من الطبيعة التكوينية للكائنات، أنها تسعى نحو التفوق من دون توقف، إلا إذا كانت هنالك موانع تهدد حياتها، أو تلحق بها الأذى، وكل إنسان موجود على وجه البسيطة يسعى للنجاح والتفوق، حتى أصحاب العقول العادية، والوعي البسيط، تدفعهم بعض الغرائز لاسيما تلك التي تعتني بأفضلية البقاء كي يكونوا في المقدمة.
هذا الفعل العقلي النفسي الغريزي، الهدف منه أن يتميز الإنسان وينجح في مشاريعه الفكرية الإبداعية والعملية على حد سواء، لذلك يمثل برنامج أو مسعى انتهاز الفرص، أحد أهم وأقدر المساعي والأساليب التي ينتهجها ويسلكها الإنسان لتحقيق مآربه في التقدم، ومن ثم السعي المستمر لتحقيق الذات والشعور بالامتلاء والرضا النفسي.
ومما يتضح في هذا الإطار أنن الحياة برمتها قائمة على النظام الثنائي المتوازن، فالليل مثلا يقابله النهار، والشروق يقابله الغروب، والسماء تقابلها الأرض، والحر يقابله البرد، والكذب يقابله الصدق، وكل شيء يدخل في منظومة الحراك الكوني او البشري له أطراف متناقضة، لابد من وجودها حتى يوضّح بعضها بعضا، فعندما يغيب الظلام تماما وتبقى الحياة تحت الضوء، هل ستبقى قيمة مهمة للنور الكاشف للأشياء طالما أنها مكشوفة أصلا، لذلك ضمن هذه الثنائية هناك بحث مستمر عن عوامل التميز والنجاح، وهناك من يتفوق على غير في قضية اقتناص الفرص.
فكما هو متعارف عليه، ضمن التفاسير والتحليلات المنبثقة من عقول متميزة لمفكرين أكفاء، ترى أن الفرص هي مكاسب ليست في الحسبان تتوافر للإنسان في حالة معينة وظرف معين، وهي قد تكون شحيحة لدرجة أنها ربما تأتي مرة واحدة في العمر، أو أكثر قليلا، وأحيانا لا تأتي إطلاقا لبعض الأفراد، أي أن هناك أناس لا يمكنهم العثور على الفرصة التي تدفعهم الى أمام كما يحدث مع أناس غيرهم.
أولوية التخطيط والسعي الفعلي
لذلك يحثنا الإمام علي بن أبي طالب (ع) على أن نستثمر الفرص بأفضل طريقة ممكنة وعدم التفريط بها في أي حال، كونها تسهم في بناء حياة الإنسان وذاته أفضل البناء، فيما لو تم استثمارها واستخدامها بطريقة سليمة، هذا هو بالضبط الفارق بين من يسعى ويخطط ويجتهد، وبين من يميل الى الدعة والسكون والراحة، مثل هذا الإنسان سوف يبقى في آخر الركب دائما بسبب تقاعسه وعجزه وتفريطه المستمر لكل عوامل المساعدة التي تظهر في طريقه.
وربما يكون الخوف أحد الأسباب التي تؤدي الى ضياع أو خسارة دوافع التميز والنجاح، فمن الممكن أن تضيع تلك العوامل المساعدة بسبب خشية الإنسان وتردده من قطفها لأسباب عدة، كلها تقف وراءها حالة الخوف والتردد التي تمنعه من قطف فرصته كما يجب، وإذا أصيب الإنسان بحالة من التردد، وتلكّأ في الاستفادة من عوامل النجاح في الوقت المناسب، فإن الخيبة هي التي ستكون نتيجة حتمية لهذا التردد، لذا هناك دعوة واضحة في قول للإمام علي عليه السلام يبحث في هذا المجال، تشملنا جميعا لكي نستثمر الفرصة بلا أدنى تردد، على أن تكون الفرصة مدعومة بالخير ومنتجة له في الوقت نفسه، بمعنى قد تكون هناك فرص تبدو مفيدة للإنسان، وربما تنقله من حال الى حال، وقد تحسّن حياته نحو الأفضل، لكن ربما تكون مقرونة بالشر، هنا لابد أن يتخلى الإنسان عن مثل هذه الفرص لأنها مصدر شر ولا علاقة لها بالخير، وإنها سوف تتسبب في تدمير حياة الإنسان ولا يمكن أن تسهم في تفوقه وتميزه ونجاحه في أي حال من الأحوال.
