تعاني العديد من شعوبنا ظاهرة اجتماعية مريرة تكرس العنف والعدوانية، ألا وهي: الصمت أزاء الجريمة، وتهيّب الفاعلين مهما كانت افعالهم، وعادةً ما نجد هذه الظاهرة في مجتمعات تشكو من ضعف عاملين أساس في توفير الامن الاجتماعي: الاول: القانون والثاني: القيم والمبادئ. فهنالك جرائم منكرة تقع مثل القتل والسرقة وغيرها، فرغم وجود شهود عيان او من يمتلك أدلة معينة، نلاحظ التنصّل عن الشهادة أمام القضاء، بل عدم الحاجة الى تدخل القانون والقيم والمبادئ في هكذا قضايا، إنما تُحل وفق قاعدة "البقاء للأقوى"...!
ولهذه الظاهرة او الحالة الاجتماعية، اسباب وعوامل عدّة؛ تاريخية ونفسية تصوغ ثقافة المجتمع وتطبع سلوكه وعاداته. في مقدمتها الظروف السياسية التي يعيشها ذلك المجتمع، فآثار السياسة الاستعمارية لها دورها في تشكيل هذه الثقافة، حيث القمع والتنكيل والإذلال، من مفردات التعامل مع الشعوب المستعمرة مما يولد حالة من رد الفعل العنيفة، او محاولة استعادة الكرامة المهدورة من خلال الاستقواء على الآخرين والتغطية على الثغرات النفسية، كلٌ حسب قدرته وامكاناته.
كما تأتي السياسات الديكتاتورية للأنظمة السياسية المتعاقبة، لتعلب دورها الرئيس في تكريس حالة العنف والقسوة ومنطق القوة في المجتمع، ففي هذه الحالة نكون أمام سياسة ممنهجة وعملية تثقيف واضحة المعالم، بدءاً بفتح ابواب السجون والمعتقلات وكتم الانفاس ومصادرة حرية التعبير، ثم الزجّ بالناس في حروب كارثية تصادر كرامة الانسان ومستقبله وتصنع منه دروعاً بشرية لتحقيق مكاسب سياسية معينة.
هذا الوضع ينعكس سريعاً على الوضع الاجتماعي ونظام الحياة بشكل عام، حيث نلاحظ البحث بقوة عن الشخصية الضائعة، لكن ليس في المكان الصحيح وعلى جادة الصواب، إنما من خلال ظواهر شاذة وخطيرة، تكون دائماً محل استنكار وإدانة الشارع العام، وبما أن الانسان مبني بالأساس على "العزّة بالإثم"، فانه يجد استخدام القوة أمر ضروري وحياتي في الدفاع عن شخصيته ومكانته الاجتماعية حتى وإن كان على باطل.
هذا في جانب الفاعل (الجاني)، أما عن الضحية والذي يقع عليه الحيف والظلم، ممن يواجه السكوت والصمت على جريمة تقع ضده، فان آثارها تكون كارثية ومدمرة، رغم القبول الظاهري بالأمر الواقع، لان السلوك المناقض للفطرة الانسانية لا يمكنه الاستقامة مع حياة الانسان مهما طال الزمن، وهذه معادلة ثابتة لا تتغير، يقرّها القرآن الكريم، لذا نجد التحذير من "الربا" رغم انه يمثل نوعاً من التعامل المالي بين اثنين او اكثر، وتتم في احيان كثيرة بالتراضي، ولعل ما نشهده من التعامل الربوي في البنوك خير دليل على ذلك، ثم لنلاحظ آثار هذا النوع من التعامل على الحياة الاجتماعية والنفسية وحتى الاقتصادية للمجتمع والبلد.
فاذا كانت لقمة العيش وتوفير السكن المناسب من خلال القروض الربوية، مما يمكن ان يبرره البعض ويجعله مسوغاً للقبول بهذا الواقع، فان الأمن على النفس والأهل من "الأقوى" هو الآخر يبرره البعض ويجعله مسوغاً للسكوت على عملية سطو وسرقة بسيطة، وحتى عملية قتل نفس محترمة بلا ذنب، ليصل الأمر الى كتم شهادة الحق والانتصار للباطل!
