يختلق الغرب بين حين وآخر مشكلة ذات صبغة عنصرية ضد الجالية المسلمة في معظم الدول الغربية، فبعد الحجاب والنقاب وسلسلة من الممنوعات، يظهر اليوم حضر لباس البحر الاسلامي المسمى بـ (البوركيني)، وهو لباس يخفي أعضاء الجسد كافة من الظهور، على خلاف اللباس الأوربي الذي يُظهر أعضاء من الجسد، فقد عبر رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس عن دعمه لرؤساء بلديات فرنسية حظروا لباس البحر الاسلامي (البوركيني).
وكان عدد من رؤساء البلديات في فرنسا قد أقدموا على حضر هذا اللباس خلال الاسابيع الاخيرة ما اثار جدلا بين انصار تطبيق العلمانية في الفضاء العام والمدافعين عن حرية التعبير، فيما خالفت روما التوجه الفرنسي ورفضت حظر اللباس الاسلامي في البحر حيث اعلن وزير الداخلية الايطالي انجيلينو الفانو ان ايطاليا لن تحذو حذو بلدات فرنسية في حظر لباس البحر الاسلامي (البوركيني) على الشواطئ العامة، واعتبر الوزير في مقابلة مع صحيفة ايطالية ان القيود التي تفرضها فرنسا على النزول الى الشاطئ بلباس البحر الاسلامي غير بناءة لانها قد تؤدي الى نتائج عكسية.
أما رئيس الحكومة الفرنسية فقد قال (ان الشواطئ على غرار كل المساحات العامة يجب أن تكون خالية من المظاهر الدينية، مشددا على ان الـ بوركيني هو ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع مبني خصوصا على استعباد المرأة) ويرى أن هناك فكرة وراء هذا اللباس بأن النساء فاسقات وانه يجب أن يكن مغطيات بالكامل وهذا لا يتوافق مع قيم فرنسا والجمهورية. وأضاف مشددا على ضرورة (ان تدافع الجمهورية عن نفسها في مواجهة الاستفزازات).
ومن الواضح أن هذه التصريحات وما يقترب منها من آراء وتصريحات أخرى، أنها ذات صبغة عنصرية، بدأت في سلسلة قرارات تحاصر المسلمات بلباسهن، حيث شنت حملات ضد الحجاب، ثم منع النقاب، حيث تمنع فرنسا منذ العام 2011 وضع النقاب والبرقع في الأماكن العامة، بحجة أنها تسيء للحياة المدنية، متناسية مبدأ الحرية الذي قامت عليه الثورة الفرنسية ومبادئ الحياة القائمة على الحرية في عموم أوربا.
علامات عنصرية
وعلى الرغم من كل هذه العلامات ذات الصبغة العنصرية هناك من لا يزال ينبهر بما حققه الغرب من تطور كبير في المجال التكنولوجي والصناعات الاخرى متفاديا الخوض في مثل هذه القرارات ذات الاتجاه العنصري، ولكن أن نغض الطرف عن جانب، ونركز على جانب آخر، يدل على تغييب المعايير في الحكم على الغرب، فحينما تكون متطورا في الاطار المادي، ومتخلفا في الاخلاقيات والفكر الانساني، فإن هذا دليل واضح على وجود خلل في تركيبة المجتمع الغربي، بل وهو دليل قاطع الى حالة الانحدار السريع نحو الضمور والتلاشي، لأن الاصل في الوجود الانساني ليس الصناعة والماديات، بل الفكر والروح والعقل الذي يخطط ويفكر، لتحسين الحياة وتطويرها وجعلها محكمة بالمنهج الانساني المتسامح.
ولكن ما يحدث في الغرب لا علاقة له بالقيم التي تسعى للمساواة بين الناس بغض النظر عن هوياتهم الدينية او العرقية، إذ أن هناك تركيزا كبيرا على الجانب المادي والتطور التقني والصناعي، فيما يعاني الجانب الاخلاقي من الضمور والتراجع، بحجة حماية الحريات، ولعل المراقب يستطيع بسهولة أن يكتشف انحدار الغرب نحو الانحلال، حينما يطلع مثلا على تشريع الزواج المثلي في بعض الدول الاوربية، بحجة حماية الحريات الشخصية، وهو تبرير فاشل قطعا، لأن القيم السلوكية التي ينبغي حمايتها هي تلك التي تحافظ على كرامة الانسان.