على العكس من حالة الخشية أو الخوف، فالصحيح هو اندفاع الإنسان نحول فرص الخير، وفي هذه الحالة عليه أن يتحلى بروح الإقدام، نحو فرصته، وأن لا يتردد قيد أنملة في قطفها، خصوصا إذا تأكد من أنها خالية من الضرر وبعيدة عن الشر وهي تنتمي بشكل تام الى جانب الإنسان تحقيقا لذاته وتميزه بين أقرانه.
حول ثانئية الإقدام والتردد، الشروع والتراجع أو التوقف، هنالك قول للإمام علي عليه السلام، ورد في هذا النص ما يلي: (قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَ الْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ وَالْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ).. إذا ليس صحيحا أن نفرّط بالفرصة إذا كنا نبحث بصورة فعلية عن العوامل المساعدة التي تدفعنا باتجاه التفرّد وتحقيق الذات.
التردد قرين الحرمان وبالعكس
من مساوئ التردد، أنه يدفع بالإنسان نحو الفقر، والحرمان من الحياة الأفضل، فالتردد يُفقد الفرد فرص التقدم الأكيدة، أما الحرمان فهو أيضا نتيجة لنوع من التردد والخوف أُطلق عليه (الحياء)، وليس المعني هنا الحياء الأخلاقي الذي يعد من مقومات سلوك الإنسان لاسيما المرأة، بل الحياء هنا من سياق الجملة، هو التراجع عن تحصيل الأهداف مما يتسبب ذلك في حالة من الحرمان يعيشها الإنسان المتراجع، وما كان له أن يتعرض للحرمان لو انه أحسن التصرف، واستغل الفرص التي أتيحت له في تطوير حياته وتغييرها ودعمها بالحداثة الفكرية والعملية في الوقت نفسه.
هناك أسباب تؤدي إلى فقدان الإنسان عوامل التقدم التي قد تتاح له في حياته، ومن هذه الأسباب حالة الأمل التي يعلل الإنسان بها نفسه، فيمتنع أو يتراجع عن قطف الفرصة المتاحة، ويرجئ ذلك الى وقت آخر، آملا أن تتاح له فرصة أفضل، في حين أن السبب الذي يكمن وراء ضياع هذه الفرص هو الخشية والتردد، حيث ينتاب الإنسان نوع من التراجع والحياء والتردد، وكلها عوامل وأسباب تقود الإنسان الى فقدان الفرص المهمة في حياته، لهذا لا ينبغي أن يعتمد الإنسان على الأمل الفارغ الخالي من التخطيط والسعي العملي نحو الأهداف المرسومة التي ترتقي بحياة الإنسان ومنجزاته صعودا في سلّم الارتقاء.
لذا يحذرنا الإمام علي (ع) من اعتماد الأمل بلا سعي ولا عمل، لأن هذا النوع من الأمل سوف يجعل الإنسان متقاعسا ومؤجلا للسعي والعمل بحجة الأمل في فرص أخرى لا تأتي أبدا، يرد في كلمة الإمام مضمون كبير إذ يقول عليه السلام: (مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ).
هذا الأمر يستدعي من الجميع، تحقيق حالة جيدة من التوازن بين توخي الدقة والتأني في الاختيار من جهة، ورفض التسرع في اعتماد الفرص المتاحة من جهة أخرى، فربما يكون هذا الفعل مسيئا لحياته وشخصيته ومسيرة حياته، أي ينبغي أن لا يأتي التمسك بالفرص على حساب مبادئ الإنسان، والقيم التي تقف الى جانب الخير وتدعمه، لهذا مطلوب من الإنسان أن يتأكد من انه لا يرتكب ما يخالف المصلحة الذاتية والجماعية، فما يريد أن يحققه الفرد لنفسه، ينبغي أن لا يقف عند الحدود الفردية، بل للجماعة حق في أية فرصة نجاح فردية أو جمعية، وبهذه الطريقة يتمكن الجميع من تحقيق الذات مع النجاح والتميز المستدامين.
اضف تعليق