التطور الفكري الثقافي يقوم على ثلاث ركائز، القراءة، المفكر أو المنتِج، ثم الإعلام المروّج للمنتَج الفكري أو الثقافي أو أي نوع من المضامين التي يتعاطاها الإنسان الفرد والجماعة، هل نفسر ماهية الفعل القرائي؟؟، إنه ببساطة وسيط لنقل الأفكار من المصنِّع الى المستهلك وهو هنا القارئ، أما المفكر أو المثقف أو الكاتب أو المؤلف، فينبغي أن يكون عقلا مائزا لا يشبه غيره من العقول، والتميّز هنا يتجه وفق بوصلة السمو الإنساني وليس العكس.
حين يحل الإعلام بين ثنائية المنتِج والمنتَج، فإنه لا ريب سيكون الوسيط الناقل والمسوّق، وهو يلعب الدور الحاسم في توسيع رقعة القراء إلى أوسع ما يمكن، وبأكثر عدد ممكن من المستهلكين للفكر، وبعد معرفة العناصر الثلاثة التي تشترك في عملية الكتابة وإنتاج الأفكار وترويجها، سنمرّ بعجالة على أهمية الكلمة، ثم نستبطن أسباب ومؤشرات ظاهرة يتفق عليها من يهمهم الأمر، وهي ظاهرة مجافاة الناس في مجتمعاتنا (الإسلامية العربية) للقراءة، وقد نحتاج الى التحليل وطرح بعض التساؤلات حول موضوع المقال.
هل تعاني مجتمعاتنا من قلة القراءة، سؤال قد يخضع لعملية إحصاء دقيقة، في لقاء متلفز مع شاعر وإعلامي معني بالقراءة، قدمته قناة بي بي سي عربي ضمن برنامج (كتاب في جريدة)، قال هذا الشاعر أن جميع ما تنتجه دور النشر العربية مجتمعة يفوق (6000) آلاف عنوان بقليل، وهذا العدد من العناوين موجَّه الى أكثر من (350) مليون نسمة تعداد العرب، ويضيف الشاعر نفسه، أن دار فرنسية واحدة تنتج العدد نفسه.
يضيف مقدِّم البرنامج أن كتابا واحدا يصدر في أحد الدور الأوربية، يُباع منه ملايين النسخ في غضون أسابيع لا أكثر، فيما يصرّح (أدونيس الشاعر العربي المرشَح لأكثر من مرة لجائزة نوبل)، بأنه يعاني من قلة اقتناء القراء للكتب الشعرية والأدبية، ولا ريب أن هذا التوقّع يشمل الكتب الفكرية، هذا المرور السريع بواقع القراءة وإنتاج الكتاب، وهو مدعوم بأدلة مستقاة من ذوي تخصص، لا يشكل لنا صدمة، لأننا في الحقيقة قد اعتدنا على ذلك، بل لم نعد نعبأ به، وربما حتى المعنيين بالأمر لم يعد يهمهم عدد القراء، أو عدد المؤلَّفات التي يتم انتاجها في بلاد العرب، ولا الكمية التي تُباع منها تلك الكتب.
في تصريح لكاتب يعمل ضمن كادر تحرير مجلة عراقية عريقة هي مجلة (الأقلام) التي بلغ عمرها عدة عقود، أعلن أن الدولة العراقية والوزارة المعنية بالثقافة، عاجزة عن تسديد أجور ومكافآت الكتاب العاملين في انتاج بعض المجلات العريقة في (إحدى دور النشر التابعة لوزارة الثقافة)، وأكد أن الكتاب يعملون بأسلوب العمل التطوعي لكي لا تلفظ تلك المجلات العريقة أنفاسها، فيما أقدمت الوزارة نفسها على تجميد أو إلغاء أجور الكتاب الذين يطبعون مؤلَّفاتهم في دور النشر التابعة للوزارة، السبب كما هو معروف ومعلن، حالة التقشف التي يمر بها البلد.
لماذا قلّة القراءة والبيع؟
أين دور المفكر في تفاصيل هذا المشهد، وأين تقع مسؤوليته، هل هو أحد أسباب الإخفاق، وكيف يمكن معالجة وتصحيح دوره، من أجل الارتقاء بالقارئ وحثه على الاقتناء والقراءة، بعد ذلك هل يحق لنا أن نسأل لماذا تدهورت نسبة القراءة بين القراء العرب الى حد يثير القلق؟، ثم أين السبب، وفي أي مجال يكمن، هل في ضعف القدرة الشرائية وارتفاع أسعار الكتب والمجلات، أم في ما ينعكس من مظاهر قلق واضطراب بسبب الأوضاع المتوترة في معظم الدول العربية كما هي الحال في سوريا واليمن والعراق ومصر وليبيا وسواها؟، نسبة البيع لماذا تعطينا مقدرا مثيرا من التساؤلات التي تدور كلها في فلك عدم القراءة؟.
