الأمم التي تسلقتْ قمة المجد، عرفت من أين تؤكل الكتف، وسبقت غيرها من الأمم في النمو والتميّز والصعود المسامر والبقاء الدائم في القمة، من المهم أن تواصل الصعود، ولكن الأهم أن تبقى محافظا على وجودك في القمة بعد أن تبلغها، كيف يمكن أن تبقى الأمم في القمم؟؟ ما السبيل الى ذلك؟ وهل هناك أمم بلغت القمة وهبطت الى الدرك الأسفل وهل حدث العكس، أي ارتقت من الأسفل الى القمة؟.
يعج التاريخ بأمثلة من هذا النوع، ويغص بالأمم التي تقدمت أمما أخرى وقادتها الى أمام في محطات محورية من التاريخ، ثم ما لبث أن تهاوت وسقطت من القمة منحدِرة على السفوح، لتسير فيما بعد وراء الأمم التي كانت تقودها نحو القمة في السابق، ولسنا هنا في محفل البحث عن الأسباب، بقدر ما نسعى الى ترميم واقعنا، ونعي واقع مجتمعنا، ومكانته الحالية بين المجتمعات الأخرى، ومن ثم معرفة الثغرات التي لا تزال مبعث شدّ الى الأسفل بدلا من الارتقاء الى المجد كما تحبّذ الطبيعة التكوينية للبشر.
من أسباب شد الأمم والمجتمعات من القمم الى المنحدرات، إهمال الشباب، واعتماد النشاط الشكلي في الدعم، بعيدا عن الغوص في لبّ المعالجة الدقيقة.. مثلا هل قام الجهات والدوائر والمنظمات بدراسة أسباب تراجع الشباب، هل وضعت إصبعها على الجروح الفاغرة، ثم هل بادرت بتقديم العلاج اللازم، فعندما نقول بخصوص المجتمع العراقي أن شبابه يعاني من التهميش، لابد أن نحدد ذلك بدقة، ثم هل يكفي التحديد أم هناك خطوة أهم ونعني بها (بعد تشخيص العلّة) وضع العلاج اللازم والبدء بتنفيذه حرفيا؟.
الخطط الصحيحة المتقنة هي التي يضعها الخبراء المختصون والعارفون بشؤون هذه الشريحة الفاعلة، وهي التي تخضع للغربلة الدائمة، كي يسقط منها الرث، ويبقى فيها المضمون المفيد، ولعل من أهم ما هو مفيد للشباب الجانب التدريبي الذي يمنحهم مهارات إضافية، فالمهارات وحدها يمكن أن تمنح الشاب ميزة أساسية تجعل الشاب متميزا مختلفا عن سواه بتفكيره وعمله وعطائه، ولكن هناك نقطة مهمة في هذا المجال، ونعني بها نوع التدريب وفحواه وإمكانية منحه للشاب مزايا أساسية تجعله في المرتبة الأولى من حيث نوع الإنتاج ودرجة الإتقان فضلا عن الكمية، ولعل الدليل الأهم على تفوق الشاب في المهارات، يكمن في قضية الإنتاج نوعا وكمّا وإتقانا في والوقت نفسه.
التنظير والتطبيق في كفتيّ الميزان
عندما نسمع بالمهارات التي يتحلى بها شبابنا، فإن أول ما يتبادر لأذهاننا، القدرات المادية التي نجدها لدى هذا الشاب دون أن نجدها لدى الآخرين، مثال ذلك التميز في صناعة هذه السلعة أو تلك، بحيث يصعب على الشاب الآخر أن ينتج هذه السلعة نفسها بنفس المواصفات والقدرات والشروط من حيث المتانة والإتقان، فهل صحيح أن مهارة الشاب تنحصر في المجال العملي المرئي والملموس، أم هنالك نوع آخر من المهارات.
إن حجر الزاوية في موضعنا هذا، هو المهارات النفسية، وليس المهارات العملية التي يتميز بها هذا الشاب أو ذاك، فعندما نسمع بأن هذا الشاب ماهر في قيادة الطائرة أو السيارة، لا نجد ما هو جديد مثير في هذا القول، وسرعان ما يتبادر للمستمع أن هذا الشاب يتقن قيادة السيارة أو الطائرة من خلال قلة الحوادث التي يتسبب بها أو ربما لم يتسبب بحادث واحد طيلة حياته العملية، ولكن هل هنالك جانب آخر يدعم هذه المهارة المرئية الملموسة المادية؟.
