مرت السنوات بسرعة خلف بعضها، عقد ونيّف من الأعوام تراكضت خلف بعضها، بدأنا بعد نيسان 2003 بوجود جديدة لقادة جدد، حلّوا محل نظام الطاغية، ذلك الذي شكل امتدادا لحكومات الانقلابات العسكرية، والسيطرة على السلطة بالقوة الغاشمة، ثم بدء رحلة عذاب الشعب، بالتجويع والحرمان وفقدان مقومات الحياة في الصحة والتعليم والحريات، صفق الشعب للقادمين الجدد بعد نيسان، فماذا كانت النتيجة.
لم يتعلم الشعب العراقي من كبواته العديدة التي حدثت عبر التاريخ، فدائما يطمئن هذا الشعب لمن يأتي بديلا عن الحكم الذي سبقه، والسبب بسيط، ان جميع الحكومات التي رحلت كانت حكومات فاشلة، لم تعطي حق الشعب ولم تحترم مكانته، لذلك من حق الشعب أن يتوسم خيرا بالقادمين الجدد، وهذا الذي حدث بالضبط بعد سقوط نظام الطاغية في نيسان 2003، ورغم كل التضحيات التي قدمها العراقيون من أجل التغيير، إلا أن الثمار لم تكن كما هو متوقع.
وهذا هو الدرس الذي تعلمه العراقيون مع جميع النخب السياسية التي تعاقبت على قيادتهم، فالمعروف أن الانسان في الرحلة الطويلة للبشرية، تعلّم أن الثمار لا يمكن قطفها بلا مقابل، هذه البديهية غير قابلة للنقاش، فإذا ترغب بشيء جيد عليك أن تبذل من أجله ما يوازيه من جهد مادي او فكري أو مالي، بهذه المنهجية المسلَّم بها، استطاعت المجتمعات المتطورة أن ترسّخ مفهوم حكم الشعب المباشر لنفسه، وأن تجعله سائدا كمنهج حياة، بعد أن قدّمت ما يلزم من تضحيات جسام، لتحقيق هذا الهدف الحيوي، من دون أن تأبه بحجم التضحيات المادية او البشرية.
ولكن هناك من لا يفكر بالتضحية، ولا يرغب بتقديم اية خسائر لتحقيق احلامه، وكأنه ينتظر المجهول كي يأتي له بما يريد، وهذه هي الشعوب الأقل وعيا، فقد ظلّت أسيرة أوهام النضال والمناضلين وأحلامهم، وبقيت تتطلع الى الحاكم القوي وليس الدستور القوي، الذي يحل لها إشكاليات الحياة العديدة، ويرتفع بها من حضيض الفقر، والجهل، والمرض، الى سموّ الحياة الحرة الكريمة المرفّهة، وهكذا كان درس الفشل ماثلا امام الجميع، وقاسيا بنتائجه على الجميع، فالشعب الفقير بقي على فقره، واساليب القمع تبدلت بأساليب سرقة المال العام والاختلاس وانتشار اساليب العصابات، فبقي الشعب فقيرا، واغتنى اللصوص، وهكذا (عادت حليمة الى عادتها القديمة).
الحاجة لسلطة المؤسسات المستقلة
وعاد الى الحكم قادة لم يكن الشعب يقع يوما ما ضمن اهتمامهم، كما هو الحال مع حكام الانقلابات، أولئك الذين لم يخطر على بالهم سوى كيفية تحقيق مصالحهم وحماية الكرسي وامتيازات السلطة، والفارق الوحيد أن الطاغية تم تغييره باللصوص.
هكذا تقول قراءة الواقع العراقي، وعلى الرغم من النجاحات التي يتم تحقيقها في مجالات اخرى (غير السياسية)، إلا ان الفشل لا يزال قائما، علما من الغرابة بمكان ان لا يستغل القادة السياسيون مثلا نجاحهم في الانتصارات العسكرية، او في تطوير القطاع النفطي، ان استغلال هذا النجاح يمكن أن يقود الى تصحيح السياسة، وتغيير الوجوه السياسية بأخرى اكثر نجاحا.
والسؤال الوارد في العنوان، هل يحتاج العراق الى وجوه قيادية جديدة، جوابه نعم ان جميع مشاكل العراق يمكن حلها باستقدام وجوه ومؤسسات دولة قوية مستقلة تقود السلطة وليس العكس، اي لا يمكن السماح للسلطة ان تقود مؤسسات الدولة، فلسلطة وسحرها والشغف بها، تفسد السياسيين فيصبحوا وحوشا على هيئة بشر، وهكذا تحوّل المناضلون سابقا، الى حكام طغاة، وفقدت شعوبهم تطلعاتها وأمنياتها، بحياة تليق بكرامة الانسان، وأخيرا وصلت هذه الشعوب مع حكامها الى آخر المطاف، وأيقنت أن الحاكم حتى لو تدرّج على مصاعب ومهالك وتضحيات النضال، صعودا الى السلطة، فإنه نتيجة لسحر السلطة نفسها من جهة، وضعف التحكم بنوازع النفس ورغباتها من جهة أخرى، سيتحول المناضل سابقا، الحاكم راهنا، الى ذات أنانية سلطوية مغلقة، لاترى سوى منافعها ومصالح حاشيتها وذويها، فتسعى حثيثا لتحقيقها على حساب الشعب، وحقوقه، وثرواته، وحرياته ايضا، هذا ما أفصح عنه الواقع للأسف، والذي ينبغي أن يتم تغييره بأقصى سرعة كبديل عن الفشل، ولكن لا يمكن تحقيق مثل هذا الهدف الحيوي إلا عبر وجوه جديدة ومؤسسات دولة قوية ومستقلة.
