عن طريق الإلقاء والاستماع (صوت - أذن) وتقدم التلقي عن طريق الكتابة والقراءة (شكل - عين)، قد أدى إلى غياب التعبير الشخصي المتحمس لصالح التعبير الشكلي الفني، مما يسمح بالاعتماد على الرمز.
(ويعدد جان مورا في (بيان الحركة الرمزية) بعضاً من الخصائص الأسلوبية في اللغة الرمزية فيذكر: كلمات نقية.. حشوٌ مهم.. حذف غامض، الانتقال من تركيب نحوي معين إلى تركيب آخر يحقق الجرأة المتطرفة)(33).
وسواء صح هذا التحليل أم لا، فإن ما يهمنا هنا هو ما وصل إليه الرمز عند هؤلاء الحداثيين الذين يعتبرون أن الرمز يتكون من الموضوع والفكرة، من الحضور والغياب، من الكلمة المكتوبة والكلمة الممحوة، من الشكل والفراغ، وينظرون إلى البياض الذي يكتنف النص على أنه صمت مفعم بالمعنى، لا يقل روعة عن النص الشعري نفسه، وكذلك استعمال اللغة غير الكاملة.. إلى آخر هذه العبارات التي لا تقدم ولا تؤخر.
ولعلّ شاعراً يفاجئنا ذات يوم بقصيدة عصماء على صفحة ناصعة بيضاء، بلا كلام ولا عنوان؛ إنه الرمز، وهي حداثة الغموض، لا يهم ما تفهمه من النص. المهم ما تثيره بعض كلماته الشاذة الغريبة الغامضة من إيحاءات لديك، والأهم أن تثير لدى كل قارئ إيحاءات خاصة به، والأفضل أن لا تتوحد الإيحاءات وأن لا تلتقي المعاني والأفكار، وأجمل قصيدة حداثوية على الإطلاق هي التي لا تتضمن أية فكرة، ولا تحمل أي معنى، بشرط أن تثير إيحاءات متناقضة غير متناغمة ولا منسجمة لدى القراء!!.
يقول سعيد السريحي: (ومن هنا أصبح من الصعب علينا أن نتفهم القصيدة الجديدة بعد أن تخلت عن أن يكون لها غرض ما، وأصبحت اللغة فيها لا تشير أو تحيل إلى معنى محدد، وإنما هي توحي بالمعنى إيحاء بحيث لا تنتهي القصيدة عند انتهاء الشاعر من كتابتها، وإنما تظل تنمو في نفس كل قارئ من قرائها حتى يوشك أن يصبح لها من المعاني بعدد ما لها من القراء)(34).
إن عباءة الغموض، ودثار الضباب والسحب هو السمة البارزة للحداثة العربية، فأنت إذا أصخت بسمعك أو رنوت بعينك إلى قصيدة الشاعر الحداثوي، لا تستطيع مهما ركزت السمع أو البصر بفكر حاضر وقلب مقبل وعقل يقظ مفتوح لا تستطيع أن تخرج بمفهوم واحد واضح، بل تجد نفسك تتأرجح بين الليل والنهار بين العتمة والنور، بين اليأس والأمل، بين الرجاء والخوف، بين الحياة والموت، بين الكلام والصمت، ولعله الكلام الصامت، والصمت المتكلم، والليل المنير، والنهار المظلم، والموت المفعم بالحياة وحياة الموت، والارتفاع بحبل اليأس القاتل، والسقوط في مهاوي الرجاء والأمل.. (كلام طاعن بالصمت، واحتمالات فناء تنعش الحياة.. وامرأة تسلبني كسرة موتي أو تمنحني قبر حياتي، تحمل تاريخ الهجرة صوب الضلع السائب، وأنا لا أملك إلا صمتاً أسحبه من فمك فيصير فراشة)(35).
الرمز قيمة فنية وجمالية لا تنكر، ولا يمكن الاعتراض عليه، وإن درجة الإحساس بالجمال التي يمنحنا إياها الرمز لا يمنحنا إياها التعبير الواضح الصريح، وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة جداً لا مجال لذكرها الآن.
