السؤال المطروح في العنوان أعلاه يستوجب وقفة حقيقية، وإجابة لا تجامل الواقع أو تجمّله، فنحن بحاجة الى الوضوح والصراحة والشفافية في رصد مواطن الخلل والثغرات، حتى يكون بمقدورنا معرفة نقاط الضعف التي نعاني منها، ثم علينا الشروع الفوري في معالجتها، وقبل البدء في تحديد وتأشير مكامن الزلل في قضية التثقيف الاقتصادي، من المستحسن أن نعالج مضمون السؤال بدقة، وعلينا أن نجيب بدقة هل نحن نفهم الثقافة الاقتصادية، وما نسبة المثقفين اقتصاديا من بين العراقيين، هل نسبة جيدة أم محبطة؟.
من المهم أولا أن نفهم ما هي الثقافة الاقتصادية ومن هو المثقف اقتصاديا، هناك من يؤكد أن الاقتصاد بات المرتكز الأهم بعد المرتكز السياسي السليم والمبني دستوريا وفق الشرعية الشعبية التي يمنحها الشعب للحكومة، ولكن هناك ترابط وثيق بين جودة النظام السياسي وجودة الاقتصاد، حتى يمكن القول أن الثقافة السياسية الجيدة، تسهم في صناعة الثقافة الاقتصادية السليمة، ويرى مختصون أن البيئة هي التي تنتج السياسي الجيد والاقتصادي المثقف، ثم يتعاون كلاهما في إنتاج محفزات اقتصادية داعمة للشعب وللحكومة معا.
فما هي تحديدا هذه الثقافة وهل ارتباط بالثقافة العامة، أو منظومة السلوك المجتمعي؟؟، إننا نعني بالثقافة الاقتصادية، أن يكون الفرد والمجتمع مثقفا اقتصاديا، ويكاد يتفق العلماء المعنيون، على أن الاقتصاد يشكل حجر الزاوية في تطور الدول والمجتمعات، ويؤكد هؤلاء معادلة تقول، كلما كان الاقتصاد قويا متينا متوازنا، قائما على العلمية والحرفية، كلما كانت الدولة والمجتمع أقوى وأكثر تطورا، بمعنى هناك ترابط وثيق بين قوة الاقتصاد وتطور المجتمع، لهذا لا يمكن أن نجد اقتصادا متينا مبنيا على أسس علمية في دولة متأخرة، لسبب بسيط أن هذا النوع من البناء السليم مرتبط بصورة جوهرية بمفهوم الثقافة الاقتصادية.، فإذا كان عموم الشعب مسلحاً بثقافة اقتصادية سليمة، نستطيع أن نجزم بأن هذا الوسط العام يكون داعما جيدا للدولة ومؤسساتها الاقتصادية، وحتى تلك التي ترتبط بالأداء التنفيذي على الصعيدين الداخلي وحتى الخارجي، فالنجاح السياسي مرتبط بالنجاح الاقتصادي وكلاهما ينعكس على الآخر من حيث الجودة أو الرداءة.
قيمة المواطن المثقف اقتصاديا
هل يختلف المواطن المثقف عن غيره من الناس؟، سؤال يبدو بسيطا للوهلة الأولى، ولكنه يبقى سؤالا ذا أهمية قصوى، وإن كان الإجابة بديهية وواضحة، فالإنسان المثقف اقتصاديا أفضل من سواه حتما، ولكن أين تكمن الجودة والتميز، من الواضح كل الوضوح عندما نكون ازاء شعب مثقف من ناحية الاقتصاد، فلابد أن نكون إزاء دولة متقدمة مستقرة وقوية، لأننا من مجموع المواطنين المثقفين اقتصاديا، يمكننا أن نصنع اقتصادا قويا في دولة ستكون قوية بدورها.
قد تصح اليابان مثالا لكلامنا هذا، فالشعب الياباني يعيش في دولة ربما مواردها الطبيعية أقل بكثير من موارد الدول العربية والإسلامية على انفراد، ولكنها مع ذلك تمتلك اقتصادا ينافس على المراكز الأولى عالميا، لماذا تمكنت اليابان من المنافسة على مستوى العالم في مجال الاقتصاد وهي تمتلك موارد مادية وطبيعية أقل من مواردنا؟، ربما لا يحتاج الجواب الى عناء كبير، إن الشعب الياباني يمتلك ثقافة اقتصادية رصينة، منحت الدولة رصانة في باب الاقتصاد الذي انعكس بدوره على جميع المجالات الأخرى.
