التقاليد يمكن أن تكون اجتماعية، أو ثقافية، أو سياسية وسوى ذلك، وهي عبارة عن أفكار وسلوك تتراكم مع الوقت، فتكتسب حالة من الثبات في سلوك الفرد والجماعة، والتقاليد جمع تقليد وهو مصطلح يعني الموروث الذي يورث عن الآباء والأجداد، أي تقليد الأجيال في هذا المجتمع أو ذاك، لمن سبقهم من الأجيال في العقائد والسّلوك والمظاهر، ومع تقادم الزمن وتعدد الأجيال تتراكم هذه الأفعال والسلوكيات لتصبح تقاليد ثابتة من الصعب تجاوزها.
وتوجد لدينا العادات التي قد تقترب من التقاليد، ولكن ثمة فرق بين لفظيّ 'العادات' و 'التّقاليد' على الرغم من ارتباطهما معا، فالعادة أو العادات هي الأمور المألوفة والتي اعتاد الفرد على القيام بها دون جهد ولفترة زمنيّة معيّنة، أمّا التّقليد أو التّقاليد فيمثل الموروث الثّقافي لفرد أو قبيلة أو جماعة أو مجتمع ما عن الآباء والأجداد، فالفارق واضح بين العادات التي يمكن تغييرها أو إهمالها والإتيان ببديل أفضل لها، في حين أن التقاليد تنطوي على الثبات في الغالب.
ينحصر موضوع مقالنا هذا بالتقاليد الثقافية، ولسنا معنيين هنا بالتقاليد الاجتماعية او السياسية وغيرها، وحتى التقاليد الثقافية تتوزع على محاور عديدة، وقد خصصنا مقالنا هذا للتقاليد الثقافية التي تتعلق بإقامة الأنشطة الفكرية والأدبية والفنية في المنظمات المختصة، وماهية التقاليد التي تنظّم طبيعة هذه الأنشطة في أمسيات أو أصبوحات أدبية أو فنية.
فمثلما تقوم المنظمة الثقافية على أسس هيكلية تنظيمية لا يمكن إغفالها أو التخلي عنها، كذلك فإن الأنشطة التي سبق ذكرها، لا يمكن أن تُقام بطرق عشوائية، بل لابد من الاحتكام الى تقاليد ثقافية معتمَدة يتم الالتزام بها من أجل إقامة الفعاليات الثقافية المختلفة، وقد تتدخل هذه التقاليد الثقافية في أدق التفاصيل التي تتعلق بالنشاط الذي يتم تقديمه للجمهور، من أجل ضبط الفعالية الثقافية وإخراجها بالصورة الأفضل كي يتم تحقيق أكبر قدر من الفائدة للحضور المتفاعل.
لماذا نريد التركيز على أهمية التقاليد الثقافية، وماذا يحدث لو أن المعنيين تركوا النشاط الثقافي أو الفكري أو الفني يُقدَّم بصورة آلية أو عفوية، من دون تخطيط مسبق، وبعيدا عن الأطر والتقاليد المقيِّدة لتقديم الأنشطة الثقافية المختلفة؟، بوضوح ماذا يحصل لو تركنا الأمور تسير على طبيعتها من دون أن نفرض عليه تقاليد تحدد هذه الفعاليات، وتحدد سلوك الجمهور وفريق العمل الثقافي؟.
التقاليد وأنشطة المنظمات الثقافية
بعد الانفتاح في الإعلام، وتنوّع وسائل الاتصال، وبعد أن دخل العراقيون من عصر العزلة، الى عصر العولمة، وتعدد قنوات الاعلام، وصار العراق جزءا من منظومة الاتصالات العالمية، فدخل أولا الجهاز النقال (الموبايل)، ثم قنوات التلفاز العالمية عبر جهاز (الستلايت)، الذي بقي ممنوعا على العراقيين حتى عام 2003، ثم دخل الكومبيوتر و (اللابتوب) بصورة واسعة للسوق العراقية، وباتت طبيعة الحياة الوظيفية والعملية لا تستغني عن الوسائل الحديثة.
بدأت الحياة العراقية تتغير وتتحدث، لتصبح أجهزة الحداثة فعالة بقوة في الحياة اليومية وفي مجمل الأنشطة الحياتية ومنها الثقافية على نحو عام، فتأسست منظمات ثقافية مختلفة، من بينها ضمن منظمات المجتمع المدني، وصار متاحا للجميع، ولكل من يرغب أن يؤسس منظمة ثقافية تنشط في المجال الفكري والفني والثقافي عموما.
فبدأت هذه المنظمات الثقافية بتقديم فعاليات مختلفة، وبدأ الجمهور المتلهّف يتواصل في حضوره ونشاطه ومتابعته لهذه المنظمات، وكان الجمهور متعطشا لمثل هذه النشاطات، وهي بالفعل تعد من الظواهر الجيدة، ولكن رافقت هذا الجانب ما يُشبه الفوضى في تقديم وإدارة هذه الفعاليات، وبدأ الجمهور أو من بين الحضور، يُظهر عدم الاحترام للمحاضر، والموضوع، والمنصة، فينشغل عن المحاضر في كلام جانبي لمن يجاوره في الجلوس، او يطلق ضحكات عالية، او يحاول متعمدا أن يجلب له انتباه الحضور بحركات وأصوات معينة على حساب المحاضر وموضوعه الثقافي والفكري او الفني.