واليوم تطفو على السطح مشكلة (البوركيني)، في تصعيد مستمر للمنهج العنصري في فرنسا على وجه الخصوص والدول الاوربية الاخرى، وعلى الرغم من ان هذا الحضر اثار آراء متناقضة بين الساسة وبعض المفكرين الفرنسين، ومنها من كان يرى بعدم تأثير هذا اللباس على القيم الفرنسية ولا يرى ضرورة لمثل هذا الحضر، لكن نحن ازاء آفاق مفتوحة على العنصرية التي قد لا تنحصر في فترة زمنية بعينها.
فالجالية المسلمة تعيش بشكل دائم في الغرب، وهذا يعني أنها ستكون مستهدفة في أي وقت يختاره الآخرون المعادون للاسلام والمسلمين، علما أن تشريعا كهذا يدل على خطأ تقع فيه المجتمعات الغربية، بخصوص التعامل مع الحريات الشخصية، كذلك تجعل الناس المنبهرين بحرية الغرب على وهم اكبر، حينما يتصورون أن جوهر الحرية الانسانية يكمن في مثل هذه التشريعات الشاذة التي تتناقض كليا مع الطبيعة الانسانية، بل على العكس فحرية اللباس أيا كان شكله وتصميمه يعد في عمق الحريات الفردية التي ينبغي أن تصان لا أن تُهدَر.
بالضد من استمرارية الحياة
ان منع او حضر (البوركيني) في عدد من البلديات الفرنسية هو اشارة عنصرية جديدة لا ينبغي أن يُنظَر إليها على أنها فعل سطحي او عابر، فهكذا تشريعات من هذا النوع لا تعبر عن وعي سليم، ولا عن تطور لدى المجتمعات الاخرى بالسير على خطى الغرب، لسبب بسيط جدا أن مثل هذه الاجراءات والسلوكيات والتشريعات، تقف بالضد من الطبيعة البشرية التي تأسست على قواعد فطرية سليمة، تأخذ صحتها وشرعيتها من قوانين الطبيعة، وقد تم اتخاذ قرار من سلطة تشريعية عليا في فرنسا خطوة في هذا الاطار، تخفف من حالة الاحتقان الذي أثارها قرار حضر هذا اللباس البحري (البوركيني) الذي لا يسيء الى المجتمع الفرنسي، ولا يهدف الى الاستفزاز، ولسنا هنا في موقع الدفاع عن هذا اللباس، بقدر وقونا ضد العنصرية ومع الحريات الحقوقية التي يرفع ساريتها الغرب في مناسبة او بدونها.
ان المغالاة في النظر الى طبيعة ما يرتدي المسلمون، مثل الحجاب، ثم النقاب، والبوركيني، ثم اتخاذ تشريعات ازاء ذلك بالمنع والحضر، انما يدل على عنصرية لا يمكن اخفاءها، ولا ندري بماذا فكر المشرعون لمثل هذه القوانين، حينما قاموا بكتابتها ثم التصويت على اقرارها واعلانها، مع انها تفصح عن شن حرب على استمرارية الحياة، وتتضارب مع طبيعة التكاثر البشري، والتقارب والتشجيع على حالة الاندماج، فليس هناك فوارق انسانية او اخلاقية بين الجنس البشري او هكذا ينبغي ان يكون الأمر.
خلاصة القول ان قرارات المنع والحضر في اللباس او سواه، وفرض هذا الحضر على جالية معينة كما يحدث مع المسلمين، لا يصب في صالح اوربا او المجتمع الانساني برمته، لأن اتخاذ قرارات وخطوات من هذا النوع يمكن أن ينحو نحو التصاعد مع مرور الوقت، فإذا كانت هذه الممنوعات والاستهدافات تشكل نسبة معينة في الوقت الراهن، فإنها سوف تتضاعف كثيرا في القابل من السنوات والعقود، وسوف يغدو مثل هذا السلوك شائعا، وربما مستساغا من لدن الاكثرية في المجتمع الاوربي، وهو امر يشكل خطرا على الوجود البشري وأخلاقياته ومبادئه التي ينبغي أن تنتصر للانسان لا أن تحاصره بالمحظورات والممنوعات المبتكرة.
اضف تعليق