نعم هناك دور حاسم لنوع المهارات النفسية التي يتحلى بها هذا الشاب عن ذاك، ولكي نكون على معرفة بتفاصيل هذا الموضوع، من المهم أن نأتي بمثال من الواقع، فمثلا العامل الذي يتمتع بمهارات ذهنية عالية، يكون أفضل من غيرة في مجال الإنتاج النوعي والكمي، فهو على سبيل المثال لا يعتمد على الجانب التدريبي العملي المكتسَب فقط، وإنما يكون مدعوما بجانب علمي نظري نفسي يساعده على تحقيق رؤية علمية نفسية جيدة للمجال الإنتاجي الذي يعمل فيه، بمعنى أوضح العامل الماهر عندما يعلم بخفايا العمل الذي يؤديه سوف يكون أفضل من العامل الذي يصنع السلعة نفسها ولكن بصورة آلية ومن دون فهم لبواطن الأمور.
كما ان العامل صاحب النفسية المستقرة المتوازنة غالبا ما يكون أكثر قدرة في الإنتاجية من أقرانه الآخرين، ذلك أن العنصر النفسي يمنح العامل ثقة اكبر بالنفس، وهذه القضية او الميزة سوف تنعكس بصورة جيدة على العامل من حيث نوع الإنتاج وكميته، فالشاب المدرَّب على المهارات النفسية سوف يكون أفضل من الشباب الذي لم يحصل على الفرصة نفسها.
هنا سيكون لدينا نوعين من الشباب وإن كانت المهارة في الإنتاج هي الرابط المشترك بينهما، أحد هذين النوعين شاب ماهر بالجانب الحرفي المجرد من الدعم النفسي المعنوي، والآخر شاب ماهر عمليا ونفسيا ما ينعكس على شعوره المعنوي الذي يضاعف من زخم إنتاجيته في المجالين العملي والذهني في وقت واحد، فيجعل منه شابا ماهرا في الإنتاج النوعي الكمّي المدعوم بالقدرات النفسية التي تزيد من استقرار الشاب وتنعكس على إبداعه في مجال عمله.
كيف يصبح الشاب ماهرا نفسيا؟
وبعد أن عرفنا الفارق بين عامل ماهر في الجانب العملي، وآخر ماهر في المجالين النفسي والعملي، صار واضحا لرب العمل، أن المهارات النفسية لا يمكن الاستغناء عنها إذا ما أردنا شابا ماهر في الإنتاج الأمثل، من هنا من المستحسن على الجهات ذات العلاقة، أن تهتم بصورة فعلية مدروسة ومنتظمة بتنمية المهارات النفسية للشباب، الى جانب تنمية مهاراتهم العملية أو الحرفية، من خلال الدورات التدريبية المتخصصة.
في واقعنا الملي بالعراق، هناك أرباب عمل متنورون، يفهمون ما هو المعني والمقصود بالمهارات النفسية، وهناك من يكرس كل جهوده على جانب التدريب العملي حصرا، من دون الاهتمام الى أوضاع العمال الشباب نفسيا، وقدراتهم ومهاراتهم في هذا المجال، وكما أفضت النتائج الميدانية، فإن إنتاج العامل المدرّب نفسيا وعمليا هو الأفضل من قريبنه الذي يتقن المهارات الملية فقط.
وفي دراسة ضمن استبيان تناول شريحة شبابية عاملة حول هذا الموضوع، حيث تم أخذ عدد من العمال الشباب من يتقن مهنته عمليا من دون اهتمام بالجانب النفسي، مقابل العدد نفسه ممن إدخال في دورات عملية ونفسية في نفس الوقت، وبعد الإطلاع على كمية الإنتاج ونوعيته من سلعة واحدة، تبيّن أن الشباب من حاملي المهارات النفسية تفوقوا على أقرانهم الآخرين ممن لا يهتمون بالجانب النفسي، فالدراسة المذكورة تناولت 30 شابا عاملا يتقن عملية الإنتاج بصورة آلية تدريبية، مقال العدد نفسه ممن يتقن المهارات النفسية الى جانب العملية، وكانت النتيجة تفوق هؤلاء على من لا يعبأ بإتقان المهارات النفسية.
وقد أكدت دراسات أكاديمية متخصصة، أن اهتمام أرباب العمل بالمهارات النفسية للشباب العاملين لديهم، ضاعف من أرباحهم، حيث يتعامل الشاب بأريحية وإقبال وتناغم مع العمل، فيما يؤدي الآخرون أعمالهم بعيدا عن الانسجام والتناغم النفسي في عملهم، لدرجة يظهرون فيها التذمر وكراهية العمل، ويمكن لرب العمل أو أي معني آخر أن يتصور طبيعة السلعة التي يتم إنتاجها بلا رغبة، إنها لا شك ستكون سلعة أقل جدوى وإتقان من تلك التي يتم صناعتها بأيدي عاملة شبابية ذات مهارات نفسية متوازنة.
اضف تعليق