ضاربا هذا النوع من الجمهور بالتقاليد الثقافية عرض الحائط، وكل ظنه إنما يقوم بشيء طبيعي حيث يحتمي تحت أجواء الحرية التي نعيشها كما يتوهم، غير مهتم او مبالي او فاهم بأن هناك تقاليد ثقافية تحكم سلوك الجمهور الحاضر، الفرد والكل معا، ولا يصح أن نتجاوز هذه التقاليد لأنها تضعف النشاط الثقافي، وتهدد كيان المنظمة الثقافية.
وهناك خطر آخر يتمثل بتأثير التجاوز على التقاليد الثقافية في شريحة الشباب الصاعد، فهناك من بين جمهور الحاضرين نخبة من الشباب الذي يتطلع الى مستقبل ثقافي وأدبي وفني متميز، هذه النخبة الشبابية عندما تلاحظ التعامل مع التقاليد الثقافية باستخفاف من قبل أناس يكبرونهم في العمر والتجربة، فإن هؤلاء الشباب يتجاوزون على التقاليد أيضا من دون تردد.
وهذا في الحقيقة يشكل خطرا على الثقافة والفكر والفن، فبدلا من أن نغرس في نفوس وأذهان الشباب أهمية احترام التقاليد الثقافية في السلوك، فبعضنا قد يعطي صورة مغايرة وسلوكا هزيلا تجاه المنصة والمحاضر والنشاط المقدَّم للجمهور، وهذه الأفعال الرديئة التي تنم عن عدم احترام للثقافة والأدب والفكر، قد تنتقل الى الشباب وتكبر معهم، وتنتقل منهم الى الآخرين الأقل عمرا منهم كالفتيان والمراهقين.
مقترحات وحلول لاحترام التقاليد
احترام التقاليد الثقافية هدف ينبغي أن نسعى إليه، خاصة أصحاب التجربة، ولنكن واضحين في هذا الجانب، عندما نجلس ضمن مجموعة الجمهور، وتستقر المنصة أمام أبصارنا، يجلس وراءها المحاضر ومقدم الأمسية أو الاصبوحة، ليس لنا سوى احترام المنصة وفريقها، أما كيف نُظهر الاحترام، فإن أول علامات هذا الاحترام هو الإصغاء الجيد للمحاضر، والتزام الصمت، مع إبداء الاهتمام والمتابعة وعدم التحدث مع القريب والبعيد من الجمهور، بالإضافة الى عدم مغادرة مكان الجلوس وقاعة الفعالية.
هذا الاهتمام نوع من التقاليد التي لا مناص من تثبيتها في النخب الشبابية الصاعدة، حتى يسود هذا النوع من الانتباه والإصغاء والتفاعل مع المحاضر بين الجمهور ويصبح تقليدا لا تشوبه شائبة من أي نوع كان، كذلك عندما تبدأ المداخلات والتعقيبات وطرح الأسئلة، ينبغي أن تكون هذه العملية منتظمة وفق الأسبقية ويديرها مقدم الأمسية بطريقة منتظمة، كما لا يصح لمن يسأل المحاضر أن يغادر القاعة قبل أن يسمع الجواب عن سؤاله من المحاضر.
لماذا نركّز على هذه التقاليد، ولماذا نطالب بالانتباه والإصغاء وعدم تحرك الجمهور وأفراده من مكان آخر، وعدم الانشغال بالأحاديث وما شابه، وهل هناك خطر فعلي على الثقافة فيما لو تم ضرب التقاليد الثقافية عرض الحائط؟.
إن التركيز على حماية هذا النوع من التقاليد يهدف الى تنبيه المعنيين وكل من يهمه أمر الثقافة، الى خطر نمو اللامبالاة مع النسغ الصاعد من الشباب، لهذا كل الأخطار التي تبدأ صغيرة يمكن أن تنمو وتكبر وتصبح مشكلة كأداء يصعب الوقوف ضدها أو مواجهتها، لذا نضع بعض المقترحات إمام من يهمهم الأمر في هذا المجال:
- البدء بحملة إعلامية ثقافية تركز على أهمية احترام التقاليد الحافظة للثقافة فكرا وفنا وأدبا.
- تدريب الشباب منذ الآن على احترام هذه التقاليد.
- جعلها نسقا سلوكيا لا يجوز إهماله او التنكّر له.
- أن يكون الكبار في السن والتجربة نماذج للشباب في احترام الثقافة
- أن تحرص المنظمات الثقافية على تحقيق هذا الهدف الجوهري.
- أن توضع ضوابط صارمة لتطبيق خطوات ردع المتجاوزين بعد حملات التوعية.
- أن يشترك الجميع في تحمّل مسؤولية ترسيخ التقاليد الثقافية.
- قد ينظر بعضهم الى الثقافة وأنشطتها كأي شيء كمالي.. لذا فإن أي شيء يرتبط بها لا يستحق الاهتمام، كالتقاليد الثقافية مثلا.
- من المهم في كل نشاط ثقافي في المنظمات الثقافية التذكير بهذه التقاليد واحترامها.
- لا يصح الملل من ذكر هذه التقاليد والالتزام بها، احتراما للذوق والوعي والدور الكبير للثقافة في تقويم وتطوير المجتمع.
اضف تعليق