لكن هذا لا يسوغ بحال من الأحوال الإفراط في الرمز وصولاً به إلى درجة الإبهام والغموض بحيث لا يفك معانيه ودلالاته وغوامضه المثقف بل ولا حتى الشاعر نفسه في كثير من القصائد.
الأدب.. الشعر.. الفن عامة، حالة ثقافية عامة للإنسان، لا حالة خاصة تهم النخبة أو نخبة النخبة فقط.
إن الغموض المفرط يدخل الشعر في ظلام الطلاسم، ويحشره في زمرة الأحاجي والألغاز، ويحرفه عن لغة الأمة والمجتمع إلى لغة الكهنة والسحرة، لغة المشعوذين والدجالين أعداء الإنسانية والمتربصين شراً بالإنسان، وإضافة إلى أنه لا يلبي طموح الشاعر في التعبير عن مشاعره، فإنه لا يوصل هذه المشاعر إلى السامع أو القارئ.
وعودة إلى بيان جان مورا عن الحركة الرمزية، الذي أشرنا إليه قبل قليل لنذكر بطريقة صنع الغموض، وأقول صنع الغموض، لأنه ليس غموضا بديهياً، بل هو غموض مصنوع منحوت، مؤلف من كلمات نقية مع حشو مبهم وحذف غامض، إنه الثالوث الحداثوي المقدس، وهو أعقد قليلاً من قصة الورقة المكتوبة التي تطوى وتقص بعناية ثم يعاد جمعها من جديد - كيفما اتفق - للحصول على نص أدبي طريف أو لوحة فنية باهرة، إنه هنا حشو بطريقة فنية وحذف بطريقة انتقائية، وقصد مسبق لصنع نص غامض.
ويفسر السريحي سر الغموض في القصيدة الحداثوية فيقول: (إن ظاهرة الغموض التي من شأنها أن تعد السمة الأولى للقصيدة الجديدة، نتيجة حتمية أفضت إليها سلسلة من التطورات التي طرأت على العلاقة المتوترة بين الشاعر المبدع والقارئ المتلقي)(36).
ويكشف الحداثوي أحمد عائل فقيه سر التوتر بقوله: (إننا في مجمل الأحوال نسير في اتجاه معاكس لما هو سائد ومكرس في بنية المجتمع.. إذاً كيف يمكنك تحرير ما تحلم به، وما تود أن تقوله، علناً؟)(37).
موقفنا من الحداثة في الفكر والأدب
ليست مجتمعاتنا العربية بأقل حاجة إلى بعض معطيات الحداثة من المجتمعات الغربية، لكننا نرفض أن تكون الحداثة العربية نسخة طبق الأصل - بل ربما مشوهة - عن الحداثة الغربية، ونطالب بالتحديث والتجديد النابعين من ضرورة عربية خالصة، والمنطلقين على أساس متين من المنهج الاستدلالي العقلي في الفكر والاستخدام السليم للغة العربية في الأدب.
فالمجتمع العربي أيضاً تثقل كواهله مجموعة كبيرة من القيود والأغلال التي تفرضها السلطات السياسية، مغطاة تارة بقشور من الأخلاق والعادات، ومبررة تارة أخرى بالتطور والتجدد والمعاصرة.
ولذلك فنحن مع الحداثة فيما ترمي إليه من تغيير وتجديد، على أن يقوم هذا التجديد على أسس علمية سليمة، وأن يكون للتغيير هدف مشروع مدروس بعناية، ولسنا معها في هدم القيم الدينية الأصيلة والأخلاق الإنسانية الراشدة.
نحن معها في إعادة صياغة الشكل وفق ضوابط سليمة، ولسنا معها في أن تجر الأدب إلى ظلمات اليأس والفوضى والعبثية والسوداوية المغرقة أو الخيال المفرط، أو الواقعية المؤذية التي تفسد الفرد والمجتمع الإنساني.
نحن نريد أن يستفيد أدباؤنا وشعراؤنا من إيجابيات الحداثة.. من الوعي المبدع، من الخيال الخلاق، من الأبعاد الجمالية الأخاذة، من الظلال الفنية الموحية، دون التورط في العوالم المجهولة، والتلبس باللاهدفية واللاجدوائية والفوضى الفكرية واللغوية، والانبتات عن الجذور، والضياع في بحر من ظلمات الطلاسم والغموض...
اضف تعليق