القادة السياسيون الناجحون كما تؤكد التجارب المعروفة، هم أولئك الذين نجحوا في مسارين متساوقين هما مسار بناء الدولة، ومسار آخر مجاور أو موازٍ له وهو مسار بناء المستقبل السياسي للقائد نفسه، هذا التداخل بين المسارين يمكن أن نجده لدى القادة الناجحين الذين تمكنوا من بناء الدولة وبناء التجربة السياسية الذاتية لهم، فنجح هؤلاء بمعالجة المسارين المذكورين في وقت واحد.
أمثلة كثيرة يمكن أن نوردها في هذا المجال، منها على سبيل المثال تجربة غاندي في بناء الدولة الهندية وفي الوقت نفسه بنائه لشخصيته السياسية المتميزة، وصار كلا البنائين أو المسارين متداخلين مع بعضهما وداعميْن أحمدهما للآخر، فنجاح القائد في وضع الأسس الصحيحة لبناء الدولة وتطوير العوامل التي تصب في هذا الاتجاه، أصبح داعما لبناء الحاضر والمستقبل السياسي للقائد نفسه.
ما كان بإمكان غاندي لو لا تمتعه بالذكاء السياسي أن يزاوج بين الهدفين، فالساسة المحنكون، هم أولئك الذين يسعون بإصرار نحو بناء الدولة القوية، حتى يبنون حاضرهم ومستقبلهم السياسي بقوة، ويكسبون تأييد شعوبهم، فضلا عن دخولهم صفحة التاريخ الناصعة، إذا كانت جهودهم من النوع الذي يسهم في تطوير الدولة والمجتمع، وقد سجلت لنا صفحات التاريخ، كثيرا من المواقف المشرفة، لأولئك القادة والساسة الذين خدموا دولهم وشعوبهم بأمانة وإخلاص، فاستحقوا الخلود على مواقفهم ومساعيهم، التي تنم عن نكران للذات، وإيمان بالشعب والدولة التي ينتمي لها السياسي، ليس من باب التطرف، او المنحى العنصري، بل من واجب العاملين في السياسة، العمل بأمانة وإخلاص لبناء الدولة، وعدم تضييع الفرصة التي تتاح لهم، بسبب الانشغال في الصراع على المنافع والمناصب وتكديس الأموال وما شابه، لذا لا يمكن الجمع بين هدفين متناقضين في وقت واحد، أي لا يمكن للسياسي أن يجمع بين البحث والانشغال بمنافع ومزايا السلطة، وفي نفس الوقت أن يكون قائدا مثاليا لشعبه، فالسياسي الناجح هو الذي يبني الدولة ويبني المسار السياسي الذاتي في الوقت نفسه!.
نماذج لقادة سياسيين ناجحين
مثال آخر حول الجمع بين المسارين، بناء الدولة وبناء التجربة الذاتية للقائد السياسي، هذا المثال نجده أيضا في شخصية مانديلا، فهو قائد مكافح قضى القسم الأكبر من نضاله السياسي ليس في السلطة والتمتع بمزاياها، وإنما في الكفاح المشرّف ضد العنصرية، وقد قضى ما يقرب من ثلاثة عقود في السجن، ومن داخله كان يواصل النضال وقيادة الشعب وبعد تحقيق الانتصار الناجز على النظام العنصري في جنوب أفريقيا، ثبّت مانديلا أركان الدولة القوية التي كان يسعى لبنائها منذ أيام النضال الأولى وعلى مدى تاريخه النضالي، لقد نجح منذ بواكير تجربته السياسية في الدمج بين نجاحين هما بناء الدولة وبناء الشخصية السياسية الناجحة، لذلك نلاحظ أن مانديلا استثمر نشاطه في بناء الدولة ولم يفرط في هذه الفرصة كونه القائد المحنك والسياسي المخلص لأمته قبل أن يفكر بنفسه أو مصالحه الضيقة.
علما أن الفرص التي تتاح للقادة السياسيين لبناء الدولة، لا تبقى متاحة في أي وقت يشاء القائد، وانما هناك ظروف معينة تضع الفرصة المناسبة بين يديه كي يبادر بقوة لبناء الدولة، ولذلك ينبغي عدم خسارة هذه الفرصة والتعامل معها بحنكة وذكاء وإخلاص أيضا، فمن يخسر الفرصة التاريخية التي تتاح له لبناء الدولة، قد لا يحصل على فرصة أخرى، وقد تضيع فرصة بناء الدولة، أما المسؤول عن هذا الفقدان، فهو القائد السياسي الذي لا يستثمر الفرصة كما يجب.
