ماذا يحتاج العراق الآن؟، سؤال قد يبدو معتادا، مكرّرا، يطرقُ أسماعنا كثيرا، ولكنه على الرغم من كل ذلك، يبقى السؤال الأهم، لاسيما اذا وضعنا في حساباتنا الهدف الأسمى، وهو بناء العراق كدولة ذات طابع مدني، بنظام سياسي لا مركزي تعددي، دستوري، قادر على حماية حقوق وحريات المواطنين العراقيين من دون استثناء.
فالهدف الأول والأخير هو بناء دولة من هذا الطراز، تمتلك مواصفات الدولة التي لا تعيدنا الى الوراء، الى أزمنة (الفوضى والظلم والفساد والطغيان)، لقد جرّب العراقيون أنظمة سياسية عديدة تنطلق من بؤر فكرية مختلفة، ولكن الغريب حقا أن جميع تلك الأنظمة تلتقي في هدف واحد، هو البحث عن الامتيازات مقابل إهدار كرامة وحقوق المواطن العراقي.
اليوم بعد انفتح العراق على العالم، وبعد أن باتت له منظومة اتصال إعلامية متعددة القنوات والنوافذ تتيح للشعب الإطلاع على ما يجري في العالم، وعلى تجارب الأمم والشعوب وعلى أنظمتها السياسية وعلى طبيعة العيش الذي تتحلى به، فلم يعد من السهل غلق عيون هذا الشعب، أو محاصرة العقول، أو عزلها عن رؤية المحاسن التي تتمتع بها الشعوب والأمم في ظل أنظمة سياسية يحكمها صوت الشعب ورأيه وليس العكس.
بعد هذا كله لا مجال أمام الفساد وأصحابه مهما بذلوا من جهود لتدجين الشعب ومحاولة تطويعه، والحجر عليه ثانية في العزلة التي مارستها عليه تلك الأنظمة الفاسدة التي باتت في خبر كان، لا مجال لاعادة هذا الشعب الى الوراء، الى عهود الفساد والقهر السياسي والطبقي، نعم يوجد من يريد تخريب مؤسسات الدولة، وهناك كثيرون يخططون ويسعون لتخريب البنى الأساسية التي تقوم عليها الدولة العراقية المدنية.
ومن الواضح جدا للشعب وللمراقبين ما يقوم به المفسدون وما يبذله الفاسدون من جهود استثنائية لتدمير الدولة وإخضاع الشعب لرغباتهم وأهدافهم، ولكن هذا لن يدوم الى الأبد، خاصة أننا كعراقيين فتحنا أعيينا، وصرنا نفهم ما يجري بوضوح على الرغم من حالات التمويه الكثيرة التي يحاول الفاسدون من خلالها خلط الأوراق، حتى يبدو وكأنهم هم رعاة الدولة، وهم أنصار الفقراء، وهم الذين يتقدمون الركب للمحافظة على الدولة والسعي لبنائها.
إن ما يجري في الساحة العراقية بات من الوضوح، بحيث حتى أدنى الناس وعيا يفهم ما يجري في البلاد، ويعرف من هي الجهات التي تريد أن تبني الدولة ومن الجهات التي تسعى لتدميرها، لم يعد هذا الأمر خافيا او غامضا، ولم تعد تنجح ألاعيب الجهات والشخصيات التي تسعى لإعادة عجلة الزمن الى الوراء، لذا من الأفضل أن نتكاتف كي نبني الدولة بما يحقق العدالة الاجتماعية ويحمي الحقوق والحريات ويدعم النظام الدستوري الاستشاري التعددي، وهذه فرصتنا وينبغي أن لا نفرط بها، وهذه الفرصة الجميع معني باستغلالها بقوة.
لماذا الإصلاح؟؟
لقد جرب العراقيون أنظمة سياسية مختلفة، أنتجتها حواضن فكرية وانتماءات مختلفة، ولهذا صار الناس يفهمون من دون لبس، من يعمل لصالح الشعب والدولة، ومن هو عدو لهما، إن عمليات الفساد لا يمكن أن تُغطّى بأقوال أو أفعال غير صادقة، لسبب بسيط، أن الفعل الصحيح يُثمر عن نتائج صحيحة، والسؤال المهم هنا، اذا كان من يدّعي الحرص على بناء الدولة والنظام السياسي اللائق، صادقا في توجهاته، علما أنها توجهات الشعب وأهدافه، فلماذا فشل الجميع حتى الآن في القضاء على الفساد، ولماذا لم يستطع هؤلاء رغم قدراتهم من نشر الاصلاح، وفرض هيبة القانون والدولة على الجميع؟.
سوف نقول هنالك إرهاب يضرب الدول ومؤسساتها ويستهدف الشعب وممتلكاته وحياته برمتها، هذا مر صحيح وواقع، وسوف يُقال أن هناك أنظمة ودول تتدخل في شؤون العراق وتكبّل أيدي المعنيين ولا تسمح لهم ببناء الدولة المدنية، وهناك كما يُقال من يسعى لافشال النظام السياسي القائم في العراق، كل هذه الأسباب تنطلق من الواقع، وهي ليست أسباب مفتعلة، ولكن لو أن الطبقة السياسية وكل من يهمه أمر العراق، يعملون بجد وصدق وحرص وتحت قوة الدستور والنظام والقانون، ألم نكن قادرين على دحر كل تلك الاسباب القادمة من خارج العراق؟.