لقد وصل الشعب العراقي الى حافة اليأس من قادته، والدليل المظاهرات الشعبية العارمة والمتواصلة منذ ست سنوات، ولكن هناك بصيص أمل بالتغيير، خاصة مع اجواء الانتصارات الكبيرة التي تحققت في الفلوجة وقبلها في الرمادي، واليوم تستعد قواتنا البطلة بكل تشكيلاتها للتوجه الى الموصل كي تطرد الدواعش من آخر معقل لهم ونلفظهم خارج العراق والى الأبد.
عودة الأمل بعد يأس
إن الامل يعود للعراقيين بعد يأس طويل، ولكن شرط أن لا تبقى الوجوه السياسية التي خربت مؤسسات البلاد منذ نيسان 2003 والى الآن، فقد أصيب الشعب باليأس من مناضليه، ومخلّصيه، وثواره، عندما اصبحوا حكاما، وسلمهم الشعب زمام اموره، وقيادته، ليصبحوا عليه، حيث الاختلاس، والسرقة، والاستحواذ على اموال الشعب، وثرواته، ليضاعف من ارصدة الحكام، وذويهم، وحاشياتهم، ويزيد من أطيانهم، ويخوتهم ومنتجعاتهم، في اوربا وامريكا وسواها، وكل هذه السرقات تتم على حساب الفقراء، يرافقها قهر، وقمع، وتقتيل، وتشريد وتهجير متواصل لشبابها خاصة، بصورة خفية واحيانا علنية، وكل من يحاول رفع صوته والاعتراض على حكامه، والمطالبة بحقوقه يعرف مصيره مسبقا.
فللسلطة سحرها، ولهؤلاء فرصة اغتنموها بالضد من أنفسهم، عندما أفسدوا، واهملوا احتياجات الشعب وتناسوا تضحياته، حتى بلغ السيل الزبى، وأيقن الشعب أن حكامه مرضى بحب السلطة، وأذلاّء لسحرها وامتيازاتها، فهم من اجل البقاء على كرسي العرش، والتمتع بنعيمه، يتمتعون بقدرات هائلة للخداع، وقد وصلت الشعب الى قناعة تامة، بأنه يجب أن تتحرك لكي يحكم نفسه بنفسه، وأن يأتي بوجوه جديدة أمينة على بناء الدولة وحماية حقوق الشعب بوسائل دستورية منضبطة.
نعود الى سؤالنا نفسه، هل يحتاج العراق قادة غير مجربين؟، ان العاقل سوف يجيب بنعم، خاصة في مجال ادارة اموال الشعب العراقي، وتوزيع المناصب، والهيمنة على الوزارات، وسلب استقلالية المؤسسات، ووضع الدوائر والمؤسسات والوزارات تحت رحمة وسلطة الاحزاب، فتقاسمت الغنيمة ليبقى الشعب في اتون الجوع والحرمان.
ولكن بعد مظاهرات الاصلاح وبعد ان وعت الجماهير ما هي حقوقها ومن الذي يتجاوز عليها، بات اليوم أمر تغيير الوجوه حاسما ولا رجعة عنه، خاصة ان جميع الساسة التي تمت تجربتهم قد فشلوا، حتى الجيد منهم اما انساق مع رهط الفاشلين والسراق، او التزم الصمت خوفا، وهكذا صار من الامور الحتمية تغيير الوجوه السياسية بمن هم افضل واكثر كفاءة وامانة من السابقين.
في الخلاصة، بعد انتصارات الفلوجة، وطرد داعش قريبا خارج البلاد، سوف تبدأ مرحلة سياسية جديدة، تقودها نخبة سياسية جديدة ايضا، بعد ان ايقن الجميع أنه لا يصح تجريب من تم منحه فرصة القيادة سابقا وفشل فيها، بعد أن اهمل الشعب، واهتم بنفسه واهله وحزبه، هؤلاء الساسة يجب أن تتم ازاحتهم الى الابد من المشهد السياسي ولكن هناك خطوة نتمنى ان تقوم بها الجهات المختصة، أن لا تترك كل من أساء للعراقيين حرا طليقا؟ وهذه مهمة الشرفاء الذين لا تنام عيونهم الأمناء على الشعب والارض والحريات والأمانة.
اضف تعليق