في هذا الإطار يمكن أن نلاحظ ضياع الفرص الكثيرة والمتتالية لبناء الدولة العراقية، والسبب هو القادة السياسيين الذين تشغلهم المصالح الذاتية وحماية العرش والسلطة، ونسيان شرط بناء الدولة الداعم لبناء الحاضر والمستقبل السياسي للقائد، لذلك فإن المسؤول عن ضياع فرص بناء الدولة هم بعض الساسة العاملين في المجال السياسي، كما يحدث الآن في العراق، إذ من الواضح أن بعض من ينتمي الى الطبقة السياسية، خاصة القادة منهم، أي قادة الأحزاب والمنظمات والكتل والمؤسسات وما شابه، هؤلاء هم المسؤولون عن تضييع فرصة بناء دولة العراق القوية المصانة، فضلا عن مسؤوليتهم لاحتمالية تفتيت العراق وضياع فرصة بناء الدولة.
يضاف الى ذلك التفريط في فرصة بناء التجربة السياسية الذاتية للقادة أنفسهم، فهؤلاء خسروا أنفسهم أيضا، وضيّعوا الفرصة على أنفسهم عندما انشغلوا بالتوافه والمنافع الزائلة، وتركوا مهمة بناء الدولة خلف ظهورهم، فكان همّهم الأول كيف يحصلون على مناصب أعلى ونفوذ أكبر وأموال أكثر، ولم يتنبّهوا لشرط أساس ومهم في النجاح السياسي الذاتي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على النجاح في بناء الدولة.
أخطاء السياسيين في العراق
بإمكان المراقب أن يرصد أخطاء الساسة في العراق، وأن يميز بسهولة، بين قائد يسعى الى السلطة، وبين آخر يحاول أو يسعى في طريق بناء الدولة، فالنوع الأول هو السياسي الذي لا يعبأ بقضية بناء الدولة حتى بات هذا الأمر معروفا حتى لأبسط الناس فالمواطن البسيط يتحدث اليوم بصوت عال عن الأخطاء الكارثية التي يرتكبها بعض السياسيين بحق البلد، والسبب دائما، هو عدم التفكير خارج إطار المصلحة الخاصة، الفردية والحزبية معا، بمعنى هناك من يعمل في حقل السياسة لتحقيق مآرب وأهدافا شخصية، كجمع الأموال والاستئثار بالمناصب والتعيينات العائلية والحزبية وما شابه، غافلا ومتغافلا عن قضية أهم وأهداف اكبر، تتمثل في تعضيد مسار بناء الدولة المدنية القوية المستقرة، كذلك هناك من يعمل لصالح حزبه، أو انتمائه الأصغر، على حساب بناء الدولة أيضا، وفي كلا الحالتين، يتم تضييع الفرص المتاحة للبناء السليم للدولة.
أما النوع الآخر من الساسة ونعني به أولئك الذين يسعون لبناء الدولة، فهو موجود أيضا، ولكنه نوع نادر، وضعيف بسبب كثرة وطغيان النوع الأول على الثاني، فالملاحظ أن الساسة الباحثين عن المنافع السريعة هم أكثر بكثير من الساسة الذين يفضلون الفوائد بعيدة المدى، والتي تُسهم بقوة في بناء ركائز الدولة القوية المتطورة، وشتان ما بين هذا النوع وذاك.
لقد توافرت فرص ذهبية لبناء الدولة العراقية، وكان يمكن للقادة السياسيين أن ينجحوا في هذه المهمة، فالعراق كما هو واضح، حصل على فرصة تاريخية، في إطار وضع الأسس الصحيحة لبناء الدولة، وهذه الفرصة قد لا تتكرر، في حالة هدرها، وهذا يعني خسارة الفرصة الذهبية، وفي حقيقة الأمر هذا يعني خسارة بناء دولة العراق المرفّهة القوية المتطورة، وهي تعد خسارة للجميع، إذ لا احد يربح من هذه الخسارة، حتى أولئك الساسة الذين يتسببون بحدوثها، عن عمد أو بلا قصد، لكن في كلا الحالتين ثمة قصور في الرؤية والتفكير والعمل أيضا، يكمن في محدودية الأفق السياسي وانشغال القادة بالمصلحة الآنية التي غالبا ما تقتل الأهداف الكبيرة في مسار البناء الاستراتيجي للدولة.
في حالة التنبّه الى هذا الخطأ القاتل، من لدن قادة العراق، يمكن أن تتجدد فرصة بناء الدولة وفرصة بناء التجربة الذاتية للقائد السياسي، فالعراق الآن بحاجة إلى رجل الدولة وليس بحاجة إلى دولة الرجل الذي غادرها العالم منذ عشرات السياسيين، السؤال هل يعي ساستنا حساسية المرحلة الراهنة، وهل يخطر في بالهم أن الفرصة لبناء الدولة يمكن أن تضيع الى الأبد؟، هذا ما ينبغي على ساسة العراق الآن أن يفكروا وينشغلوا به، لا بالصراعات الفردية والحزبية من أجل منافع آنية قد تفتك بالجميع، عندما لا تضيع الى الأبد فرصة بناء الدولة العراقية المدنية المستقرة.
اضف تعليق