ولنفترض أن الذي جرى في العراق بعد نيسان 2003 كان أقوى من ارادة الطبقة السياسية وإمكاناتها، ولكن ما هي أسباب عدم الاستفادة من الوقت الذي يجري من بين أصابعنا وعيوننا وعقولنا من دون أن نعيره اهتماما، واقصد هنا كل الجهات والشخصيات والاحزاب والكتل التي اشتركت في ادارة السلطة والعملية السياسية في العراق، ثم لماذا يصر الساسة على إضاعة الفرصة تلو الاخرى، ولماذا ينظر ساسة من داخل الطبقة السياسية للعراق على أنه كعكة يجب أن يحصل على حصته منها، واذا لم يحصل على ما يريد فإنه يعيث فسادا في هذا البلد.
هذا المنطق أساء لكثير ممن يعملون في السياسة ويدخلون ضمن العمل السياسي، فمع كل ما يتحلون به من قدرات ومؤهلات وسمعة طيبة ورجاحة عقل، إلا أنهم لم يبذلوا ما في وسعهم، لتحقيق الأهداف الصحيحة التي ينبغي أن يتم تحقيقها بعد زوال الأنظمة الدكتاتورية التي دمرت العراق وشعبه، ومثل هذه الفرص قد لا تأتي دائما، فحريّ بمن يعمل في السياسة، على الأقل الشخصيات والجهات التي يثق بها الشعب، أن يستثمروا الفرصة لنشر الإصلاح وكبح الفساد والسعي المستمر في بناء الدولة النموذجية.
كيف نبني دولة مستقرة؟
سؤال نفكر به كثيرا، ونطرحه على أنفسنا كثيرا، والمناضلون، أولئك الذين خاضوا صراعا مع الحكام الجبابرة، هم أكثر الناس تمسكاً بهذا الهدف، الذي يقترب كثيرا من الحلم، المناضلون الذين واجهوا أكثر الأنظمة السياسية تعسفا وظلما، لطالما تمسكوا بتحقيق حلم الدولة القوية المستقرة القادرة على حماية حقوق شعبها، من خلال تعميق مبادئ العدل وخاصة مبدأ العدالة الاجتماعية.
ولكن هنالك مبادئ وخطوات مدروسة هي التي تقود الى تعضيد الدولة وجعلها قابلة لما نرغب، ومقاربة لما نحلم به، ولعل أول هذه الخطوات هو نشر الاصلاح ومقارعة الفساد والفاسدين والمفسدين، فالدواء الناجح للفساد هو الاصلاح الحقيقي، وهذا الهدف الأخير، لن يتمكن من تحقيقه غير الأباة الأفذاذ الصادقين في أقوالهم وأعمالهم ونواياهم.
ومن هذه الخطوات التي تدعم نشر الاصلاح، وتعمل حثيثا على بناء الدولة المدنية المستقرة هذه الخطوات الفاعلة:
- جعل الاصلاح وشعاراته موضع التطبيق الفعلي، وعدم الاكتفاء بالتحدث عنه في المحافل والتجمعات، من دون السعي لتحقيقه.
- عدم الاكتفاء برفع شعارات الاصلاح، فالأهم دائما هو تطبيقها.
- ارسال اشارات واضحة لمن يقف بالضد من بناء الدولة المدنية، ويسعى لتجذير الفساد في مؤسساتها، بأن هذه الأفعال مكشوفة.
- التركيز على المنهج الاستشاري في ادارة شؤون البلاد، وخاصة من السلطات الثلاث ومؤسسات الدولة المستقلة.
- وضع الأسس والضوابط الكفيلة في بناء النظام التعددي ووضع صمامات الأمان التي تمنع عودة العراق الى المربع الأول.
- تأشير مكامن الفساد، واصحابه، واعلان الحرب القانونية المحلية والعالمية ضدهما.
- تعد خطوة استعانة الحكومة العراقية بفرق تحقيق عالمية في الفساد خطوة في الاتجاه الصحيح وينبغي تعميقها.
- ينبغي أن تشترك جميع المنظمات المعنية بنشر الاصلاح ومحاربة الفساد في تحقيق هذا الهدف، ومنها منظمات المجتمع المدني، ولا ضير بتوجيه الدعوة الى المنظمات الدولية المستقلة للاسهام في هذا الهدف.
- العمل المستمر بإرادة قوية وتخطيط سليم على المضي قدُما في بناء الدولة الدستورية وتعضيد مؤسساتها المستقلة كمفوضية الانتخابات وما شابه.
- العمل المستمر على العمل الجاد بمبدأ التداول السلمي للسلطة، وتوزيع الثروات بعدالة، وقطع دابر المتجاوزين على المال العام.
اضف تعليق