ها هي جموع الزائرين الكرام تودّع الحسين (ع)، عائدة من حيث أتت، بعد أن بقيت كربلاء المقدسة وجهتهم على مدار الساعة، فقد جاء إليها أحباب أبي عبد الله، سيد الشهداء، من كل بقاع العالم، ومن كل حدب وصوب، مواسين لهذا المصاب الجلل، وحلّوا تباعا على أهالي كربلاء، ضيوفا وأهلا وأخوانا وزواراً رحبت بهم الأرض قبل الإنسان.
فهؤلاء أحباب الحسين (ع)، السائرين على طريق المحبة والخير والإنسانية، هؤلاء الزوار الكرام، هم الأمل الأكبر في صناعة عالم أجمل وأفضل، من خلال إيمانهم بمبادئ الفكر الحسيني، ونشره في ربوع العالم أجمع، فلقد مللنا سفك الدماء، وعانينا من كثرة الصراعات، وصار السلام حلمنا، لكن التطرف ما لبث أن يتضاعف ويشتد أواره، حتى بات يكوى به الجميع، حتى من لا يد له في الأذى أو الشر.
فالأبرياء باتوا هم الأكثر عرضة للتكفير وموجات التعصب، وثمة من يسعى على الدوام لنشر هذا الفكر ويدعن صنّاعه حتى يبقى العالم قلقا متذبذبا حائرا، لا يتنبّه لما يحدث، بل يبقى مشغولا بمداواة الجروح وإيقاف الدماء التي يسفكها الإرهابيون في كل حين، فهناك من له مصلحة في جعل العالم مرتبكا غامضا يفتقر للوضوح، حتى يتفرغ هؤلاء لتحقيق مآربهم المعروفة سلفا.
إنهم أتباع الشر وهم يعودون الى فريق الشر الأول، هذا الفريق المجرم الذي حارب الرسول الأكرم (ص)، وسفك دم ذويه وأولاده وأحفاده، وأشاع منهج سفك الدماء والتعصب والتجاوز على الآخرين وحقوقهم وكراكتهم من دون وجه حق، هؤلاء الذين يعيثون اليوم فسادا في الأرض هم أتباع الفريق الضال نفسه، يأخذون فكرهم المسيء المتعصب من البؤرة نفسها، ثم يشيعون هذه الأفكار المتطرفة في العالم، كي يبقى حاضنة لهم ولأفكارهم.
ولكن هيهات يبقى الأمر كما يخططون ويرغبون، وهيهات يتركهم الخيرون يفعلون ما يشاؤون، فالمؤمنون لهم بالمرصاد، وما هذه الحشود المليونية التي غصّت بها كربلاء، إلا إشارة من آلاف الإشارات التي تؤكد للمارقين أن الصرع لا ينتهي إلا بهزيمتهم، وصنع العالم الأفضل والأجمل، العالم الذي يخلو من الأفكار المتطرفة وأصحابها، العالم الذي تسوده وتقوده قيم الخير والحق والتآخي والسلام.
خطوات عملية لردع الأشرار
في محاربة التطرف والتكفير، لم يقف المؤمنون عند حدود معينة، فالصراع بدأ منذ أن أشعل فتيله المارقون، أولئك الذين تنكروا للنبي (ص) وذريته، واستباحوا الدم الحسيني، وسبوا بنات محمد (ص)، ولم يتورعوا عن اقتراف أكبر وأسوأ الأفعال في حق ذرية الرسول (ص)، ومنذ ذلك اليوم انبرى لهم أصحاب الرسول وأتباع أهل البيت وصناع الحق ووقفوا بالضد منهم في القول والفعل.
فقد كان معسكر الشر يظن أنه بمقتل الحسين (ع)، انتهى كل شيء وحصلوا على ما يريدون وحققوا مآربهم وما يبتغون، ولم يعلموا إنهم بقتلهم وسفكهم للدم النبوي المحمدي الطاهر، إنما أقدموا على إشعال فتيل لا ينطفئ إلا بنهايتهم، ودحر قيم الضلال، والقضاء البات على فكرهم التكفيري المتطرف.
وقد نبهتهم السيدة (زينب الحوراء) حفيدة رسول الله (ع) منذ ذلك الحين بما اقترفته أياديهم وبالنتائج الشنيعة التي ستؤول لها أحوال الأشرار، كما جاء ذلك في خطبتها المعروفة وهي التي حملت لواء الإعلام دفاعا عن الحسين (ع) وفكره الإنساني العظيم، فلقد جاء في هذه الخطبة الخالدة للسيدة زينب:
(أتبكون؟ وتنتحبون؟ إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة؟ وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجتكم، ومدرة سنتكم؟؟.
ألا ساء ما تزرون، وبُعداً لكم وسحقاً! فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بِغَضَبٍ مِنَ الله، وَضُرِبَتْ عليكم الذلة والمسكنة.
ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيَّ كبدٍ لرسول الله فريتم؟
وَأَيَّ دَم لهُ سَفكتم؟
وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ انْتَهكْتُم؟
وَأَيَّ كريمة لهُ أَبْرَزْتُم؟
لَقد جئتم بها صلعاء، عنقاء، فقماء، خرقاء، شوهاء كطلاع الأرض ومِلئ السماء.
أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ مَطَرَت السماء دما؟ وَلَعَذاب الله أَخزى وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفنكم المهل، فإنَّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوتَ الثار، وَإِنَّ ربكم لبالمرصاد.
*من خطبة السيدة زينب عليها السلام ؛ لسان الثورة الحسينية).
ولا يزال السائرون في خط الشر يواصلون غيّهم ويصبون حقدهم على العالم أجمع، وليس فقط على أحباب الحسين (ع)، إنهم يعيثون فسادا في الأرض ويجعلون من العالم أشد وطأة على الفقراء والضعفاء والبسطاء وأحباب الله، لا لشيء إلا لكون بذرة الشر لا تزال مزروعة في نفوسهم وعقولهم، ولكن ثمة من يتصدى لهم، ويوقفهم عند حدهم.
فالشر لن يسود، والحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأصحاب الفكر النير وصناع السلام والوئام هم الأكثر سطوة وأكثر حضورا ممن يعاديهم من المتطرفين المتعصبين، فيد الحق أقوى وأطول من يد الباطل، وما نراه في كربلاء الحسين (ع) اليوم ما هو إلا صفعة كبيرة ومستمرة لصناع الموت، وما هو إلا صراع مستمر سينتهي فيه الأشرار الى أسفل السافلين.
معا لدحر المارقين
ونحن نودّع هذه الأيام الراسخة في الذاكرة الإسلامية والإنسانية، أيام المجد الحسيني الخالد، ليس أمامنا سوى التكاتف والتعاون والتآزر المستمر، لكي نُسهم جميعا في صنع عالم أفضل وأجمل، يأتي ذلك من خلال دحر فريق الشر، ممن يتعكز على الفكر المتطرف كي يشيع الخراب في الأرض، مستهدفا جميع الأطراف التي تنتمي الى قيم الخير، وفي هذا الإطار لابد أن تكون هنالك إجراءات فعلية وخطوات عملية تقف بالضد من أفكار التكفيريين المتعصبين الذين لا يجدوا ضالتهم إلا في عالم مرتبك تسوده الفوضى وتغيب عنه قيم العدالة والإنصاف واحترام الوجود الإنساني ككل.
إذا ونحن نودّع ذكرى استشهاد الحسن (ع)، حيث تعود ملايين الزائرين الى بلدانهم ومدنهم في عموم العالم، لابد أن نخرج بحصيلة عملية تُسهم في جعل العالم أكثر استقرارا وأمنا، من خلال اتخاذ الخطوات اللازمة التي تستند الى القيم الخلاقة للفكر الحسيني الإنساني في درء مخاطر الفكر المتطرف، ومن هذه الخطوات:
- أن نسهم جميعا في إجراء فعلي على تحويل القيم الإنسانية لوقفة الإمام الحسين (ع) من الشعارات الى التطبيق على الأرض.
- أن يتم تحديد بؤر الفكر المتطرف في عموم العالم.
- أن توضع معايير واضحة من مختصين مؤهلين ومكلفين رسميا للتفريق بين القيم الجيدة والقيم المضادة للبشرية.
- أن يكون هناك توحيد للجهود العالمية التي تقف بالضد من الفكر المتطرف.
- أن يسعى الأفراد كل بحسب قدراته ممن يؤمن بعدالة القضية الحسينية، الى نشر هذه القيم كي تبقى درعا واقيا من التطرف بأنواعه وأشكاله كافة.
- أن يتآزر الجهد الفردي والجماعي في المسار نفسه لتحقيق الهدف المنشود وهو دحر الفكر المتطرف.
- أن يسعى محبو الإمام الحسين في عموم العالم الى توحيد جهودهم لاسيما المسلمون منهم، وتقريب وجهات النظر وتقليص الفجوة الخلافية في الرؤية والسلوك إزاء التطرف.
- أن يكون السعي في إطار الانتصار للإمام الحسين (ع) ذا طابع سلمي يعتمد الإقناع قبل أي أسلوب آخر.
- أن يتم تشجيع الجميع بوسائل الإعلام كافة، على ترك التعصب وإثارة النزاعات الفكرية والعقائدية، ويشمل ذلك حتى المتطرفين من أجل تغيير أفكارهم بالجنوح الى السلم.
- أن نتخذ جميعا ونعني بهم المسلمين أولا، من ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) نقطة انطلاق متجددة لنشر قيم الخير في كل مكان يمكننا الوصول إليه، سعيا وأملاً في صناعة عالم أكثر عدلا وأمنا واستقرارا.
اضف تعليق