ولو نلقي نظرة خاطفة على مكانة هكذا مجتمع في الخارطة الاقليمية والدولية، نجد انه يعيش ضمن حدود بلد يعاني التخلف والتبعية والأزمات السياسية والاقتصادية. فالشخص الذي يجد نفسه غير قادر عن استيفاء حقه بالشكل الصحيح، ويشعر أنه معرض في كل لحظة للسطو والسرقة والاعتداء من "الأقوى"، كيف يمكنه التفكير بالابداع والتطور والاسهام في تقدم بلده، لانه يجد نفسه في محيطه الاجتماعي الصغير وسط معادلة أشبه ما تكون بـ "شريعة الغاب" رغم عدم وجود ملامح واضحة لهذه الشريعة في الظاهر العام، لذا يمكن تحديد عدة مساوئ لهذه الظاهرة على المجتمع والبلد بشكل عام:
الاول: فقدان الثقة بالقانون والنظام العام، لانه يقف عاجزاً عن التدخل في الوسط الاجتماعي وتقويم السلوكيات المنحرفة والانتصار للمظلوم والمنتهكة حقوقه من قبل "الأقوى". وعندما يكون هذا "الأقوى" هو صاحب الكلمة الفصل، فما فائدة القانون ومؤسسات الدولة للمواطن؟ وهذا بدوره يولّد حالة استسهال الجريمة وارتكاب الخطأ، حتى وإن كان بسيطاً، ابتداءً من حوادث السير والشجار بين الاطفال، وصولاً الى قضايا كبيرة.
الثاني: تراجع الحاجة الى العلم والمعرفة والثقافة، فاذا كان العالم والمثقف يجد نفسه، بعد مشوار طويل من الدراسة والتعلّم والبحث، انه امام معادلة تناقض المنطق والعقل، ويكون احياناً مجبراً على الانصياع للسياق الاجتماعي الموجود، فما الذي يحثّ الآخرين على سلوك هذا الطريق؟ حتى وإن سلكوه فان الهدف من هذا العلم لن يكون للصالح العام، إنما للصالح الشخصي، وربما يدور في خلد البعض – او الكثير- من المتعلمين والمثقفين هذا السؤال: هل يصح ان نضحي ونعمل نكدّ من اجل مجتمع خانع ينصاع لما هو نقيض للعقل والعلم؟
الثالث: وهو الأخطر؛ انحسار مكانة القيم والمبادئ في المجتمع. فبالرغم من اعتراف الجميع بقيم ثابتة مثل الصدق والامانة واحترام الآخر وغيرها، إلا انها تبقى مجرد لافتات جميلة تحفظ الظاهر العام، وإلا فان الالتزام بها يكلف أصحاب منطق "الأقوى" التنازل عما بلغوه من مراتب القوة والهيمنة على الآخرين. وهذا يجعل من الالتزامات الدينية والقيم والمبادئ، مجرد ممارسات قشرية لدفع الواجب والحرج، ولا تمت بصلة الى واقع الانسان ومنهجه وسلوكه في الحياة. وعندما يكون الاعتماد على منطق القوة، وليس للوجدان والضمير الذي تغذيه القيم والمبادئ، فمن الصعب الحديث عن حلول لمشاكل اجتماعية كبيرة مثل الفقر والبطالة وغيرها.
من هنا؛ تتبلور مسؤولية القانون، متمثلة في الدولة، وايضاً مسؤولية أهل الثقافة والمعرفة في مكافحة هذه الظاهرة الخطيرة والنائمة وسط المجتمع، من خلال سن قوانين رادعة للجاني ولمن تسوّل نفسه الاقدام على أي نوع من الجريمة، ثم تكريس ثقافة الحق والحقيقة في الوسط الاجتماعي، فالقانون لوحده ربما لا يكون العلاج الناجع على المدى الطويل لظاهرة من هذا النوع، إنما يجب ان يكون هنالك تبني كامل لثقافة الأمن والسلم الاجتماعي القائم على التزام القيم الاخلاقية والمبادئ الانسانية.
اضف تعليق