قبل أكثر من خمسة عقود، كان أحدنا عندما يذهب من مدينة الى مدينة، أو يعود من مركز المدينة الى بيته، يرى منظرا لافتا لكن كان منتشرا بين الناس آنذاك، ونعني به أن نسبة عالية من ركاب السيارة يقرؤون كتابا أو صحيفة، في المقاهي سوف نلاحظ الشيء نفسه، وفي الحدائق والساحات العامة كذلك، لدرجة أن انتشار كتاب الجيب شكل ظاهرة في حينها، فالكل تقريبا كان يحمل هذا الكتيّب الصغير الذي يمكن حمله بالجيب، ما يعني أن النسبة الأكبر من الناس كانت لا تفارق الكتاب ولا تنقطع عن القراءة.
الآن كيف يمكننا أن نتخيل الأمر؟ هل الجميع يحملون معهم الكتب؟، ربما يقول أحدهم المطبوع الورقي لم يعد يساير الواقع أو يلائمه، ولنسلّم بهذا، ولكن هل رأيتم أناسا يقرؤون عبر الموبايل أو الحاسبة وهو متوجه الى عمله بسيارة الأجرة أو في المقهى أو في الحدائق العامة؟ هل لاحظتم أن الزاد الفكري للناس يكاد يضاهي الزاد الجسدي كما كان الأمر في السابق؟.
تُرى أين تكمن الأسباب، لماذا تغيّر واقع القراءة، ولمَ قل منسوب القراء، ولمَ باتت نسبة شراء المطبوعة مثيرة للتندّر أو الخجل؟، في الغرب يُباع كتاب لكاتبة او كاتب مغمور، فجأة تبلغ مبيعاته الملايين، أين يكمن السبب؟، لا شك هناك أسباب عديدة مثل ارتفاع المستوى الثقافي والوعي والقدرة الشرائية ونمط العيش المرفَّه وما الى ذلك، ولكن ثمة سبب يفوق جميع الأسباب المذكورة، ونعني به التسويق والترويج واستثمار الإعلام في إنجاح خطط الترويج.
تجارب في الترويج الفكري
وصلنا الآن الى صناعة الكاتب النجم، ودور وسائل الإعلام في ذلك، فمع كل مؤشرات وعناصر الإخفاق التي سبق التطرق إليها، يبرز لدينا ركن أساس من أركان الخلل، وربما هو الركن الأهم والأكبر في تحمّل مسؤولية تدني القراءة ونعني بذلك، الفشل في صناعة النجم، إذ لا توجد لدينا مؤسسات إعلامية قادرة على صناعة النجم، كما هو الحال في البلدان المتقدمة.
كذلك ليس لدينا خطط ناجعة لتسويق الكتاب، هناك برنامج يقدمه ناقد غربي في احدى قنوات التلفاز، اسم البرنامج (كتاب الشهر)، يقدم فيه قراءة نقدية للكتاب الجديد، وكان الناقد بعيدا عن المجاملة، يعتمد المعايير النقدية الحازمة، لدرجة أن قبوله للكتاب تعني مبيعات هائلة له، ورفضه للكتاب نقديا تعني فشل الكتاب ومؤلفه، لذلك كان المؤلف يرتعد خوفا من النتائج التي يخلص إليها هذا البرنامج عن مضمون كتابه، فأما الفشل والمبيعات الأدنى، وأما أن يكون الكاتب نجما من نجوم الكتابة، هذا مثال واحد لكيفية صناعة النجم في المجتمعات المتطورة.
إذاً هكذا يمكن أن يكون الحسم بالنسبة لدور الإعلام حول قلة أو زيادة القراءة، وهناك خطوات أخرى تدخل ضمن الحلول التي تسهم في الارتقاء بنسبة القراء وجودة الكتاب، ونجاح الترويج له، وهي في واقع الحال سلسلة من الخطوات المتلازمة مع بعضها، منها مثلا، تقديم الأجواء الملائمة للمؤلفين والمفكرين المبدعين، من خلال توفير الدعم المادي والمعنوي لهم، وجعلهم قادرين على أداء فعل الإنتاج الفكري من دون الحاجة الى المادة، أو السكن أو الاحتياجات الحياتية التي لا يمكن مواصلة التأليف من دونها.
هذه بطبيعة الحال ليست مهمة الدولة وحدها ولا الحكومة، بل هي مسؤولية جماعية، ينبغي أن يشترك فيها الأثرياء والتجار والعاملون في القطاع الخاص، فالكل يقع عليه جانب من المسؤولية للارتفاع المقبول بمنسوب الكتابة والتأليف وإنتاج الفكر، ولا شك أن الدولة والحكومة عليها دور مهم في دعم المفكر، وترويج الكتاب، والإسهام في التشجيع على الفعل القرائي المتصاعد.
اضف تعليق