فهل عرفنا الآن أين تكمن أهمية المواطن المحصن بالثقافة الاقتصادية، بالطبع يقف وراء تميز اليابان مواطن من هذا النوع، حيث تبرز هنا قيمة المواطن المثقف اقتصاديا بوصفه اللبنة الصغرى للبناء، ومن ثم تبرز قيمة المجتمع المثقف اقتصاديا بكلّيته، ففي مثل هذه الحاضنة المثقفة، لابد أن ينشأ قادة اقتصاديون متميزون، ومن ثم يبرز قادة سياسيون، أو مخططون، أو عاملون في القطاع الاقتصادي الخاص، كونهم يترعرعون في وسط واعٍ في كيفية الموازنة بين الاستهلاك والإنتاج، وهذا سينعكس حتما على ثقافة الساسة وقادة النخب كونهم جزء من المجتمع، لهذا نلاحظ ان الدولة التي تتميز بمواطن ذي حصيلة ثقافية اقتصادية، لاشك أنها ستبني اقتصادها على ركائز سليمة، والسبب أن الشخص الذي يعيش بمثل هذه المجتمعات، ستكون لدية رؤية اقتصادية يقوم عليها تعامله وسلوكه ومنهجه الحياتي بصورة عامة، حتى في إدارة الشؤون العائلية سوف تكون لدية رؤية اقتصادية تنعكس بصورة جيدة على أفراد أسرته، وهذا يسهم في التأثير الجيد بالآخرين في مجال تطوير الثقافة بمجال الاقتصاد.
ما هي أهمية التكامل الثقافي؟
ولكن لابد من التنبّه الى أهمية عدم الانتقاء في هذا المجال، ولا يصح حصر هذا النوع من الثقافة في محيط معين، وحرمان الآخرين منها، فلا فائدة من الانتقاء في هذا الجانب، لأننا ينبغي أن نكون إزاء ثقافة جماعية يتحلى بها عموم الشعب، ذلك أن الثقافة الاقتصادية ينبغي ان تكون شاملة، لأن الجميع يحتاجها، بما في ذلك المثقفون أنفسهم، فلا يصح للمثقف مثلا ان يحصر نفسه في حيز محدد من الأفكار، ولابد أن يكون عارفا وفاهما ومتفاعلا مع المعلومات الاقتصادية التي تكمّل ثقافته الفكرية والأدبية وقراءاته الفنية والمسرحة وما شابه، فالمثقف في هذا الحالة يصبح موسوعيا، وتكون لديه خبرة في إدارة شؤونه الفردية والعائلية بطريقة اقتصادية ناجحة، وينسحب هذا الأمر على السياسي أيضا، فكونه ذا اختصاص في العمل السياسي لا ينبغي له أن يقتصر فهمه ومعلوماته على الأمور السياسية فقط، فالقائد السياسي الجيد ينبغي أن يكون مثقفا في الاقتصاد، حتى يستطيع من خلال هذا الفهم والإطلاع، أن يسهم برؤيته لتحسين الجوانب العملية التي تخضع لصنع القرار الاقتصادي، وبهذا فإن الثقافة الاقتصادية المجتمعية يمكنها أن تساعد على اتخاذ قرارات اقتصادية تصب في صالح الدولة، وتنعكس على الحياة العامة للمجتمع، كما أنها تسهم في ترصين مؤسسات الدولية الاقتصادية وحتى السياسية منها..
ولا شك أن هناك انعكاس لرداءة المستوى الثقافي في الاقتصاد، على عموم الدولة ودوائرها ومؤسساتها، والدليل على صحة هذا الرأي، أن هناك دولا متأخرة في الاقتصاد، يحكمها ويقودها أشخاص يجهلون ماذا يعني الاقتصاد، وهم لا يفقهون دوره في بناء الدولة القوية المتطورة، لسبب واضح، أن هؤلاء القادة هم أصلا نتاج مجتمع يجهل أهمية الاقتصاد، ودوره الأساس في بناء الدولة المستقلة المستقرة في الوقت نفسه، أما لو كان المجتمع برمته مثقفا في الاقتصاد فإن ذلك سينعكس حتما على قادته في المجال السياسي.
في الخلاصة، ليس هناك ريبة، في أن البيئة المثقفة في المجال الاقتصادي هي التي يحتاجها العراقيون اليوم، كون الثقافة الاقتصادية تسهم في تطور الحياة كلها ، لذلك عندما يكون السياسي والمثقف والمفكر والعامل والكاسب وعموم الناس مثقفين اقتصاديا، فإن المجتمع برمته سيحمل هذه الصفة المهمة التي تساعد على بناء مجتمع يفقه ماهية الاقتصاد، ويعرف ما هي أهمية الثقافة في هذا المجال، وسوف يتمكن أفراد هذا المجتمع من التعامل بدراية وفهم مع جميع الأمور المرتبطة بالقضايا الاقتصادية، ولاشك أن هذا النوع من المواطنين أفضل بكثير من أولئك الذين لا يفرقون بين الاستهلاك والإنتاج، ولا يعرفون كيف يديرون شؤونهم الفردية والعائلية، فكيف إذا تعلق الأمر بإدارة دولة ومجتمع بأكمله؟، من هنا تسهم الثقافة الاقتصادية في بناء دولة متطورة اقتصاديا، وهو ما سينسحب آليا، على تطور الدولة في الميادين كافة، ويبقى الأساس الأول هو المواطن المثقف الذي تنطلق منه علامات واضحة على مدى قوة الدولة واقتصادها، ومؤسساتها كافة.
اضف تعليق